منذ ولادتها، لم يكن من المبالغة القول إنّ سيلينا إيديليون قد امتلكت كلّ شيء.
وُلدت كابنة كبرى لأغنى عائلة في الجنوب، وكانت تملك شعراً أحمرَ كثيفًا، وأسنانًا بيضاء متناسقة.
كان سلوكها المهيب وابتسامتها العذبة يحظيان بشعبية كبيرة، لدرجة أنّه كان يمكن أن يصطفّ النبلاء المُعجبون بها في طابور طويل.
لكن قلبها كان موجّهًا دائمًا نحو شخصٍ واحد.
‘لا أستطيع أن أنسى اليوم الذي رأيتُ فيه لوكيوس مورسياني لأول مرّة.’
كانت أصغر من لوكيوس بثلاث سنوات حين أمسكت بيد والدها ودخلت القصر، وهناك التقت بملاك.
شابّ بشَعرٍ أشقرٍ متلألئ، وشفاه حمراء، وبشرةٍ ناصعة، كان تمامًا كما تخيّلت وليّ العهد في أحلامها.
‘الإمبراطورة مورسياني.’
ذلك كان الهدف الوحيد الذي حملته سيلينا في قلبها منذ طفولتها.
وحتى الآن، كان كلّ شيء في رحلتها نحو الحلم يسير بسلاسة.
‘لأنّ لوكيوس لا يُبقي أحدًا إلى جواره.’
فهو لم يُبدِ أيّ اهتمام بالنساء، وانشغل فقط بالحروب.
و سيلينا رأت أنّ ابتعاده عن مجتمع النبلاء المترف أمرٌ جيّد.
‘حتى الشائعات الغريبة التي تُنسج حوله تعجبني.’
لأنّ وليّ العهد الذي رأته لم يكن أبدًا مثل هذه الوحوش الموصوفة. وكان يكفيها أن تنتظر اللحظة المناسبة وهي بجانبه.
كانت تؤمن بلا شكّ أنّها ستكون من تحتلّ مكانه في النهاية.
ولم تُفلح محاولات ميلادي و هارت القذرة في عرقلة حبّها.
‘طالما أنّ والدي يدعمه، فجلوس لوكيوس على العرش مسألة وقت فقط.’
لكن عند قدومها إلى هنا، ولأوّل مرة، شعرت سيلينا بالقلق.
فالكونت إيديليون اعتقد أنّ الخادم الجديد للوكيـوس كان رجلاً، غير أنّها عرفت من النظرة الأولى.
‘إنها فتاة بلا شك.’
امرأة يبغضها لوكيوس عادة، ومع ذلك يبقيها قريبة منه؟
لم يكن بوسعها أن تتجاهل ذلك.
‘تافهةٌ كهذه تتجرأ وتتفوه بترّهاتٍ عن إنقاذ لوكيوس؟’
حين وقع الهجوم المفاجئ، أبعدها لوكيوس و جيميني خارج الغابة.
كانت تبكي بحرقة لأنّ المطر منَعها من إنقاذه، لكن ما أغاظها هو أنّ تلك الحشرة أمضت ليلة كاملة إلى جانبه.
‘لن أسامح أبدًا.’
ولذلك سكبت الشاي الساخن عليها لتلقّنها درسًا.
فخدمها لم يكونوا يختلفون عن الماشية في نظرها، ولهذا لم تشعر بالذنب.
لكن حين رأت فريا لا تُظهر أيّ انزعاج رغم شدّة الحرارة، لم تشعر سوى بالامتعاض.
“حان الوقت لأن تعودي الآن. أحتاج للراحة.”
خرج لوكيوس مرتديًا ثيابًا نظيفة وأصدر أمرًا واضحًا لطردها.
في الحقيقة، لم تُرِد أن تتركه مع تلك الخادمة المريبة، لكن رغبتها في إظهار صورة مثالية أمامه جعلتها تُنزل رأسها برشاقة.
“أتمنى لك الشفاء العاجل، يا سموّك.”
وحين غادرت سيلينا، خيّم الصمت على الخيمة.
أخفت فريا يديها خلف ظهرها وأخذت تراقب الوضع.
“سموّك، هل أنتم بخير؟”
“لو لم أكن بخير، هل كنتُ سأقف هنا؟”
نظرت فريا إلى ملامحه المليئة بالانزعاج وهي تضغط لسانها بأسف. لقد ندمت أنّها قلقت عليه حتى أثناء رقوده.
“سمعتُ أنّ الكونت وابنته هم من أنقذاني، أليس كذلك؟”
جلس لوكيوس مستندًا إلى الأريكة في منتصف الخيمة وتكلّم. ترددت فريا قليلاً أمام سؤاله.
‘هل أخبره بالحقيقة؟’
ربما يمنحها مكافأة سخية لو علم، لكن بما أنّه يعرف الأمر على هذا النحو، فما الداعي لإنكاره؟
إن اعترفت، فقد تضطر لشرح كل ما جرى في الكهف.
‘قد أنطق بما لا يجب.’
وبما أنّها لم تكن بارعة في الكذب، قرّرت التظاهر بالجهل.
عضّت شفتها المتشققة وهمست بصوت ضعيف: “… نعم.”
“كما توقعت. يجب أن أمنح الكونت إيديليون مكافأة سخية.”
عند كلماته، لم تستطع فريا إلا أن تتخيّل ذاك الذهب الثمين يتبخّر في الهواء.
‘هل كان عليّ أن أقول الحقيقة؟’
ارتبكت وهي تغرق في تفكيرها، فبادرها بالسؤال: “إذن، ماذا كنتِ تفعلين حين تعرّضتُ للهجوم؟”
ارتجفت عيناها في اضطراب.
كذبت لأنها لا تجيد الكذب، والآن يلاحقها ذلك.
“ألم أسألكِ ماذا كنتِ تفعلين …؟”
حاولت فريا أن تختار أقرب شيء إلى الصدق: “حين سمعتُ أصوات قتال، اختبأتُ، ثم احتميتُ من المطر داخل كهف.”
ضيّق لوكيوس عينيه وابتسم ابتسامة غامضة.
فتجنّبت فريا نظره وانشغلت بترتيب الطاولة.
“أكان هناك كهف في تلك الغابة؟”
“نعم، كان مغطّى بالأدغال.”
أجابت وهي تتجنّب النظر مباشرة إليه.
كح-
فجأة، سعل لوكيوس بعنف، فالتفتت فريا بسرعة رغم عرجها.
“يبدو أنّكَ لم تتعافى بعد.”
“يبدو أنّ الكونت لم يعتنِ بي كما ينبغي. لا مكافأة له إذن.”
تجهمت فريا عند سماع تذمّره.
‘أن يخطئ في أمرٍ ما لا بأس، لكن هذا حقًا غير عادل.’
فهي من تحمّلت الألم بسبب إنقاذه.
كانت قد حملته حتى الكهف رغم إصابتها، وبدّلت ملابسه لئلا يسوء وضعه وهو مسموم.
‘لولاي أنا، لما كنتَ حيًّا الآن!’
ولولا ذكاؤها حين سمعت خطوات غريبة، لانكشف مكانهما بسبب أنينه.
التفكير بما كان سيحدث بعدها جعلها ترتجف.
‘لقد فعلت كل هذا لأجل إنقاذك …’
ارتعش رأسها من الذكرى، ورفعت يدها لتلمس شفتيها من غير وعي.
“ما خطب يدكِ؟”
ثبتّ عيناه الحادّتان على يدها.
أخفتها بسرعة وهي تتردّد.
‘هل أقول الحقيقة؟’
لكن لوكيوس اقترب وأمسك معصمها بشدّة، رافعًا يدها.
وانساب الغضب من صوته البارد: “لقد أُحرِقتِ.”
مع أنّها المصابة، إلا أنّه بدا مرعبًا أكثر.
“كنتُ أُحضّر الشاي وارتكبتُ خطأً.”
لم تُرد تضخيم الأمر.
فحتى لو قالت الحقيقة، فمَن سيصدّقها أمام ابنة الكونت؟
“هذه الإصابة ستشفى سريعًا.”
تألّمت من قبضته القوية فأفلت يدها في النهاية، ثم نظر إليها بصرامة واستند بقسوة إلى الأريكة.
“لا أحبّ أن يكون رجالي مهملين. احذري في المرة القادمة.”
“… حسنًـا.”
“على أيّ حال، تعالي هنا.”
سعل قليلاً ثم أشار إليها بالجلوس بقربه.
“من شدّة السم، لم أستطع استخدام ذراعي في البداية.”
أشار إلى ذراعه وقطّب جبينه.
“لا بدّ أنه كان سمًا خطيرًا، بما أنّ جيميني أيضًا تأذّى.”
شعرت فريا بعرق بارد؛ الذراع التي يشير إليها كانت تلك التي ظلّت مستندة عليها طوال الليل.
‘هل تيبّست ذراعه بسببي؟’
لو عرف الحقيقة، لأشهر سيفه المعلّق على الحائط فورًا.
‘لا، لا يجب أن أفكر هكذا.’
هزّت رأسها بسرعة.
“هيرو يحلّل نوع السم، وسنحصل على الجواب قريبًا.”
“هذا مطمئن، علينا الحذر كي لا يتكرر الأمر.”
“لكن رغم أنكِ بقيتِ في الكهف، تبدين مصابة بكثرة.”
تفحّص جسدها المليء بالجروح غير الملتئمة.
ابتلعت ريقها بصعوبة.
“اصطدمتُ بوحشٍ شرس حين دخلت الكهف.”
الكذب جرّ وراءه كذبًا أشد.
“… أيّ وحش؟”
“كان كبير الحجم … وفراؤه أصفر فاقع؟”
ارتبكت، وتلعثمت أنفاسها.
ولمّا أدركت أنّها اخترعت وحشًا لا وجود له، ازدادت اضطرابًا.
لكن لوكيوس استند بهدوء وقال: “وحش بفراءٍ أصفر إذًا …”
ولم يكن صوته صارمًا هذه المرة، بل بدا أنّه يكتم ضحكًا.
‘ألم يكن غاضبًا منذ قليل؟ ما به الآن؟’
هل جنّ؟ أم أنّ السم أثّر في عقله؟
كلاهما مخيف على حدّ سواء.
تابع السعال وهو ينظر مجددًا إلى يدها.
“حين يأتي هيرو، أريه جرحكِ.”
“لا داعي، لستُ أستحق علاج السيّد الساحر.”
فالساحر الأعظم لا يعالج إلا من وُكّل بحمايتهم.
‘ثم إنّ مثل هذه اللطف لا يليق به.’
شكت في نيّته، لكن لوكيوس وضع يده على جبينه وهمس: “إن تأذيتِ، سأشعر بالضيق.”
“آه، صحيح.”
إذًا لم يكن لأجلها، بل لأجله هو.
‘كلامك دائمًا ما يثير النفور …’
بدأت تفهم المثل القائل إنّ الصمت أحيانًا خير.
فهو دومًا على هذا النحو.
‘يفقد المرء القليل من المودّة القليلة أصلاً.’
أرسلت له فريا نظرة متبرّمة بينما كان مغمض العينين متكئًا على الأريكة.
التعليقات