قال إيديليون الكونت إنّه سيعود قريبًا، لكن مضى أكثر من أسبوع وهو ما يزال مقيمًا هناك.
الجنود كانوا مبتهجين، إذ أتيح لهم أن يروا “سيلينا” – تلك التي تشبه زنبقة بيضاء متفتّحة – لوقت أطول.
حتى آرتشر ، الذي لم يكن يتحدث عادةً بهذا الشكل، بدا مأخوذًا بجمالها فقال: “فريا، وأنتِ أيضًا … ألا ترين أنه يجدر بكِ أن تخيطي فستانًا واحدًا على الأقل؟”
فأجابت وقد عقدت حاجبيها: “آرتشر، هل جننت؟! كيف سأعمل وأنا أرتدي فستانًا؟”
“صحيح … لكن، على أيّ حال، المعارك هنا شارفت على الانتهاء.”
فقد خرج لوكيوس على رأس الجيش، وقبل أن يتعافى تمامًا من أثر السمّ، هزم الأعداء الذين حاولوا مهاجمة الحدود.
والآن بات الهدف من قدومه إلى هذه الجبهة على وشك أن يتحقق.
وكان آرتشر قد عزم في نفسه أن يساعد فريا على أن تحيا حياة طبيعية عندما يغادرون.
قالت فريا بابتسامة مصطنعة: “إنه حقًا لأمر مفرح، أليس كذلك؟”
وكانت صادقة في قولها. فالقتال الذي يحصد أرواح الكثيرين يجب أن ينتهي بلا شك.
حين تنتهي هذه الحرب، سيعود آرتشر إلى مكانه الأصلي.
أما لوكيوس الذي تخدمه، فسيذهب إلى القصر.
هذا جيد جدًا. على الأقل لن أضطر لرؤية ذلك الرجل الغريب بعد الآن.
لكنها أحسّت في قلبها غصّة لمجرّد فكرة ابتعادها عن جانب لوكيوس.
أتراني تعلّقت به رغم كل شيء؟
هزّت رأسها لتطرد تلك الأفكار و مضت في طريقها.
كانت تتساءل: بأي شيء يمكنها أن تكسب قوتها؟ وأين تمضي بعد هذا؟
لم تجمع المال الكافي بعد، فعضّت شفتها بتوتر وهي غارقة في التفكير.
لكنها كانت تعلم أن عليها الآن أن تؤدي عملها قبل أي شيء.
“سأعود حالًا.”
اجتازت المعسكر مرتدية الثوب الجديد الذي أعطاها إياه لوكيوس.
وكان الفارق واضحًا بينه وبين تلك الثياب البالية المستعارة التي اعتادت ارتداءها.
ثياب للعمل … ومع ذلك صُنِعَت من قماش فخم كهذا!
كما أن جراحها التأمت سريعًا بفضل رعاية هيرو.
يا للحرج … لقد حسبته مجرد خادم بسيط في البداية!
لكنه لم يكن كذلك ، فقد كان ساحرًا مرموقًا.
“ساحر … حقًا!”
باتت ترى وسامته أوضح من قبل؛ شعره الأسود المتلألئ وعيناه المائلتان إلى الحمرة زادتا من جاذبيته.
ولم يكن عجيبًا أن يحظى بشعبية كبيرة في هذا المكان.
وفوق ذلك، هو لطيف أيضًا.
لكنها ما لبثت أن تذكرت برودة الأمير لوكيوس، فشعرت بوخز في صدرها.
لماذا أشعر هكذا؟
أليست من المفترض أن تفرح لأنها ستتخلّص من صرامته وكثرة أوامره؟
لقد كانت تخدمه في الميدان لأن الظروف لم تسمح بوجود خدم آخرين، لا أكثر.
من البداية، كان غريبًا. خادمة في هيئة خادم؟!
ثم تذكرت صورة لوكيوس واقفًا إلى جانب سيلينا.
لا بد أنهما سيتزوجان قريبًا، وستعود هي إلى حياتها الخاصة.
لكن تلك المرأة … لو تجرأت مرة أخرى فسأضع لها حدًا!
كانت الحروق على يدها قد خفّت بفضل هيرو، لكن ظل أثر باهت لم يختفِ.
وقد أزعجها آرتشر بحديثه المتكرر عنها.
وكأن الأمر يهم! لو رأى ما تركته الحرب من ندوب على جبهتي وظهري وساقي، لذهل.
تنهدت: “وما شأني أنا؟”
فهي تعلم منذ زمن أنها لن تحيا مثل بقية النساء العاديات؛ تكبر بين والديها، ثم تتزوج جارًا لها، وتنجب أطفالًا وتشيخ.
تلك حياة بعيدة كبعد مئة قطعة ذهبية عن متناول اليد.
لكن يبدو أن آرتشر لا يزال يحلم بذلك، وإلا لما تحدّث عن الفستان.
مع ذلك … لا أكره اهتمامه بي. غريب لكنه مريح … كأنه أحد من عائلتي.
وبينما كانت غارقة في أفكارها، أوقفها أحدهم فجأة.
“أوه، من هذه؟ أليست خادمة الأمير؟”
“… مرحبًا بك ، يا كونت إيديليـون”
“هاه، عرفتِني إذًا.”
كان الكونت واقفًا في منتصف الطريق. قميصه المزين بالدانتيل بدا ضيقًا، وأزراره على وشك أن تنفجر.
وجهه الدهني يفيض ابتسامة، لكنها أثارت في نفسها شعورًا غير مريح.
أين رأيت مثل هذه الملامح من قبل؟
خفضت نظرها فتذكرت شخصًا …
شايلو …
تلك النظرات الكئيبة التي كانت تتفحصها من رأسها إلى قدميها.
“في المرة السابقة ظننتك فتى. لكن سيلينا أخبرتني أنكِ فتاة جميلة، أليس كذلك؟”
كان صوته وديًا، لكن عينيه لم تكونا كذلك.
كان يتأمل صدرها الظاهر من فتحة القميص، ثم يطيل النظر إلى ساقيها البارزتين أكثر من الفستان.
لو أنه ظل مخطئًا لكان أفضل.
أومأت فريا باقتضاب، محاولة إنهاء الحديث.
“ألستِ راشدة بعد؟ هه؟”
“بلى، لقد بلغت سن الرشد”
وما شأنه بعمر خادمة تافهة؟!
لما همّت بالانصراف، عاد وتظاهر باللطف: “إلى لقاء آخر إذن.”
“نعم”
ابتعدت عنه بسرعة، لكن ظهرها كان يحترق من شدة الانزعاج.
***
حين وصلت إلى الخيمة، وجدت فوق الطاولة شيئًا مغطى بالقماش.
“ما هذا؟”
وصوت غريب يصدر من تحته.
رفعت القماش بحذر، فإذا بطائر ضخم يحدّق فيها بعينين صفراوين وريش أسود، ومخالبه حادة لامعة.
(غريب … كأني رأيته من قبل …)
رثت له وهو محبوس في القفص، ففتحت المزلاج.
خفق بجناحيه قليلًا، ثم خرج وجلس فوق الطاولة.
“مرحبًا.”
هزّ منقاره ردًا عليها. ورغم شكله المفترس، بدا هادئًا.
“ما اسمك؟ هل التقينا من قبل؟”
لم تستطع تذكر طائر مثله.
فوضعت أمامه بعض الخبز المهروس، لكنه لم يهتم.
“آه … إذًا أنت طائر لاحم.”
وبمجرد أن رأته، عادت إلى ذهنها ذكرى قديمة.
– فريا، ذلك الطائر يحب الثمار. وبعض الطيور تأكل اللحم فقط، وأخرى تأكل كل شيء.
– كل شيء؟ مثل ماذا؟
– مثلنا نحن … كل ما يقع تحت اليد.
ضحكت كثيرًا مع ذلك الصوت الذي كان يهمس لها، وصاحبه ينظر إليها بعينيه الخضراوين.
رغم أن ملامحه بهتت في ذاكرتها، لكن بريق عينيه ظل واضحًا.
همست: “لوس …”
فجأة طار الطائر وجثم على كتفها.
“آه …!”
شعرت بقلق من مخالبه، لكنه لم يؤذها.
كان ثقيلًا بعض الشيء حتى أنها استندت إلى الطاولة لتثبت نفسها.
“أوه، فريا … مدهش فعلًا.”
ظهر هيرو من خلف الستار مبهوتًا، وإلى جانبه لوكيوس الذي بدا متفاجئًا كذلك.
“ذلك الطائر شديد الشراسة عادة.”
ارتبكت فريا وقالت متلعثمة: “آ … أنا آسفة … فتحت القفص من دون إذن.”
انحنت اعتذارًا، لكن هيرو ابتسم.
“بل هو أمر غريب بحق. فالطائر لا يسمح لأحد بالاقتراب سوى الأمير.”
نظر إلى الطائر باستغراب، ثم قال لوكيوس بصوت حازم: “لوس، تعال.”
فما كان من الطائر الأسود إلا أن طار إلى ذراعه.
فتسمرت فريا، وقد سمعت الاسم الذي ناداه به.
“اسمه … لوس؟!”
ابتسم هيرو موضحًا: “نعم. إنه كبير في العمر أكثر مما يبدو. ولعلّه ثاني من رافق الأمير أطول مدة بعدي.”
صدفة ربما، لكنها أسعدت قلبها وجعلت عينيها تلمعان.
“إذن اسمه لوس … حقًا.”
نادته مرة أخرى، فطار إليها وجثم على ظهر الكرسي أمامها.
ابتسمت وهي تقول: “عجيب … لماذا يفعل هذا؟”
لكن الطائر الذي قيل إنه لا يطيع سوى الأمير، صار يحوم حولها، فشعرت بالارتباك.
قال لوكيوس ببرود: “هيرو، يمكنك الانصراف.”
“لكن يا سموّك ، لا ينبغي أن تجهد نفسك… حسنًا، كما تشاء.”
انحنى هيرو قليلًا لفريا ثم غادر.
وعاد الصمت يخيّم على الخيمة.
ابتعدت فريا عن الطائر رويدًا رويدًا حتى أخذت مسافة آمنة.
لماذا الجو محرج هكذا؟
راحت تعبث بحافة قميصها المصنوع من قماش فاخر، ثم قالت: “شكرًا لك على هذا الثوب.”
“لا حاجة للشكر. كان لأجل مظهري أنا.”
“…نعم.”
رغم أنها ظنت أنها اعتادت على برودة صوته، إلا أنها أحست بالحزن يتسلل إلى قلبها.
ثم رأت الطائر يدخل قفصه بنفسه ويجلس على المجثم الخشبي.
“ما أغربه … هل سيأخذ قيلولة؟”
أغلقت القفص برفق وأسدلت القماش فوقه.
“طيور كهذه … لا بد أنها تأكل اللحم، صحيح؟”
سألت لتكسر الصمت، لكن وجه لوكيوس ازداد عبوسًا.
“هل يؤلمك رأسك مجددًا يا سموّك؟”
اقتربت بخطوات حذرة، لكنها تعثرت قليلًا، فانزلق من تحت ثوبها عقد يتدلى منه تعويذة على شكل هلال.
قال بصوت حاد: “قفِي مكانك.”
“… عفوًا؟”
“لا تتحركي، ابقي هكذا.”
تجمدت في وضعية غير مريحة، وذراعاها ترتجفان.
اقترب منها لوكيوس بخطوات سريعة ومد يده المرتجفة نحو عنقها.
ارتعشت هي بدورها وحاولت التراجع، لكن قلادتها تعلّقت بيده.
كانت تلك القلادة أثمن ما تملك … كنزًا لم تفكر قط ببيعه، حتى في أسوأ أيام جوعها.
التعليقات