في القصر، كان الناس يتعاملون مع لوكيوس الطفل كظلّ، و حين شبَّ صار كلب الإمبراطور يزحف بين ميادين الحرب.
 
لقد عانى حياةً خلت من الحبّ، وتلوّثت روحه بالانتقام، حتى لم يعد يفرّق بين الصواب والخطأ.
 
ومع ذلك، تقول له فريا إنه إنسان طيّب.
لم يكن لوكيوس يحتمل فكرة الفراق عنها ولو للحظة.
 
“فلنتزوّج بسرعة. لا أستطيع الانتظار يومًا واحدًا بعد الآن.”
 
“أوه، لمَ تعيد الحديث نفسه مجددًا؟”
 
كان أمامهم جبال من المهام التي لم تُنجَز بعد.
 
فمحاكمة ميلادي لم تنتهِ بعد، وإمبراطورية مورسياني تحتاج إلى وقت لتقبل إمبراطورها الجديد.
 
‘والآن يتحدث عن الزواج في خضمّ كل هذا؟’
 
وفوق ذلك، كانت مكانة فريا معقدة للغاية.
فما إن فكّرت في الأمر حتى داهمها دوار خفيف وهزّت رأسها بلطف.
 
“الأفضل أن تنجز ما عليك أولًا. لذا، لا تمرض ثانيةً، مفهوم؟”
 
“عديني بأنك ستزورينني كثيرًا.”
 
“سأفعل ما أستطيع، وسأرسل لك رسائل أيضًا.”
 
كانت على وشك إخباره عن الحفل التنكّري الذي يعتزم الكونت ديبيرتو إقامته، لكنها أمسكت يده بقوة بدل ذلك.
 
فهو ما زال لم يتعافَ تمامًا، ولا داعي لإرهاقه بأخبارٍ إضافية.
 
“الجو جميل اليوم.”
 
“نعم، يا فريا.”
 
لقد تلاشت العاصفة التي قلبت حياتهما رأسًا على عقب، و باتت السماء صافيةً عالية، والنسيم الدافئ يملأ روحيهما طمأنينة،
 
وتغريد الطيور بدا أجمل من أي وقت مضى.
ولم يفلت أحدهما يد الآخر حتى اللحظة الأخيرة من الفراق.
 
***
 
في الليلة السابقة للحفل التنكّري ، جلست لوتي إلى جوار فريا على السرير، تتبادلان الحديث بهدوء.
 
“إذن، كيف التقيتِ جلالته؟”
 
كانت تنظر إليها بحماسٍ طفولي، وعيناها تتلألآن فضولًا.
فالكل في القصر يهمس بأنهما مغرمان بوضوح.
 
“لو أردتِ أن أحكي القصة من بدايتها، فلن تكفي هذه الليلة بأكملها.”
أجابت فريا مبتسمةً وهي تراقب حماسة لوتي الكبيرة.
 
“أتقصدين أن ذلك الفتى الجميل في دار الأيتام كان جلالته؟”
 
لوتي أيضًا تتذكّر الفتى الأشقر الذي كانت فريا قريبة منه في الصغر، بل كانت قد غارت منه آنذاك لأنها ظنّت فريا تفضّله عليها.
 
“حتى لو كنتُ غبية، من كان ليصدّق شيئًا كهذا!”
 
ذات يوم اختفى ذلك الفتى الذهبي من دار الأيتام، فظنّ الجميع أنهم نسوه.
 
“لكنني التقيته مجددًا في المكان الذي ساعدتِني على الهرب إليه.”
 
“حقًّا؟!”
 
“نعم، في البداية لم نتعرّف إلى بعضنا.”
 
كانت تراه أحيانًا وتخلطه بلوس بسبب شعره الذهبي اللامع، لكنها كانت ترفض التصديق.
 
“يا إلهي! هذه أجمل قصة سمعتها في حياتي!”
هتفت لوتي، تضمّ يديها وتبرق عيناها ببهجةٍ حقيقية.
 
أن يكون فتى دار الأيتام هو الإمبراطور نفسه، وأن تكون أول حبّ له فريا — يا لها من قصة!
 
“لوتي، لا تتحدثي بهذه الطريقة! تجعلينني أحرج!”
 
“ما بالكِ، إنها الحقيقة! أريد أن أعيش حبًّا رائعًا مثلكِ تمامًا!”
 
كانت لوتي قد استعادت بفضل آل ديبيرتو بهجتها القديمة.
 
فالكونت تبنّاها كابنةٍ بالتبنّي لأحد موظفيه الذي لم يُرزق أطفالًا، ومنحها بذلك هويةً قانونية وعائلة حقيقية لأول مرة في حياتها.
 
“أفكّر أن أدرس بجد وأصبح معلّمة خصوصيّة.”
قالت لوتي بجدٍّ واضحٍ أثار إعجاب فريا التي ربتت على شعرها بحنوّ.
 
“أنتِ موهوبة منذ البداية. يمكنكِ النجاح في أي شيء.”
 
“أوه، لستِ جادة!”
 
ضحكتا معًا، وملأ السرور وجهَيهما البريئين.
 
***
 
مع بزوغ فجر يوم الحفل، داهمت فريا نوبة صداعٍ حادّة.
فحتى وإن أصبحت ابنة كونت، لم يكن حمل اللقب الأرستقراطيّ بالأمر السهل.
 
كانت تكرر لنفسها أنها يجب أن تعتاد، لكن التنهيدة أفلتت رغمًا عنها.
 
“لكن عليّ أن أتماسك من أجل والدي.”
 
لقد أهدى لها والدها ثوبًا فاخرًا وجواهرَ براقة، وكان يطير من الفرح وهو يراها تقيسها.
 
حتى الحفل بدا وكأنه ثمرة تعبٍ طويل بينه وبين شقيقها غابرييل.
 
“آه، إنهما لا يُطاقان أحيانًا.”
 
وما إن أنهت استعدادها حتى طرق أحدهم الباب.
 
“تفضل بالدخول.”
 
“فريا، هل انتهيتِ من التجهيز؟”
كان الطارق الكونت ديبيرتو ومعه غابرييل.
 
“يا للعجب! إنكِ فاتنة بحق!”
 
كان الفستان الأخضر الحريريّ بلون عينيها من اختيار الكونت.
 
أبرز الفستان كتفيها وعنقها برقة، وانساب منه ذيل واسع يلمع كأمواج البحر عند كل حركة.
 
“أعترف بأن ذوقي لا يُضاهى، أليس كذلك يا غابرييل؟”
 
قال الكونت ممازحًا، فابتسم غابرييل وأجاب: “لكن التسريحة والتيجان المرصعة بالأحجار الكريمة كانت من اختياري أنا!”
 
كانا قد اختلفا طويلًا على تفاصيل الزينة، حتى اقترحت فريا أن تأخذ من كلٍّ منهما بعضًا لتُرضيهما معًا.
 
“ما دمتما تحبّان اختياري، فأنا راضية وسعيدة.”
قالت فريا وهي تمسك بذراعيهما لتوقف جدالهما.
 
“جميل، جميل. فلننزل الآن.”
 
امتلأت القاعة الكبرى بنبلاء الإمبراطورية، حتى إن رؤوس الناس تلمع كالنجوم من فوق الدرج.
 
تردّد قلب فريا وهي تنظر إلى الحشد، لكن غابرييل همس لها بلطف: “لا تقلقي، أنتِ أختي الوحيدة والعزيزة.”
 
وأضاف الكونت: “فريا، أنتِ فخر آل ديبيرتو.”
 
انتفخت أنفاسها ثقةً بعد كلماتهما، ونزلت السلالم برفقٍ بينهما.
 
“الكونت ديبيرتو، والفيكونت غابرييل، والآنسة ديبيرتو!”
 
تجمّع الجميع لرؤية ابنة الكونت التي عادت بعد أعوامٍ طويلة من الفقد.
 
ولم يخلُ المشهد من الدهشة حين تعرّف بعضهم إلى فريا التي كانت خطيبة وليّ العهد السابقة.
 
“ما الأمر؟ كيف أصبحت الآنسة دوبوا ابنة آل ديبيرتو؟”
 
تناهت الهمسات إلى آذان الكونت، فابتسم بهدوءٍ وقال: “أشكركم جميعًا على حضوركم. اليوم أقدّم لكم ابنتي العزيزة.”
 
أمسك بيدها ورفعها أمام الحاضرين.
تنفّست فريا بعمق —
‘يا إلهي، عليّ أن أحيّي كل هؤلاء الناس.’
 
في أيام كونها الآنسة دوبوا لم تكن تخجل من الجمهور، لكن الآن كان اسم عائلتها الجديدة على المحكّ، فشعرت بارتباكٍ خفيف.
 
إلا أن دروس فرانشيسكا الصارمة أثمرت، فانحنت بخفّةٍ وأناقة.
 
سرعان ما انشغلت القاعة بالحديث عن “ابنة آل ديبيرتو الجميلة”، لكن الكونت طمأنها مسبقًا بأن لا تقلق: ‘يا ابنتي، الناس أقل اهتمامًا مما تظنين.’
 
أهمّ ما في الأمر أنه وجد ابنته أخيرًا، وأنها وجدت عائلتها من جديد.
 
بدأت الموسيقى الراقصة، ووقف الكونت وغابرييل في آنٍ واحد أمامها، كلٌّ يمدّ يده.
 
“مع من سترقصين أولًا، يا عزيزتي؟”
 
نظرت إليهما في حيرة — وجهان متشابهان بالحنان ذاته.
وفي النهاية، اختارت والدها.
 
رفع الكونت ذقنه نحو ابنه: “أرأيت؟ الأب هو الأول دائمًا!”
 
أمسك بيدها ورقصا بين الحضور، بينما كانت فريا تغمرها السعادة، فلم تتخيل يومًا أنها ستحظى بليلةٍ كهذه.
 
ثم سلّمها لذراع غابرييل قبل بداية المقطوعة التالية.
 
“إن وطئ على قدمكِ، أخبريني، سأؤدّبه!”
 
“أبي!”
 
ضحك الحاضرون، وأخذ غابرييل يدها بخفة.
كان راقصًا بارعًا، بخلاف ما خشيت.
 
“فريا، لا توجد امرأة في القاعة تضاهي جمالكِ الليلة.”
 
“أخي، اخفض صوتك! قد يسمعك أحد!”
 
كانت خائفة أن يثير كلامه الانتباه.
لكن فجأة، تقدم رجلٌ مقنّع، وخطفها من بين يدي غابرييل بانسيابٍ رشيق.
 
“لو—!”
همّت أن تناديه، ثم أدركت المكان فصمتت.
 
“كيف جئت إلى هنا؟”
 
“الكونت ديبيرتو دعا جميع نبلاء الإمبراطورية.”
 
“آه…”
 
“مخيّب للأمل أنكِ لم تتوقعي حضوري.”
 
كانت نبرة لوكيوس مفعمةً بعَتَبٍ طفوليّ، فابتلعت ريقها بتوتر.
 
رغم القناع الأسود الذي يغطي عينيه، إلا أن مظهره الفاخر بالبدلة البيضاء المطرّزة بخيوط الذهب جعل كل الأنظار تلتفت إليه.
 
انعكس الضوء على خصلاته الذهبية المتموّجة، وعيناه الزرقاوان خلف القناع تلتمعان كحدّ السيف.
 
‘ماذا لو تعرّف عليه أحد؟’
 
تلفّتت فريا حولها في قلق، فحضور الإمبراطور إلى حفلٍ كهذا قد يثير فضيحة.
 
حاولت تذكّر دروس الإتيكيت التي لقّنتها إياها فرانشيسكا، لكنها لم تجد جوابًا لهذا الوضع غير المسبوق.
 
“هل تسألينني الآن لمَ لم ترسلي لي دعوةً بنفسك؟”
همس و هو يديرها في حلقةٍ راقصةٍ واسعة.
 
ارتبكت فريا أكثر حين التقت عيناها بعيني غابرييل البعيدتين، وكان الأخير يحدّق بهما بنظراتٍ نارية.
 
‘آه، أعتقد أن الحفل بدأ يتعبني حقًا.’
 
لن تستمتع بالرقص أبدًا، هذا مؤكد.
 
“هل وجدتِ شخصًا آخر يعجبكِ هنا، يا فريا؟”
سألها بصوتٍ منخفضٍ يقطر غيرة.
 
شعرت فجأة وكأنها متهمة بخيانةٍ لم ترتكبها.
 
اقترب أكثر، وشدّ يدها بلمسةٍ حارة.
 
“صحتكَ، هل تحسّنت؟ لم تقُل إنكَ ستحضر الليلة.”
 
كانت قد سمعت قبل أيام فقط أنه لم يتعافَ بعد، ولم تتوقع أن تراه أمامها بهذه السرعة.
 
“وإن لم آتِ، ماذا كنتِ ستفعلين؟”
قال بنبرةٍ مازحةٍ لكن في عينيه بريقُ خطرٍ مألوف.
 
تبع نظراته رقبتَها العارية فوق فستانها الأخضر، وتمتم بصوتٍ عميق: “لو كنتُ أنا والدكِ، لما سمحتُ لكِ بارتداء فستانٍ كهذا.”
 
توهّج وجهها دفعةً واحدة، فشعرت وكأنها عارية رغم أن جسدها مغطى بالكامل.
 
 
             
			
			
		
		
                                            
التعليقات لهذا الفصل " 103"