الفصل 88
رمشت إيثيل بعينيها وهي تنظر إلى إيلان المتفاخر وكأنّه يخرق السماء بثقته.
“إذن، أخذتَ إذنًا؟ لكن… إذن من من؟”
لم يكن الأمرُ أن إيثيل تستهجن حصوله على الإذن، لكن فبالتأكيد أن يُمسكا بهما وهما يتسلّلان كان ليكون أكثر حرجًا.
لكنّ حصوله على إذنٍ مُسبق جعل الأمر يبدو وكأنّ له دافعًا خفيًّا، وكأنّه اختار هذا المكان تحديدًا.
“هل هذا كان ضروريًّا؟”
“…أظنّه كان هنا، المكان الذي سقطتُ فيه فجأة حين رأيتكِ.”
سرعان ما غيّر إيلان مجرى الحديث. وإيثيل لم تُعارض، فقد كانت تلك الذكرى سعيدة.
“آه، صحيح؟ لا أذكر جيدًا. في ذلك الحين، ظننتُ أنك أرنب فاقتربتُ منكَ بهدوء…”
ضحكت وهي تتذكر إيلان الصغير وهو يسقط للخلف من الخوف.
“حتى أن سروالك اتّسخ بالتراب. حين حاولتُ تنظيفه لك، كدتَ تموت فزعًا.”
“أتتذكرين كيف أكلنا الكعك معًا بعد ذلك؟”
“طبعًا. أنا من أطعمك بيدي وقتها.”
في الحقيقة، كانت إيثيل الطفلة متهوّرة بعض الشيء.
وتساءلت بعدها، كيف كان لقاؤنا التالي؟
“حين التقينا مجددًا، لم أكن أعرف أنك إيلان، وقد أخبرتك بذلك، أليس كذلك؟”
“بلى، قلتِ ذلك.”
“كان عليك أن تخبرني فورًا. لماذا أخفيت الأمر عني؟”
بالطبع، لم يكن ليغيّر ذلك الكثير لو كانت قد عرفت هويته قبل عدة أشهر، لكنها كانت تشعر أحيانًا بالحرج والأسف لأنها لم تتعرّف عليه فورًا.
قادها إيلان إلى المقعد أمام الكوخ، دون أن يعلّق على عتابها الطفولي، ثم جلس إلى جانبها وأخرج كيسًا صغيرًا من جيبه.
عندما رأت شكله المألوف، اتسعت عينا إيثيل.
“ما هذا؟ أحضرتَ الكعك أيضًا؟ يا له من يومٍ مليء بالذكريات.”
لكن الكيس كان خفيفًا على غير العادة.
فتحتْه إيثيل تلقائيًّا، ثم أعادت إغلاقه بسرعة.
ضحك إيلان بصوتٍ عالٍ وهو يراها تفعل ذلك.
“لماذا أغلقتهِ؟”
“هذا… ليس كعكًا.”
“إذن ما هو؟”
“همم؟”
أخذ إيلان الكيس المرتبك من يدها، وأخرج منه خاتمًا، ثم رفعه ولمس شفتيها المنفرجتين بدهشة بطرف الخاتم.
“ما رأيكِ؟ هل تعجبكِ هذه الكعكه؟”
“… لا بأس به، على ما أظن؟”
ردّت بصيغة إيلان المعتادة دون أن تشعر، ثم عضّت شفتها بخجلٍ وهي تدركُ ما يفعلُ.
ضحك إيلان برقة وهمس.
أمسك بيدها الصغيرة وأدخل الخاتم في إصبع البنصر.
كان الخاتم مرصعًا بحجر ياقوت أزرق وأماثيست بنفسجي، نُحتا وكأنّهما يتكئان على بعضهما، وكان المقاس مثاليًّا تمامًا.
لكنه لم يكتفِ بذلك، بل أخذ يدها التي تزيّنت بالخاتم وراح يمرر أصابعه بلطف على إصبعها.
“الآن، كلّ شيء عاد إلى مكانه، أليس كذلك، إيثيل؟”
“… نعم، عاد فعلًا.”
“لذا، لم يبقَ سوى أن تعودي أنتِ فقط.”
لم تستطع أن تُبعد نظرها عن أذنه المتوشحة بحمرة خفيفة وسط خصلات شعره الذهبي.
ورغم أنه لم يستطع النظر في عينيها مباشرة، إلا أنّه كشف عن مشاعره بصدق.
“في ذلك اليوم، حين جلسنا جنبًا إلى جنب وأكلنا الكعك، أردتُ أن يستمرّ ذلك المشهد للأبد… لذلك، أردتُ أن أقول هذه الكلمات، هنا.”
رفع رأسه أخيرًا.
لم يكن ذلك الوجه الخافت كضوء القمر، بل أصبح الآن يشبه شمسًا ساطعة، تحدّق بها.
ضوءه اللامع كالنجم.
“كوني دائمًا النور الذي يضيء جواري ، إيثيل.”
* * *
كان حفل تتويج إمبراطور أستير الجديد هو الأضخم في التاريخ. فقد كان بمثابة إعلان رسمي عن العودة الحقيقية لأستير.
راقبت إيثيل إيلان وهو يرتدي الزيّ الأبيض الإمبراطوري، وكل حركة له بدت كما لو كانت لوحة مُقدّسة.
“يبدو أن الإمبراطور الجديد سيجني الكثير فقط من وسامته.”
“أتفق تمامًا، آنستي.”
وافقت إيثيل على تعليق الأميرة أدينيا لاراساتي من مملكة لوكو وهي تبتسم. حقًا، بجماله هذا، من يجرؤ على لوم البلاد لو سقطت؟
التفتت إيثيل نحو أدينيا وقالت:
“ألم تقولي يومًا: عليّ أن أكون سعيدة كي تستعيد أستير نورها؟”
“ذاكرتكِ قوية، آنسة.”
“إذًا، كنتِ تعلمين منذ البداية.”
“تعلمين ماذا؟”
“بأنني تجسيد إيثير.”
أشاحت أدينيا كتفيها بابتسامة وقالت:
“لم أكن أعلم. فقط خمنتُ أنّ لك علاقة بها.”
“وكيف خمّنتِ؟”
“شعرتُ بذلكَ”
تجعد وجه إيثيل فورًا. لم تتوقع أن تسمع ذلك من أميرة، لا من راهبة مثل هيلدا.
“من يعيش قريبًا من الطبيعة، يكون حدسهُ ايضًا.”
قالتها أدينيا وهي تضرب جبينها بأطراف أصابعها بلطف وتضحك، بدلًا من أن تطلب من إيثيل أن تهدأ.
“لكن، يبدو أنكِ سعيدة الآن. وهذا يسرني.”
“أنا… أبدو سعيدة؟”
أومأت أدينيا. بالنسبة لها، كانت إيثيل أكثر راحة من ذي قبل. ربّما لأن كل شيء عاد إلى مكانه الصحيح.
وإيثيل كانت تعرف السبب. نظرت إلى ظهر إيلان وهو يتلقى بركة الكاهن الأعظم.
“هل ستُبحرين بسفينة تجارية أخرى؟”
“إذا سنحت الفرصة. أود أن أذهب بنفسي هذه المرّة.”
ربما تساعدها قوى إيثير التي تُحرّك الرياح على النجاح.
“إن ذهبتِ، لا تنسي زيارة لوكو. لدينا أشياء كثيرة لنُريكِ إيّاها.”
“إن قلتِ ذلك، فأنا متشوّقة منذ الآن!”
بينما كانت عيناها تتلألأ شوقًا لاكتشاف جزيرة التوابل، صرخ الكاهن الأعظم ليُعلن رسميًّا:
“أُعلن أن النور الحقيقي، إيلان أستير، قد أصبح الإمبراطور الجديد لإمبراطورية أستير!”
وما إن أنهى عبارته حتى هزّت الهتافات والتصفيق أرجاء فونيت.
استدار الإمبراطور الجديد نحو الشعب، لكن بدلًا من أن يلوّح لهم، بدا وكأنه يبحث عن شخص ما.
أشار مونتي الواقف بجانبه نحو إيثيل.
وما إن رأى إيلان إيثيل، حتى ابتسم ابتسامة مشرقة كربيعٍ دافئ، ومدّ يده نحوها.
“ما الذي تنتظرينه؟ اذهبي إليه.”
دفعتها كايرا برفق من ظهرها. التفتت إيثيل مرتبكة لترى الكونت ميشلان وزوجته، ومعهما ديورانتي، يغمزون لها أن امضِ.
رفعت تنورتها قليلاً وبدأت تسير بخطًى خفيفةٍ.
ومن خلفها، كان الجميع يتأملها وكأنهم يرون قديسةً تسيرُ.
“والآن وقد أصبحتَ إمبراطورًا، تفعل ما تشاء يا جلالتك؟ الكل يراقبكَ، أتعلم؟”
“لو لم أضمّك الآن، فسأصرخ على الملأ.”
كان في عينيه وهجٌ أزرق.
خليط من الفرح، الأمل، الانتظار، وحتى الحزن المتراكم الذي احترق داخله.
شعرت إيثيل بشيء يهتزّ أسفل عنقها، وكأنّ قلبها يرتجف. أمسكت يد إيلان.
وبلا تردّد، جذبها إيلان بقوة نحو صدره.
“وااااه!”
“يحيا الإمبراطور!”
“تحيا إيثير!”
هتف الجميع، وكأنّهم يباركون حبّ أستير وإيثير.
لوكاس، ديرايلا، ماركيز سويفت وزوجته، هيلدا، وأهل السوق… الجميع كانوا يبتسمون بفرح، وهم يباركون هذا العناق.
ضحكت إيثيل وهي تحتضنه، وقد ارتفعت عن الأرض بفضل إيلان، لكن يده الثابتة جعلتها تشعر بالأمان التام.
مرّت نسمة باردة كأنها تغار من هذا الدفء. دفنت إيثيل وجهها في عنق إيلان الدافئ.
نورها الذي كانت تفتّش عنه خلال حيواتٍ لا تُحصى… أخيرًا عاد ليتوهّج.
لن تفرّط به مجددًا.
أغمضت عينيها، بينما يلفّ خصرها بقوة.
“أُحبكَ، يا نوري.”
كل لحظاتنا ستظلّ مشرقة.
تمامًا كما أحببتها أنتَ معي، وكما نعيشها الآن.
{روايةُ شريط الساتان الأزرق الخاص بالكونت ميشلان}
النهايةُ
(مرحبًا معكم مريانا في نهايةِ روايةٍ أخرى ، أتمنى انكم قد استمتعتم مع هذه الرواية القصيرة والظريفةِ 🤏🏻❤️ ، لا تدع مثل هذه الروايات المليئه بالخرافات تلهيكمَ عن عبادتكمَ ولا تؤثر على عقولكَم فهي ذاتٌ من وحي الخيال،
دُمتم بخير احبائي وكونوا في انتظاري مع نهاياتِ رواياتٍ أخرى ❤️)
التعليقات لهذا الفصل " 88"