كانت امرأة ترتدي فستانًا أزرق أنيقًا ومعطفًا أزرقَ سماويًّا على كتفيها قد نزلت من العربة. كانت تمسك بيدها حقيبةً جلديةً، وسرعان ما أسرعت بخطاها.
“… لوتي! أسرعي بالمجيء!”
“… أختي!”
تبادلتا التحية بلهفة، وتعانقتا طويلًا دون أن تنطقا بكلمة. لأنّ لقاءهما نادر، كان هذا اللقاء غاليًا إلى أقصى حدّ.
“يبدو أنّ عليّ الآن أن أُناديكِ جلالة الإمبراطورة، أليس كذلك؟”
ابتسمت لوتي وهي تُخرج طرف لسانها بخفّة، فضحكت فريا برقة. كانتا تتذكّران بوضوح تلك الأيام حين كانتا تتسوّلان معًا تحت الثلج في الشتاء البارد. لم تكونا لتتخيّلا يومًا أن مثل هذا اليوم سيأتي.
“لوتي، أتراكِ جادّة؟ دعيني أنظر إليك.”
كانت لوتي، وقد بلغت العشرين من عمرها هذا العام، قد تغيّرت تمامًا. شعرها اللامع وخداها الورديّان جعلاها تبدو كأيّ فتاة تربّت في الحبّ والدلال.
“ألا تجدين العمل شاقًّا؟”
كان الكونت ديبيرتو قد وعد لوتي بدعمٍ ماليّ، لكنّها رفضت ذلك. كانت ممتنّة لأنّها حظيت بمكان في بيت ديبيرتو، ولأنّها تلقّت تعليمًا كافيًا هناك. لذلك، ما إن بلغت سنّ الرشد، حتى بدأت تعمل بجدّ.
“هذه المرّة أوكلوني إلى مجموعة من الصبيان المشاكسين، لا تتخيّلين كم يصعب التعامل معهم.”
قالت لوتي وهي تضع حقيبتها على الطاولة وتُحرّك رأسها بيأس.
“تعلمين أنّ سماعكِ تقولين ذلك غريب للغاية؟”
لم تستطع فريا أن تمنع ضحكتها وهي تتذكّر كيف كانت لوتي الصغيرة تلحّ عليها دائمًا لتُحمل على ظهرها.
“إلى متى ستسخرين من تلك القصة؟ كنتُ حينها طفلة صغيرة فعلًا.”
“صحيح. أنا التي ربّيتك على ظهري.”
عضّت لوتي شفتها بخجل عند مزاح فريا.
لم يكن الفارق بينهما سوى ثلاث سنوات، لكن فريا كانت بالنسبة للوتي أختًا وأمًّا في آنٍ واحد.
كانت الوحيدة التي مدّت لها يدها في دار الأيتام، والوحيدة التي قدّمت لها ظهرها لتحتمي به.
“ربّيتِني على ظهرك؟ بل أنا من عانيتُ بسبب سذاجتكِ يا فريا!”
صرخت لوتي بصوتٍ عالٍ محاولةً إخفاء دموعها، ولم تنكر فريا قولها فأومأت برأسها ببساطة. وحين هدأت لوتي قليلًا، همست بصوتٍ منخفضٍ وملئ بالفضول: “حان دوري الآن، أليس كذلك؟ أختي، كيف هو طبع جلالة الإمبراطور؟”
“ما بكِ؟”
تفاجأت فريا بالسؤال فجأة، وتجنّبت نظرات لوتي التي كانت تضيّق عينيها بريبة، وجلست مسرعةً على الأريكة.
“لا أفهم ما الذي تعنينه.”
“مجرد إحساس … يبدو لي أن جلالته رقيق في النهار، لكنّه ليس كذلك في الليل.”
حين أنهت لوتي جملتها بنبرةٍ غامضة، أسرعت فريا لتقديم الشاي.
رقيق في النهار فقط؟ ما الذي تعنيه؟ شعرت فريا بحرارةٍ تصعد إلى وجنتيها، فبادرت بالكلام لتُغيّر الموضوع.
“ما الذي تقولينه؟ أحضرت هذا الشاي النادر خصيصًا لنشربه معًا.”
“ما زلت لا أفهم طعم الشاي أصلًا.”
تمتمت لوتي وهي تجلس على الأريكة، بينما مسحت فريا العرق عن جبينها بخفّة.
“أحضرتُ لكِ هدية.”
أخرجت فريا كعكةً كبيرة من السلة، فاتّسعت عينا لوتي دهشةً. كانت تتذكّر ذلك اليوم الذي قالت فيه مازحةً إنّهما ستأكلان الكعك حتى الشبع ذات مرّة.
“أختي! أنتِ الأفضل!”
أضاءت عينا لوتي فرحًا وهي تتذوّق الكعكة، بينما مرّت يد فريا على وجنتيها المحمرّتين بخفّة. لقد تذكّرت فجأةً عرض الزواج الذي قدّمه لها.
***
كان البيت الصغير عند سفح الجبل يبدو بحاجةٍ إلى الكثير من الترميم. لكنّ الحديقة الصغيرة والمزرعة أمامه كانتا مفعمتين بالحياة.
النباتات الخضراء تتسلّق الأعمدة وتثمر، والأزهار الملونة تغطّي السياج حتى بدا المكان من بعيد كأنه حديقة أحلام.
تحت شجرةٍ عاليةٍ كان هناك أرجوحةٌ تصدر صريرًا خفيفًا مع هبوب الريح.
“أمي، من يسكن هناك؟”
سأل الصبيّ الذي كان جالسًا فوق عربة القشّ بدهشةٍ، فأمالت المرأة التي تقود الثور رأسها وقالت: “لا أدري. لا أحد في القرية يعرفهم حقًّا.”
منذ أن بدأ الدخان يتصاعد من مدخنة البيت المهجور سابقًا، انتشرت الشائعات. قيل إنّ رجلًا جريحًا من الحرب وامرأةً أصابها الوباء يعيشان هناك.
‘وإلا فلماذا يغطّيان وجهيهما دائمًا؟’
‘حتى صاحب متجر الأدوات قال إنّ الرجل مجنون تمامًا.’
‘سمعتُ أنهم يأكلون الأطفال!’
ارتجفت المرأة عند استحضار تلك الأحاديث، وتمنّت أن يكون فضول ابنها مؤقّتًا.
“انظري، أمي! أرى شخصًا هناك!”
قال الصبيّ وهو يشدّ على العربة، محدّقًا في شخصين كانا يعملان في الحقل ورفعا رأسيهما نحوه. لكن قبل أن يدرك ما يحدث، مالت العربة فجأة إلى جانب واحد.
دوّي—!
انكسرت إحدى العجلات، وسقطت العربة على الأرض، فتدحرجت المرأة والصبيّ متألمين.
“بيتر! بيتر، هل أنت بخير؟”
بحثت الأمّ عن ابنها لتحتضنه، لكن ظلًّا طويلًا غطّى جسديهما.
“هل أنتما بخير؟”
رفعت المرأة رأسها بفزع لتجد رجلًا غريبًا أمامها.
سارعت لتغطية وجه ابنها خوفًا. لم تكن راغبة في تلقي مساعدة من منبوذين يُقال إنهم مصابون بالوباء.
“سنهتمّ بأنفسنا، عد إلى بيتك.”
“أمي، أظنّ أن ساقي مكسورة …”
ما إن تمتم الصبيّ بذلك حتى التقطه الرجل من بين ذراعي أمه وحمله.
“مهلًا! ماذا تفعل بابني؟!”
حاولت المرأة الجري خلفه، لكنها كانت قد جرحت معصمها وكاحلها.
“سأفحص العجلة وأعود.”
قال الرجل وهو يضع الصبيّ على السرير ويخرج.
دخلت المرأة وراءه بتردّد، ثم اتّسعت عيناها دهشةً.
رغم بساطة المكان من الداخل، كان نظيفًا ومُعتنًى به.
“يبدو أنّه مجرد ارتجاج خفيف.”
قالت امرأةٌ ذات شعرٍ بنيّ وهي تفحص الطفل، فراقبتها الأمّ بعينٍ مرتابة. لم يكن على بشرتها أيّ أثرٍ للمرض الذي يتحدّث عنه الناس.
“هل تعرفين الطبّ؟”
“لا، لستُ طبيبة، لكني كنتُ أعتني بمصابين كهذا من قبل.”
كانت تلك المرأة فريا.
فقد كانت دائمًا مَن يتولّى علاج الأطفال المصابين بجروحٍ بسيطة في دار الأيتام. بخبرةٍ ثابتةٍ لفّت ضمادة حول كاحل الطفل، فبدأ يستعيد وعيه شيئًا فشيئًا.
“كيف حالك الآن؟ هل تشعر بالغثيان؟”
“قليلًا …”
“من الأفضل أن يستريح في الفراش اليوم.”
أومأت الأمّ شاكرةً وهي تنحني مرارًا.
“أصلحتُ العجلة.”
دخل الرجل مجددًا وهو يحمل الصبيّ ليضعه برفقٍ على العربة. كانت الأحداث متسارعة إلى حدّ أنّ الأمّ والطفل لم يدركا ما حدث تمامًا.
“شكرًا … سنردّ الجميل يومًا ما.”
“لا داعي. المهم أن يكون الطفل بخير.”
وضعت فريا بضع حبّات من الفاصوليا والبطاطا في العربة قائلة إنها من محصولها.
“يا إلهي، لِمَ تكلفين نفسكِ عناء هذا؟”
لكنها قبلتها على مضض وغادرت ببطء.
حين عادا إلى داخل الحديقة وأقفلا البوابة، بدت لهما كأنها قطعةٌ صغيرة من الجنة.
التعليقات لهذا الفصل " 110"