“هيرو، سمعتُ أنّك ستغادر بعد يومين، صحيح؟”
“يبدو أنّ الخبر وصل إليكِ.”
“بالطبع. فأنا من تخدم سموّه، وأعرف الأخبار أسرع من أيّ أحد.”
ارتفعت كتفا فريا بفخر، فيما ارتسمت على شفتي هيرو ابتسامة غامضة.
“هل يعيش هيرو في القصر بما أنّك ساحر البلاط الإمبراطوري؟”
“في القصر لا يقيم سوى أفراد العائلة الإمبراطورية.”
“آه، لم أكن أعلم ذلك.”
بدأت فريا تُدرك بجدية أنّ ساعة الفراق تقترب، فتمتمت بصوتٍ خافت. كان هيرو أوّل من عاملها بلطف منذ البداية.
ورغم أنّها اعتادت على الوداع في الميتم مرارًا، إلّا أنّ مثل هذا الموقف لم يعتد عليه قلبها بسهولة.
حين لمح هيرو ملامح الحزن على وجهها، بادر بالكلام سريعًا.
“ما هذا، فريا؟ تتصرفين وكأننا سنفترق للأبد.”
“لكنّ الأمور لن تبقى كما هي الآن، أليس كذلك؟”
“بالتأكيد لن تبقى كذلك، فريا.”
كان صوته منخفضًا جدًا فلم تتمكّن من سماعه. وفي تلك اللحظة خبا لهيب الموقد، واقترب أحدهم منه.
“سيدي هيرو، الموقد انطفأ. ماذا نفعل؟”
“دعني أساعدك قليلًا.”
تدفّق نورٌ أحمر من أطراف أصابعه، وإذا بالحطب الميت يتوهّج من جديد.
“شكرًا جزيلًا.”
أخذت المرأة التي تطهو العصيدة في قدرٍ ضخم تنحني له مرارًا. فريا في كل مرة تشهد ذلك، كانت تدرك من جديد أنّ هيرو حقًا ساحر.
“واو! سيدي هيرو، أنت مذهل!”
احمرّت وجنتاه بخجل، ولوّح بيديه نافيًا.
“مهارة متواضعة لا أكثر.”
لم يكن في المعسكر تقريبًا من لم يتلقَّ عونًا من هيرو.
فقد كان بارعًا في تركيب الجرعات التي تعين المصابين على الشفاء، وأتقن التحكم في الماء والنار.
“لكن هيرو ساحر عظيم!”
استمرّت مديحها، ولم يهدأ احمرار خديه أبدًا.
***
“كم هو مُقرف.”
انبعث صوتٌ بارد من فم هيرو وهو يلقي بعباءته البيضاء على الأرض.
اختفت ملامحه المعتادة الودودة من عينيه الحمراوين، ليحلّ محلها برودٌ قاتل. دخل خيمته إلى مكانٍ سري، ولم ينسَ أن يتلفّت خلفه قبل ذلك.
بإشارة من أصابعه، انبعث ضوء خافت بدّد الظلام.
كان المكان مكدّسًا بحيوانات مجهولة وأعشاب غريبة.
“بائسٌ أنت يا هيرو.”
فتح كتابًا ظلّ يدوّن فيه لسنوات، وأطلق تنهيدة عميقة.
كان هيرو الابن الأكبر لأسرة إيلايمس، التي أنجبت سحرةً عظامًا كُثر. كان جدّه وأبوه يحملان لقب الساحر العظيم، غير أنّه وُلِد ضعيف الموهبة.
‘أُعيّن هيرو إيلايمس ساحرًا خاصًّا لولي العهد لوكيوس مورسياني.’
كان هذا المنصب يُعطى عادةً بعد البلوغ. لكنّ الأمر أخفى خلفه مؤامرات ضخمة.
الإمبراطورة الجديدة “ميلادي”، التي أزاحت سابقتها، كانت تحتقر لوكيوس ومن يحرسه: هيرو و جيميني.
‘ظنّت أنّنا مجرّد ثلاثة أطفال عاجزين.’
لكنها لم تدرك أنّ ضعف قياس قوّة هيرو لم يكن إلا خللًا في الكريستال المستخدم، لا في موهبته الحقيقية.
‘ومع ذلك، ما زلتُ ناقصًا.’
راح يمرّر أصابعه على هوامش الكتاب، ووجهه يزداد قتامة.
الإمبراطور تجاهل تمامًا التهديدات اليومية بالسم والاغتيال التي كانت تستهدف ابنه. وكان على هيرو و جيميني أن يستنزفا كل ما لديهما لحماية سيّدهما.
‘ميلادي كانت شرًّا محضًا.’
حين غاب الإمبراطور للاستشفاء في الحمّامات، أغلقت أبواب غرفة لوكيوس ونوافذها وأضرمت النار لتقتله.
حُوصروا، وحاولوا النجاة بلا جدوى.
‘لا أظنّنا سنصمد أكثر.’
قال هيرو، فيما يد لوكيوس تلطّخت بدماءه وهو يضرب الباب بسيفه.
رأى هيرو حينها في عيني وليّ عهده مزيجًا من اليأس والغضب.
أعطاه لوكيوس قطعة قماش مبللة وقال: ‘لن أنسى وفاءكما لي ما حييت.’
جلس وسط الدخان مستسلمًا. كان قلب هيرو يتفطّر.
لوكيوس كان مقدّرًا له أن يصير إمبراطورًا، لا أن يموت هناك.
‘عندما أصبحتُ ساحره، أقسمتُ أمام ديانا …’
أقسم أن يضع التاج على رأسه مهما كلّفه الأمر.
“أية ذكريات تافهة تستعيدها الآن.”
تمتم هيرو ببرود. كان عليه أن يفي بمسؤوليته كالساحر الخاص للوكيوس، فهذا هو معنى حياته كلّها.
جلس مستقيمًا، رفع كمّه الطويل وكشف عن سحرٍ أسود منقوش على معصمه، وبدأ يترنّم بتعويذة مظلمة.
تلوّت أوصاله، وانبجس الدم القاني من النقش وهو يغرس مخالبه فيه.
“قليلًا بعد، وسيجلس سموّه لوكيوس على العرش بأمان.”
تدفّقت الدماء، وعيناه الحمراء غرقَتا بالسواد الكامل، بينما يلهج بتعاويذ غريبة.
“آه …”
في غمرة الألم، تسلّل إلى أذنه صدى أصوات.
‘سيدي هيرو، أنت رائع!’
‘هذه أول مرة أرى ساحرًا.’
‘ألا يؤلمك استخدام السحر؟’
خُيّل له أنّه يرى عينيها الخضراوين المشرقتين. ارتسمت ابتسامة صغيرة على وجهه رغم الألم، وما لبثت أن اشتدّت عذاباته أكثر.
***
غطّى الظلام الكثيف غابة الشمال.
كانت فريا تنظّف سيفها، تعيد ترتيب درعها، وتدحرج السجادة لتنفض تحتها.
“فريا، لم أعد أستطيع التنفّس من كثرة الغبار.”
تحدث لوكيوس وهو يتكئ على الطاولة يكتب رسائل.
“أعتذر يا سموّك. فقط أردتُ الاستعداد للرحيل.”
“همم.”
أوشكت الأعمال على الانتهاء: تحصين الحدود، إصلاح الأسوار. وغدًا سيعود لوكيوس إلى القصر.
“أنا مرهق.”
خلع نظّارته ووضع قلمه، بصوتٍ منخفض.
ارتجف ظهر فريا عند سماع ذلك.
فمنذ المغيب وهي متوترة، وعندما تذكرت أنّ دور الخدم أن يناموا قرب سيدهم ليكونوا على أهبة الاستجابة، ازداد ارتباكها.
‘كنتُ أفعل الشيء ذاته في خيمة آرتشر.’
كانت تحضر له الماء إن عطش ليلًا، وتعيده إلى السرير إن سقط أرضًا.
‘الأمر نفسه هنا.’
لكنها تذكرت أنّ معظم الخدم رجال.
‘لا بأس! فالخدمة ليست فيها حرج.’
حاولت إقناع نفسها بذلك.
ساعدته على خلع سترته، ثم حلّت أربطة قميصه الملتصق بعضلات كتفيه. احمرّت وجنتاها فجأة.
‘لماذا خطر ببالي مشهد الكهف الآن؟’
“لماذا تحمرّين و تزفرين هكذا؟”
ابتسم لوكيوس وهو يحدّق في وجهها عن قرب.
‘يا إلهي … ما باله يتصرّف هكذا؟’
كان مختلفًا كليًا عن صورة المحارب الدموي في ساحة القتال.
‘منذ تعافى من السم، تغيّر كثيرًا … بشكل خطير.’
وجهه المضيء تحت ضوء النجوم سحرها، فابتلعت ريقها.
“لماذا؟ هل أنا وسيم إلى هذا الحد؟”
“لا، ليس الأمر كذلك …”
تغيّرت ملامحه فجأة إلى قسوة.
“إذن تظنين أنّني قبيح؟”
“لا! سموّك وسيم … جدًا.”
ازداد بريق عينيه الزرقاوين وهو يلحّ: “هل أنا الأجمل من بين كل من رأيتِ؟ ها؟”
كان قريبًا جدًا وهي تحاول مساعدته على خلع قميصه، حتى كادت تسقط. ابتلعت ريقها ثانية.
‘ما فائدة سؤاله هذا؟’
فهو يعلم جماله.
“لماذا لا تجيبين؟”
“الأمر أنّ …”
في قلبها، كان الأجمل دومًا هو “لوس”، ذاك الشاب الباسم الرقيق. بخلاف هذا الأمير المخيف.
“تافهة.”
ألقى الكلمة ببرود، وخطف الرداء من على الكرسي وارتداه، ثم استدار بعيدًا.
اختفى في غرفة نومه، فأسرعت فريا لإطفاء الشموع و جلست في الزاوية، قلبها يكاد ينفجر. احتاجت إلى وقت طويل لتستعيد أنفاسها.
“آه … أخيرًا أهدأ”
لم تفكّر بالنوم في سريره.
‘إن فعلتُ فلن أنام لحظة.’
تخيّلت نفسها بجانبه، تنظر إلى صدره وكتفيه العريضين…
“آه …”
متى بدأت تُدركه بهذا الشكل؟ حاولت طرد الفكرة.
‘لا … إنّه فقط مرعب.’
دوّى بوق المساء، تبعه عواء ذئب بعيد.
“أنا منهكة.”
أسندت رأسها إلى العمود وبدأت تغفو. قاومت قليلًا خوفًا من إيقاظه بحركتها، ثم سقط رأسها جانبًا وغرقت في النوم.
بعد قليل، أزيحت الستارة بهدوء. خرج لوكيوس بخطوات خافتة، وجلس أمامها يراقبها مطوّلًا، ثم همس: “فريا … ماذا أفعل بكِ؟”
التعليقات