ميروو:
الفصل 20
“هاه؟ هلوسة؟”
“شش، أهدئي!”
رفع جوزيف إصبعه الملطّخ بالدقيق مشيرًا إلى ضرورة الهدوء.
ثم نظر مجددًا حوله متفحّصًا الناس، قبل أن يُخفِض صوته إلى أقصى درجة.
“هكذا تقول الشائعات. لكن الحذر لا يضر.”
“لا، حتى وإن كان الأمر كذلك…”
رغم أنّ إيثيل قد استوردت بعض الأشياء خلال السنوات العشر الماضية، إلا أنّ إمبراطورية أستير بطبيعتها لم تكن تهتم كثيرًا بالطعام.
وكان الأمر كذلك حتى فيما يخص الأدوية أو المشروبات، ففي فونيت لم يكن من السهل العثور حتى على المهدئات العادية.
ولكن… هلوسة؟
‘هل هناك من يبحث عن مثل هذه الأشياء في فونيت؟’
والأدهى من ذلك، أن تحسين المزاج بتناول طعام لذيذ، يختلف تمامًا عن تغييره عن طريق دواء.
وبينما كانت إيثيل تُفكِّر بجدّية، وتُقرّر أنّها ستذهب قريبًا لرؤية هيلدا، وصلها صوتٌ آخر قريبٌ.
“يقولون إنّ الآنسة ابنة ماركيز أتوود وخطيبها الجديد، الشاب فلينت، قد أعلنا خطوبتهما؟”
“فجأة؟ وماذا عن إيثيل ميشلان؟”
تنهدت إيثيل، واضعة يدها على جبينها عند سماع اسمها يُسحب في الحديث وكأنها جُرّت من رقبتها.
وقد استمرّ الحوار، على ما يبدو لأن أحدًا لم يتعرّف عليها وهي تضع الباروكة.
“وما علاقتها بخطبة النبلاء تلك؟”
“ألا تعلمين؟ فلينت الصغير كان يلاحقها منذ فترة طويلة.”
“ألم يكونا مجرد صديقين؟”
هنا لم يتمالك جوزيف نفسه، فحاول التدخل للدفاع عن إيثيل.
لكن الناس لم يردعهم شيء عن اغتنام فرصة الحديث عن النبلاء.
“قد تكون هي اعتبرته صديقًا، لكنّه كان يحمل مشاعر مختلفة.”
“بالفعل، ما إن صار وريثًا لعائلة دوقات، حتى بدأ يركض خلف النساء.”
“بالضبط! تلك الآنسة كانت مغرورة للغاية.”
“وما الفائدة؟ فهي ليست سوى ابنة كونت. في النهاية، خطب ماركيزة لأنّها أنسب له من حيث المكانة، أليس كذلك؟”
“هاه، تأكلون الشطائر بشهية، ثم تثرثرون بلا عقل!”
رفع جوزيف صوته أخيرًا. ولوّح بمنشفة اليد في وجه الزبائن الذين كانوا يتكلّمون بلا طائل.
“إن انتهيتم من الأكل، فلتنهضوا. ألا ترون الزبائن ينتظرون في الخارج؟”
“ما هذا الغضب المفاجئ؟ هل لأن عملك ناجح صرت تعاملنا هكذا؟”
“لن آتي غدًا!”
“ولا أنا!”
“لكن… ألم تقل إنّ الكزبرة ستصل غدًا؟”
“أوه، صحيح! إذًا سأضطر للمجيء.”
كانت العلاقة القوية بين جوزيف وزبائنه واضحة من خلال هذه المزاح، حتى غادروا في النهاية عندما أطلق زفرة طويلة وحرّك رأسه إشارة إلى الرضا.
دخل زبائن جدد وملؤوا الطاولات. وبعد أن قدّم لهم الشاي، سأل جوزيف إيثيل:
“إذًا، لهذا لم تفتحي مطعم ‘غريل هاوس’؟”
فـ <غريل هاوس فونيت> كان من المفترض أن يُفتتح في أفضل موقع في السوق، لكنه لم يفتح أبوابه رغم مرور تاريخ الافتتاح، وهذا ما أثار فضوله.
وكان يظن أن تنهدات إيثيل المتكررة منذ قدومها مرتبطة بهذا.
“لم أمتنع عن افتتاحه… لم أستطع افتتاحه.”
“لم تستطيعي؟”
“إنّه خُطِب لتوّه. فكيف يمكن أن يعمل معنا بعد أن ارتبط بأسرة ماركيز بهذه العلاقة؟”
“هذا… منطقي، بالفعل.”
أومأ جوزيف برأسه مقتنعًا بكلامها، ثم بدت عليه الحيرة فجأة.
“لكن، لا داعي لإغلاق المطعم، أليس كذلك؟ كل ما في الأمر أن نأخذ المكونات من أسرة الماركيز.”
“سيُغيّرون اسم المحل.”
“ماذا؟”
“لقد ألغوا العقد تمامًا.”
وهي تتحدث، شعرت بالغيظ يتصاعد داخلها. لقد صنعت كل شيء بجهد، ثم يُسلب منها أمام عينيها؟
من المؤلم تقبّل ذلك.
“كلّما فكّرتُ في الأمر، أزداد غضبًا. لقد عانيتُ كثيرًا أثناء إنجاز ذلك المكان.”
“ما الذي تعنينه؟”
“يا إلهي.”
فوجئت إيثيل بصوت منخفض يخترق أذنها فجأة، فاستدارت بسرعة.
لكن جوزيف، الذي سبقها في معرفة المتحدّث، حيّاه بلطف:
“أوه، حضرتَ بنفسك.”
“صاحب السمو الدوق؟”
“مرّ وقت طويل، يا آنسة.”
لم تستطع إيثيل إلا أن ترمش بدهشة أمام ظهور شخص لم تكن تتوقعه.
كان الدوق نورتون، كعادته، بكامل أناقته من رأسه حتى قدميه.
وبينما بدا غريبًا تمامًا عن أجواء محل الشطائر البسيط هذا، فإنّ تعامل جوزيف معه أثناء أخذ الطلب بدى طبيعيًا إلى أقصى درجة.
“ماذا تفعل هنا؟”
“سؤال غريب. ما الذي يُفعل في محل شطائر، برأيك؟”
“لا، قصدي… هل أتيت لتأكل شطيرة؟”
رغم معرفتها أن السؤال غريب، لم تستطع منع نفسها من طرحه
. فمن المؤكّد أنّها ليست الوحيدة التي ترى جلوس دوق في محل كهذا أمرًا غير اعتيادي.
لكنّ الإجابة لم تأتِ منه، بل من طرف آخر.
“إنّه يأتي تقريبًا كل يوم مؤخرًا.”
“نعم؟”
اكتفى جوزيف بهز كتفيه، رغم رؤيته نظرة الدهشة الشديدة في عيني إيثيل.
“حتى عندما عرضت توصيل الطعام إليه، أصرّ على الحضور بنفسه.”
“الطعام إن برد لا يعود بنفس المذاق.”
“هاه؟”
“الشطيرة ساخنة بطبيعتها، لذا يجب أكلها ساخنة.”
فغرت إيثيل فمها دون أن تشعر.
وحتى حين وضع جوزيف أمام الدوق شطيرة الجبن الساخنة مع شاي النعناع، لم تستطع إيثيل قول شيء.
لقد أصبح الدوق يستمتع بالشطائر المعدّلة التي لم تكن تعلم عنها شيئًا.
وقد بدا معتادًا على الأمر.
رغم الدهشة، شعرت بسعادة غريبة.
“… يبدو أنّ ذوقكَ راقٍ بالفعل.”
“ماذا كنتِ تقولين قبل قليل؟”
“هاه؟ ماذا تقصد؟”
“… لقد عانيتُ كثيرًا أثناء إنجاز ذلك المكان.”
ردد إيلان، بنُطقٍ أرستقراطي دقيق، كلام إيثيل دون أن يُغيّر منه حرفًا.
نظرت إيثيل إليه مذهولة، ثم ضحكت بشدّة عند رؤية وجهه الخالي تمامًا من أي تعبير، رغم ما قاله.
“لماذا تضحكين؟”
“ما هذا؟ لستَ تقرأ من كتابٍ لتكُن بهذهِ الدقةِ.”
“قلتُ ما قلتِه، لا أكثر.”
“لكنّي لم أقلها بذلك الجمود! كان يجب أن تُضيف بعض المشاعر.”
رغم محاولتها كتم الضحك، لم تستطع منع نفسها من النظر إلى عينيه بترقّب.
لكنّه لم يُكرر الجملة، واكتفى بالتحديق في عينيها.
أخفت إيثيل خيبة أملها وقالت:
“لقد عانيت فعلًا. مثل أن تطبخ العصيدة، ثم تُعطيها لشخص آخر.”
“… ولماذا تُعطينها لغيرك؟”
“هكذا جرت الأمور. المكانة الاجتماعية ظالمة.”
كانت تظن أنّ الأمور ستُحلّ بمنطق، إلى أن واجهت الحقيقة بنفسها.
حتى محاكم النبلاء لم يكن لها قيمة حقيقية.
“كيف يُمكن أن نعيش في ظلّ نبلاء الإقطاعيات؟”
“… إذًا، تمّ الاستيلاء على المطعم من قِبل عائلة فلينت؟”
“لقد طُعِنت من الخلف، بكلّ معنى الكلمة.”
شاهد إيلان تعابير إيثيل وهي تبتسم ابتسامة مريرة، فعقد حاجبيه بضيق.
لقد كان يعلم كم تعلّقت إيثيل بذلك المطعم.
“إذًا، هل تحدّثتِ عن هذا الأمر مع الدوق الصغير في ذلك اليوم؟”
“في ذلك اليوم؟”
“يوم الحفلة في قصرنا.”
“آه، نعم…”
بدأت تُومئ برأسها، ثم عضّت على أسنانها بغيظ.
“لم يكن ذلك موضوع الحديث، لكنّ ذلك اليوم كان بداية كلّ هذه الفوضى.”
“بداية؟”
ارتفعت حاجبا إيلان بتوتّر. لكنها، دون أن تُلاحظ ذلك، تابعت حديثها بصوت طبيعي:
“في ذلك اليوم، اعترف لي لوكاس بحبّه.”
“ماذا؟ الدوق الصغير؟”
صرخ جوزيف دون أن يشعر، ثم وضع يده على فمه سريعًا. رمقته إيثيل بنظرة حنونة.
“لكنّي رفضتُه بلطف.”
“ثم؟”
“ثم حصلت هذه الفوضى.”
ردّت إيثيل باستخدام نفس كلمات إيلان. فتح جوزيف فمه بدهشة، وأخذ شهيقًا عميقًا.
“إذًا، هذا ما جعله يتصرّف هكذا؟”
“هذا ما يُقال. إن كنتَ أنتَ مصدومًا، فكيف بي أنا؟”
أخرجت إيثيل شفتَيها بتدلّل وراحت تشتكي.
ولأنّها شعرت أنّ جوزيف والدوق في صفّها، بدأ دلالها يظهر دون أن تدري.
كان جوزيف يردّ على دلالها بلطف، لكنه التفت ببطء إلى إيلان… وتجمّد.
عينا الدوق، الثابتتان في مكانه، كانتا تشبهان الهاوية.
عينا ذلك الدوق الملعون الذي أحرق خلال السنوات السبع الماضية كلّ ما أزعجه، حتى لم يبقَ شيء يُعيقه.
التعليقات لهذا الفصل " 20"