1
طَقّ.
انشقّ الورقُ فجأةً بصوتٍ حادّ.
غمرت أيلا موجةُ خزيٍ اجتاحت جسدها من قدميها حتى قمة رأسها.
“آآآآااه!”
صرخت أيلا صرخةً حائرة، لم تَدرِ إنْ كانت عويلاً أم زئيراً، بينما راحت تمزّق دفتر يوميّاتها بجنون.
“آرررغ!”
كان صدى صوتها أشبه بنواحِ إنسانٍ يتعذّب.
توردَ وجهها بحُمرةٍ شديدة، وارتجفت وهي تدفع دفترها داخل الموقد.
لكن مهما حاولت إشعال النار بالصوّان والحديد، لم يخرج سوى طقطقةٍ عقيمة، تتبعها خيبةٌ وراء أخرى. ومع ذلك لم تيأس. بيدين ترتعشان، تمكّنت أخيراً من إيقاد شرارةٍ صغيرة.
وسرعان ما التهم اللهيبُ الصفحات المكدّسة، يمتدّ فيها بنَهَم.
وأثناء مراقبتها للنار وهي تتّسع، والهواء يمتلئ برائحة الورق المحترق، انفجرت أيلا بضحكةٍ غريبة.
“أُفف… أُفففف… هاهاها…”
شدّت خصلةً من شعرها كعادتها، ثمّ توقّفت فجأة.
تماسكي.
توقّفي.
فلتعودي إلى رشدك.
انتفضت واقفةً تدور بارتباك أمام الموقد، ثمّ ثبتت من جديد قبالة ألسنة النار.
تماسكي يا أيلا سولارون.
انهارت على الأرض بارتطامٍ ثقيل، وجلست متربّعةً في غرفتها كالغريبة عنها.
أسندت ذقنها إلى كفّها، تحدّق في اللهيب وهو يخبو، بينما الفراغ يجتاحها.
لماذا لا يتحوّل الرماد إلى أبيض ناصع كما تخيّلتُ؟
وفجأة، دوّى طَرقٌ على الباب.
“سيّدتي أيلا، هل أنْتِ بخير؟”
“أنا بخير!”
صرخت بأعلى صوتها، والتفتت ببصرها إلى دفترها الذي التهمته النار نصفه.
أيلا سولارون.
عمرها الآن عشر سنوات فقط.
رفعت يدها الصغيرة.
اختفت آثار التقرّحات والجلد الخشن – لم يبقَ سوى يدٍ ناعمة كيد الطفلة.
ركّزي. اهتمّي بما سيأتي لاحقاً.
شدّت قبضتها بقوّة.
أيلا سولارون القديمة ماتت.
نعم، ماتت وهي شابّة.
لكن كان ذلك بخطئها هي.
فما جدوى الندم؟
أليس من المعتاد أن يرى الناس حياتهم تمرّ أمام أعينهم حين يواجهون الموت؟
ذكريات العمر تتسارع كاللوحات، توقظ فيهم الندم أو الحنين.
هاه… إذاً فشلتُ بالنهاية.
أو ربما…
آه، لو كان بإمكاني العودة إلى ذلك الوقت…
أليس هكذا تجري الأمور عادة؟
لكن شريط حياتها كان مختلفاً.
كلّ مشهدٍ يمرّ أمامها كان مخزياً لدرجة أنّها شعرت أنّها ستموت مرّةً أخرى.
شريطٌ كامل من العار.
وأغلب هذا الخزي دار حول صبيَّين في دفترها.
لا – بل أوهامها هي.
يا ألهي، كم كان الأمر مُذلّاً!
فمنذ طفولتها وحتى بلغت، كانت تقنع نفسها بأنّ سادا ولوكا مغرمان بها.
أصدقاء الطفولة الثلاثة.
ودّ ينمو بينهم، وصداقةٌ وثيقة بين الولدين، وهي… عالقة بينهما.
‘أوه، لا تتشاجرا بسببي! ألا يمكن أن نبقى معاً للأبد؟’
ذلك الخيال السخيف عاش في ذهنها عشر سنوات كاملة.
وحين صرخت أخيراً: “إنْ كنتم تحبّونني، فتوقّفوا عن هذا!” – ما زالت ردودهم تُشعل وجهها بالخجل.
لوكا حاول أن يُخفّف وقع الأمر بلطف، لكن سادا –
“أتزالين تؤمنين بتلك الأوهام؟ كنتُ أظنّ أنكِ قد تفعلين، لكن حقاً… هذا تماماً من طبعِ أيلا سولارون.”
جعلتها كلماته عاجزةً عن الكلام، ثمّ قضى على آخر أملٍ لديها:
“لم يخطر في بالنا يوماً أن ننظر إليكِ بتلك الطريقة. لم نُحبّكِ أبداً إلا كصديقة.”
حتى الآن، مجرّد استرجاع تلك اللحظة جعل قلبها يخفق ووجهها يشتعل.
وأمّا لوكا، فحاول أن يكون رقيقاً، لكنه زاد الطين بلّة حين قال:
“ومع ذلك، لم يكن سيئاً أنْ نساير أحلامكِ الصغيرة. شكراً على ذلك.”
وكانت تلك طعنةً أخرى في قلبها.
ما زالت تذكر بوضوح كيف ركضت إلى حجرتها وأغلقت الباب على نفسها.
أما ما تلا ذلك – وقوعهما في شِباك وليّة العهد، انكشاف حقيقتها كشيطانة، محاولة أيلا لاغتيالها، ثم موتها على يد وليّ العهد – فذاك حديثٌ آخر.
ارتمت أيلا على ظهرها فوق الأرض.
كانت فيما مضى ترفض أن تدنّس ثوبها بالتراب.
لكن الآن، لم تعد تكترث.
لم يكن الأسوأ رفضهم، بل إدراكها أنّهم لم يثقوا بها يوماً.
ولِمَ يثقون؟
وقد قضت حياتها غارقة في دفاترٍ وأوهام…
دفنت أيلا وجهها بين كفّيها وتقلّبت على الأرض خجلاً.
لم تكن مجرّد أوهام طفلة.
لقد ظلّت تراودها حتى بلغت السابعة عشرة.
‘لو علمتُ أنّ فتىً ما ظلّ يتوهّم عشر سنوات أنّنا مقدَّران لبعضنا، لشعرتُ بالقرف أنا أيضاً…’
لأول مرّة، أحسّت بالامتنان لأنّ لوكا وسادا على الأقل لم يتركاها وحيدة.
لم يقطعوا علاقتهم بها.
لم يتخلّوا عنها.
لم يكونوا أشراراً أبداً.
المشكلة كانت دائماً فيها هي.
حسناً يا أيلا سولارون.
انتفضت واقفةً واتجهت نحو المرآة.
كم مرّةً زيّنت نفسها أمام هذا الزجاج؟
تنانير مكشكشة، ودانتيل، وطبقات من القماش الخفيف.
مدّت يدها تلمس سطح المرآة.
فإذا بفتاة تحدّق بها.
شعرها بنيّ، عادي.
عيناها زرقاوان جميلتان، لكن سرعان ما تخفتان بجوار زمرديّ إخوتها.
لطالما تمنت أن تكون مثل أختها الكبرى.
هيلين سولارون، تكبرها بثماني سنوات.
سيدة العائلة.
شعر ذهبيّ كشمسٍ ساطعة، وعينان خضراوان من أمّهما.
بارعة، متألّقة، يناقشها أساتذة الأكاديمية كندّةٍ لهم.
قصص حبّها صارت حديث المجالس.
غرامها العنيف ثم انفصالها الأشهر عن الدوق آرهين آهبيند ما زال مضرب مثلٍ حتى اليوم.
ومع أنّها لم تتزوج، ظلّت حياتها العاطفية أسطورةً في الإمبراطورية.
وفي هذه اللحظة، لم تكن قد بدأت علاقتها به بعد…
وخز قلب أيلا بالشوق.
لكنها، أياً يكن، لم تستطع أن تصير مثل هيلين.
جميع إخوتها ورثوا الشعر الذهبيّ والعينين الخضراوين.
أما هي، فشعرها بنيّ وعيناها زرقاوان… الغريبة عنهم.
كانت أمها كثيراً ما تتحسر:
“آه يا أيلا، يا للمسكينة.
كجروٍ بلا أصل ولا نسب.”
بل وتزيد أحياناً:
“لقد عثرنا عليكِ تحت الجسر، أتذكرين؟”
حتى والدها الراحل كان يمازحها بذلك، فيتركها تبكي وحدها في وسادتها.
ومع ذلك، ظلّت معجبةً بهيلين، محبّةً لأخيها.
أما الأصغر، ليو، فكان محبوب الجميع.
طفل مبارك من الأرواح، هكذا كانوا يلقّبون أبناء سولارون ذوي الملامح النادرة.
وربما – ابتسمت أيلا بمرارة – الأرواح نفسها سخرت منها، فأعادتها إلى الماضي.
إن كان ذلك صحيحاً، فهي تقبل به.
وُلِدتُ بشعر بنيّ وعينين زرقاوين؟ إذاً سأعيش هكذا.
ما بوسعي غير ذلك؟
“من الآن فصاعداً، سأعيش حياتي بحدودي.”
هي ليست هيلين. لا يمكنها أن تحلم بروايات حب عظيمة.
لو أدركت ذلك مبكراً، لما ضيّعت حياتها في الأوهام.
لا حب.
صداقة.
صداقة فقط!
اندفعت نحو منضدة الزينة، وأمسكت مقصّاً، وبدأت تقصّ شعرها بعزم.
ما زالت كلمات وليّة العهد تصكّ في أذنها:
“الآنسة أيلا صديقة طفولتهم، أليس كذلك؟
إن لم يستمعوا إلى كلامكِ، فهل سيستمعون إلى كلماتي؟”
ذلك الشيطان في هيئة بشرية سخر منها – وكان مُحقّاً.
كلماتها بلا وزن.
بلا قيمة. بلا ثقة.
إذاً سأبني تلك الثقة.
من الآن فصاعداً – صداقة.
صداقة فقط.
على الأقل، عندما تقول: “لا تُصغوا لتلك المرأة!”
‘إنْ قالت أيلا ذلك، فلا بُدّ أنّ لديها سبباً.’
هذا ما تمنت أن تصل إليه.
وضعت المقصّ جانباً تنهيدةً طويلة.
شعرها، المبتور بلا نظام، بدا كالفوضى.
في خيالي كان أنيقاً… أمّا في الواقع فهو بشع.
لا بأس.
سأطلب من السيدة بوبّي.
بوبّي التي ربّتها منذ عمر السنتين.
فتحت أيلا الباب.
وكانت بوبّي تنتظرها بقلقٍ بعد أسبوعٍ من عزلتها وصراخها.
“سيّدتي بوبّي، هلّا أتممتِ قصّ شعري؟”
حدّقت المرأة مذهولةً في شعرها غير المنتظم.
“سيّدتي بوبّي؟”
وحين تقدّمت أيلا بالمقصّ بيدها –
سقطت بوبّي مغشيًّا عليها.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 1"