لم يكن يجب على أحد أن يعرف أنّها قضت الليل في أحضان لوكيوس.
خصوصًا يجب أن يبقى هذا سرًّا عن سموّ الأمير لوكيوس.
العنق الذي أُمسك به بالأمس كان يحكّها بغرابة. كان وقع اليدين الخشنتين اللتين أمسكتا بها بقوّة، وإحساس الشفاه الساخنة التي اصطدمت بها مرارًا، حيًّا أكثر من اللازم.
‘ذ- ذلك فقط لأنّ سموّه كان مريضًا.’
لم يكن سوى تماسّ جسدٍ بلا أيّ معنى. لم يكن له أيّ علاقة بما رأته يومًا في الشارع من قبلة عاشقين.
‘لقد كان هناك ظرف يبرّر ذلك.’
هي التي بادرت بلمس شفتيه فقط كي تمنعه من إصدار صوت. وبينما لم يسألها أحد، ظلّت فريا تلوّح بالاعتذارات في داخلها وهي تعضّ شفتها السفلى بلا سبب.
“ما هذا كلّه.”
عندما تنفّست الصعداء، تسلّل الدم الأحمر من شفتيها المجروحتين.
ثمّ وقع أمر غريب.
كادت تترنّح لتسقط، فإذا بها تسمع صوتًا يناديها من بعيد.
‘هل هو وهمٌ سمعي؟’
لم يكن هناك من قد يخرج للبحث عنها. فريا واصلت السير إلى الأمام دون أن ترفع رأسها.
“فريا!”
وهذه المرّة بدا الصوت قريبًا جدًا، وإذا بأحدهم يرفعها فجأة بين ذراعيه. فسقط العصا الخشبي الذي كانت تستند إليه على الأرض.
“… أه، آه.”
“أيتها الفتاة! ما الذي حدث لكِ؟ ما هذه الحال؟!”
ملابسها المبتلّة بالمطر لم تجفّ بعد، وكانت مغطّاة بالدم والطين. شفاهها ممزّقة، وتحت عينيها سواد قاتم. كان منظرها أسوأ ممّا رآها أوّل مرّة، فارتفع صوت آتشر بغضب.
“… آرتشر.”
“لماذا تقلقينني هكذا دومًا؟ ها؟”
بعد أن سمع عن حادثة الهجوم بالأمس، لم يغمض آرتشر جفنًا طوال الليل.
كان المعسكر مضطربًا لأنّ سموّ الأمير لوكيوس لم يعد بعد، ولم يصل أيّ خبر عن فريا.
وحدها الآنسة سيلينا من إيدليون عادت بصعوبة لتنقل تفاصيل الهجوم، لكنّ الأمطار الغزيرة التي هطلت فجأة دمّرت الجسر المؤدّي إلى الغابة ، فلم يتمكّنوا من إرسال فرقة إنقاذ.
“آرتشر، أنا بخير. أنزلني من فضلك.”
فريا لم يسبق لها أن حُملت هكذا، فشعرت بالضيق. لكنّ آرتشر لم يعر كلامها أيّ انتباه، بل شدّ قبضته حولها أكثر.
“أتدرين من أنا؟ أنا حاميكِ رسميًّا. في مثل هذه الأوقات عليكِ أن تلتزمي الصمت. هكذا هو حال التربية، ولهذا يُقال إنّ تربية الأطفال أمر شاق.”
“أيّ تربية تتحدّث عنها …”
تذمّرت قليلًا، لكن ما إن دخلت في أحضانه حتّى شعرت بخمول لذيذ. كان شعورًا يشبه انهيار التوتّر الذي ظلّ مشدودًا منذ البارحة.
‘آرتشر هذا، يقوم بأشياء لا لزوم لها …’
كادت تنفجر بالبكاء على نحوٍ مخزٍ، فعضّت شفتها بقوّة. تفجّرت منها رائحة الدم المعدنيّة.
***
غفت فريا قليلًا، ثمّ أيقظها عبير شهيّ. فتحت عينيها، لكنّها لم تستطع أن ترفع جسدها بسهولة، فأنّت قليلًا.
مدت يدها تتحسّس جبهتها طويلًا، ثمّ تمتمت أخيرًا.
كان جسدها متعبًا، وجروحها تؤلمها وتشدّ بشدّة.
“لماذا أنا متعبة هكذا.”
“من الطبيعي أن تتألّمي. انظري إلى حالكِ.”
“آرتشر، تكلّم بهدوء قليلًا. صوتك عالٍ جدًّا حتى أنّ رأسي سينفجر.”
“أنظري فقط إلى طريقتكِ في الكلام!”
لو كان في الظروف المعتادة لأطال آرتشر توبيخه، لكنّه صمت لحظة ثمّ أردف: “ماذا كنتِ تفعلين طوال الليل؟ أتراكِ تدحرجتِ في الغابة؟ ما هذه الحال؟”
مع كلمات آرتشر، خطر ببال فريا لوكيوس الذي كان فاقدًا للوعي بالسمّ. فانتفضت جالسة تسأل: “آه! كيف حال سموّه لوكيوس؟”
“سموّه الآن يتلقّى رعاية الآنسة سيلينا، فلا تقلقي أبدًا.”
“آه، أجل …”
خالط صوت فريا خيبة أمل خفيّة. آرتشر، الذي لم يلحظ نبرة صوتها، نفخ في وعاء العصيدة الساخنة أمامه.
“يا لكِ من فتاة، أأنتِ أيضًا وقعتِ في حبّ سموّ الأمير؟”
“… أيّ حب هذا-“
لو أنكرت لثار آرتشر غضبًا، لذا آثرت أن تترك عبارتها معلّقة.
“على كلّ حال، لماذا أنا مستلقية هنا؟”
اكتشفت أنّها تشغل سرير آرتشر، فبدت عليها علامات الاستغراب.
“أتظنين أنّي سأترك مريضة ملقاة على الأرض الباردة؟”
“….؟”
في البداية لم تفهم فريا قصده. في الميتم، عندما كانت تمرض، لم يكن سوى الأرض لتستلقي عليها وهي تئنّ وحدها. لم تتلقَّ دواءً ولا لمسة عناية في حياتها. وقد اعتادت ذلك.
“ألا تعرفين أيّ شيء كما يجب؟”
كلّما فكّر آرتشر في فريا، كيف أنّها تنقضّ على الطعام بجوعٍ شديد، أو كيف ترتعب كلّما ارتكبت خطأ ظنًّا أنّه سيضربها، كان الغضب يغلي في صدره.
‘رغم أنّ فيها بعض العناد، إلّا أنّها فتاة طيّبة.’
لم تكن تعرف التملّق، وكانت تبذل جهدها في كلّ ما تفعله، وصراحتها جعلته يتعلّق بها.
كان واضحًا أنّها لو تربّت في كنف والدين صالحين لسطع نورها أكثر بكثير. تنفّس آرتشر تنهيدةً خافتة بين لحية كثيفة.
تذكّرت فريا بوضوح كيف خرج آرتشر بالأمس يبحث عنها في الحقل.
كانت متعبة إلى درجة أنّها لم تستطع الكلام، لكنّها لم تعرف كم كانت فرحتها برؤيته. لم يكن أحد قط قد خرج لاستقبالها من قبل.
كما علمت أنّ نظرته الغاضبة إليها الآن لم تكن سوى قلقٍ عليها.
‘ما هذا، كأنّه أب يوبّخ ابنته…’
لم يسبق أن كان لها أب، لكنّها رأت وسمعت ذلك كثيرًا في الطرقات: صوت رجلٍ عطوف يخبر ابنته بلطف أن تمشي ببطء، وأن لا تركض وفمها مليء بالطعام.
وكان صوت آرتشر الآن شبيهًا بذلك تمامًا. فشعرت غصّة غريبة في صدرها، ومدّت يدها فجأة.
“أنا جائعة. أعطني وعاء العصيدة بسرعة.”
تناولت الوعاء من يده وشربته دفعة واحدة.
“هذا أوّل طعامٍ تتناولينه منذ ثلاثة أيّام، فهلاّ أكلتِ ببطء؟”
“لقد ظللتُ طريحة الفراش ثلاثة أيّام؟”
يبدو أنّ حالتها كانت أسوأ ممّا ظنّت.
وكم مرّ من الوقت منذ آخر مرّة تناولت طعامًا دافئًا ولينًا هكذا؟ كان بطنها يقرقر بصخب.
“آرتشر، لقد زاد توبيخك في الآونة الأخيرة.”
“توبيخ؟! سأشيب بسببكِ حقًّا!”
وبينما كان آرتشر يزفر غضبًا، ابتسمت فريا بخفوت وهي تضع قدميها خارج السرير.
“يجب أن أعود إلى العمل. فلا بدّ أنّ الأمور صارت فوضى بعد غيابي.”
“لكنّكِ لم تتعافي بعد…”
“سموّ الأمير يحبّ النظام والنظافة.”
ولأنّ كلامها كان صحيحًا، لم يستطع آرتشر أن يمنعها أكثر.
كان كاحلها الملتوي لم يشفَ بعد، فربطت عليه قطعة قماش عشوائيًّا تحت بنطالها. لقد سبق أن كُسر عظمها من قبل ، لكنّه التئم بعد شهرين تقريبًا ، لذا لم تعبأ كثيرًا.
“إذن فهذا سيشفى بسرعة.”
عندما نظرت حولها، وجدت أنّ الأجواء أكثر حذرًا من المعتاد.
بدا أنّ الحراسة مشدّدة. وقفت أمام خيمة لوكيوس ، و أخذت نفسًا عميقًا. رغم أنّها سمعت أنّه غير موجود، فقد شعرت بالتوتّر.
وما إن رأى الجنود الحارسون هيئتها حتّى أنزلوا رماحهم.
‘لأدخل وأتفحّص قليلاً.’
فتحت ستارة الخيمة، فرأت الفوضى كما تركتها تمامًا عند مغادرتها. يبدو أنّه بالفعل لا يُسمح لأيٍّ كان بدخول المكان.
“إنّها فوضى حقيقيّة.”
سارعت فريا بترتيب الملابس والقبّعات الملقاة على السجّادة.
“لنرَ، هذه يجب غسلها.”
ثمّ لمعت الطاولة حتّى صارت برّاقة. وبعد أن أنهت العمل، أسندت جسدها إلى الكرسيّ وظلّت تحدّق طويلًا في الخريطة.
“إذن هذا هو موقع الغابة، وذاك هو ساحة المعركة.”
لقد كانت تتعامل مع الوضع هنا باستخفاف شديد.
“كان مكانًا مخيفًا بالفعل.”
رؤية جثثٍ متراكمة كالأكوام كانت مشهدًا مروّعًا.
أيّ امرأة عاديّة كانت ستُغشى عليها في الحال.
لو لم يكن أولئك الأطفال الميتميين مدفونين في قلبي، لكنت انهرتُ أنا أيضًا.
دفعت الكرسي المائل إلى مكانه الصحيح، وبدأت تكنس الأرض.
ورغم أنّ المشي وهي تعرج كان مرهقًا قليلًا، إلّا أنّها اعتادت التحمّل. لقد خرجت إلى الشارع في اليوم التالي مباشرة بعد أن ضُربت حتى كادت تنهار.
‘بفضل صوفيا تعلّمت كيف أتحمّل.’
ابتسمت بمرارة، فإذا بها تسمع حركة عند مدخل الخيمة.
رفعت الستارة، وإذا بسيلينا ولوكيوس يدخلان معًا.
فانحنت فريا بسرعة.
“سأُحضّر بعض الشاي.”
جلست سيلينا بأناقة على الكرسي، بينما مضى لوكيوس بصمت إلى غرفة النوم.
وبينما كانت فريا تضع أوراق الشاي في الماء الساخن عند الموقد، شعرت بنظرات حادّة عليها.
“أأنتِ خادمة لسموّ الأمير؟”
“نعم، هذا صحيح.”
وبينما كانت تقدّم أكواب الشاي، كان بريق عيني سيلينا غريبًا.
‘… ما الأمر؟’
لقد رتّبت مظهرها قبل القدوم، وارتدت ثوبًا نظيفًا جديدًا.
“أظنّ أنّ الشاي قد فتر قليلًا.”
لكنّه كان للتوّ مصبوبًا، فلا يمكن أن يكون قد فتر.
“دعيني أتأكّد.”
اقتربت، ثمّ رفعت الكوب وسكبت الشاي مباشرة على ظهر يد فريا.
“… كيف هو الآن؟”
لم تستطع فريا حتّى أن تفكّر في تغطية يدها المحترقة، بل حدّقت في الأخرى بصمت.
‘ما هذا التصرف الحقير؟’
رغبت أن تصرخ من شدّة الألم، لكنّها ابتلعت صرختها وأبقت وجهها هادئًا.
‘فالصراخ لن يغيّر شيئًا …’
أعادت إلى ذهنها ما علّمها إيّاه الزمن.
ألقت نظرة على يدها المتوهّجة حُمرة، ثمّ غمرتها مباشرة في جرّة ماء. كان الألم كأنّ جلد يدها يُسلخ، فخرج منها أنينٌ مكتوم.
‘مؤلم.’
رغم أنّها اعتادت مثل هذا التعامل، إلّا أنّها شعرت بغضب.
لعلّها كانت مخطئة جدًّا بشأن الآنسة سيلينا.
فهناك من يبدون شرسين كصوفيا أو شايلو منذ الوهلة الأولى، وهناك آخرون يبدون طيّبين بينما يخفون شراسة خلف مظهرهم الناعم.
‘أيّ ملاكٍ هذا …’
تمنّت أن تمسك تلك الخصلات الحمراء المتغطرسة لتجرّها بعنف.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات