ميروو:
الفصل 19
كان وجهه المبتسم والمراوغ يبعث على الغيظ لدرجةٍ جعلتني أرغب في ضربه مباشرة.
لكنَّ إمبراطورية أستير كانت مجتمعًا طبقيًّا، والمكانة الاجتماعية فيها أقوى من القانون.
ومهما كانت تملك من المال، فإن إيثيل لم تكن سوى ابنةِ نبيلٍ من طبقة النبلاء المدنيين، دون أي أصلٍ يُعتد به.
ارتجفت كتفاها من الغضب المكبوت، لكن دوق فلينت لم يفوّت الفرصة ليُسقِط عليها ضربةً جديدة.
“في المرة الماضية، بدا لي أن لديك موهبة حقيقية في الترويج…
هل يمكنني أن أطلب منك الترويج للمطعم الجديد أيضًا؟”
“هل تنوي أن توكّلني بهذا الأمر؟”
“يُشاع أن حفلتكِ في قصر الدوق كانت رائعة.
إن نجحتِ فقط في لفت الانتباه بنفس القدر، فسأدفع لكِ ثمنًا مجزيًا.”
كان ذلك عرضًا لا يُصدَّق من وقاحته.
من الواضح أنه لا يرى في إيثيل سوى عاملةٍ تتلقّى المهمات لتقوم بها مقابل أجر.
“بما أن الأمور وصلت إلى هذا الحد، سأكون صريحة معك يا سعادة الدوق.”
لقد مُزِّق ظهرها بما فيه الكفاية، فلا داعي بعد الآن لمراعاة اللباقة من طرفٍ واحد.
ولم تكن ترى أي فائدةٍ من قبول عرض دوق فلينت أصلًا.
اعتدلت إيثيل في جلستها، ونظرت إليه بثبات، وأضافت:
“مهما دفعتَ، لن أكتب لك مقالة.
لو كان الطعام غير لذيذ، فلن يكون هناك ما أكتب عنه.”
* * *
“… هل أنتِ بخير، آنسة؟”
سألها لِيام وهو يتابعها بقلقٍ بعد أن خرجت من القصر تخطو بخطًى غاضبة.
لم تنظر إيثيل إليه حتى، وأجابت بحدّة:
“لا، لستُ بخير أبدًا.
لستُ بخير لدرجة أنني أريد أن أصرخ!”
“لنركب العربة أولًا.”
سارع لِيام إلى فتح باب العربة.
لكن عندما همّت إيثيل بخطو قدمها للصعود، جاءها صوتٌ مزعجٌ ومألوفٌ من خلفها.
“إيثي!”
توقّفت فجأة.
كان صوتًا يطعن في مؤخرة رأسها.
استدارت وهي تطحن أسنانها من الغيظ، لترى سبب كل هذه الفوضى، لوكاس فلينت، يقترب منها على عجل.
“إيثي، لقد أتيتِ، فلماذا لم تلتقي بي؟…”
“هل أبدو في حالةٍ تسمح لي برؤيتك الآن؟”
“هاه؟”
“لا تقل لي أنك لا تعرف ما الذي يجري؟”
كانت تظن أنّها لا تملك طاقةً لتواجهه، لكن منظر وجهه الساذج وعينيه التي ترمشُ ببراءةٍ بلا وعيٍ فجّر غضبها حتى عنان السماء.
“يا هذا، أيها…!”
“أنا أعلم! أعلم أنكِ واجهتِ مشكلةً!”
“تعلم؟ وتتصرفُ هكذا؟”
“لكني تحدثت مع والدي بشأن شروط العقد! قال إنه سيُعيد النظر فيها…”
“شروط العقد؟”
شروط؟
لم تسمع شيئًا من هذا القبيل.
لم تجد حتى فرصة للتفاوض، فقد سُحب شريكها التجاري لصالح ماركيز أتوود منذ البداية.
تجهم وجه إيثيل وهي تنظر إليه، بينما احمرّ وجه لوكاس خجلًا كالشعر الذي يعلو رأسه، ثم أغلق عينيه بإحكام وقال:
“قال إنه سيضيف ‘الزواج’ كشرط!”
ساد الصمت في الحديقة الواسعة لقصر الدوق.
ولم يحتمل لوكاس ذلك الصمت، ففتح عينيه ببطء.
أول من رآه كان لِيام، الذي تجمّد كليًّا من الصدمة.
لم يكن لدى لوكاس الجرأة ليرى تعبير وجه إيثيل.
لكن جاءه صوتها باردًا كحدِّ السيف:
“وبأي حق؟”
“لـ، ليس الأمر كذلك…”
“يعني فعليًّا، لأنني رفضتكَ، حدث كل هذا.”
كانت لا تزال تأمل أن يكون هناك سببٌ آخر.
فقد كان دوق فلينت يرفض التعاون مع عائلة ميشلان منذ البداية.
لكن يبدو أن كلماته تلك حول الزواج، والتي بدت حينها كمجرد تحيةٍ ثقيلة الظل، كانت في الحقيقة اختبارًا.
يريد أن يرى إن كانت ستوافق على الزواج من لوكاس بسهولة.
“يعني لأنني لم أبادلك الشعور، انقلب كل شيء رأسًا على عقب.”
“… لقد كنتُ أحاول إقناع والدي.”
“هذا طبيعي.
من يشجّع قرارًا غير عقلاني كهذا؟”
“لكن إن أعدتِ التفكير في مشاعري، فأبي قد يغيّر رأيه.”
“لا يمكنني فعل ذلك.”
قالتها إيثيل دون أدنى تردد.
ثم نظرت مباشرة في عينيه الجريحتين، وأضافت:
“لقد قلتها يومها بوضوح.
أنا لا أراك كرجل.”
“إيثي…”
“والآن، ماذا؟ زواج؟
هل يعني ذلك أنك أصبحت رجلًا بنظري؟”
“إيثيل ميشلان!”
“ماذا يا هذا!
تظن أنّك وحدك تستطيع أن تصرخ؟
أنا أيضًا أستطيع أن أصرخ!”
واجهته بصوتٍ مرتفع وهي تقترب منه حتى كادت تصطدم بأنفه.
“من وجهة نظري، عليك أن تعيد النظر في مشاعركَ أنت أولًا.”
“ماذا؟”
“تقول إنك تحبني؟
لكنك تتصرّف هكذا؟
فقط لأنني لم أبادلك الشعور؟”
“فقط؟!
هل تدركين كم أنا…”
“نعم، لذا لا ترى أمامك شيئًا.
لكنني لا أريد حتى أن أكون صديقةً لمن لا يرى شيئًا أمامه، أيها الغبي!”
أنهت حديثها وهي تزأر، ثم صعدت إلى العربة دون أن تلتفت.
عندها فقط، بدأ لوكاس يصرخ وهو يطرق على الباب:
“إيثي! إيثي! لقد كنت مخطئًا! دعينا نتحدث مجددًا!”
لكن لِيام، الذي فهم الموقف بسرعة، حرّك العربة على الفور.
فتحت إيثيل النافذة الصغيرة، ونظرت إليه ببرود، ثم قالت:
“استفق من حلمك يا لوكاس.
كان من الجيد أني عرفتكَ، لكن لا أريد أن أراكَ مجددًا.”
بعد عدّة أيام، في متجر شطائر “جو”.
“هااااه…”
“لماذا تتنهدين بهذا الشكل؟”
قال جوزيف وهو يضع كوب الشاي أمامها.
“سَتُشق الأرض من كثرة تنهداتكِ.”
“أتمنى لو أن ذلك يحدث فعلًا.”
“… هل حصلَ شيءٌ مة؟”
جلس جوزيف أمامها بقلق.
“لقد اتبعت نصيحتكِ وأضفت أنواعًا دافئة من الشطائر، لكنكِ لا تأكلين شيئًا.”
“لا حاجة لتجربتها، يمكنني أن أعرف النتيجة مسبقًا.”
أسندت إيثيل ذقنها على كفّها، وتنشّقت بعمق.
رائحة اللحم الساخن والبصل المحمّص والجبن اللذيذ ملأت المكان.
“وماذا عن الكزبرة؟
هل تخلّيت عنها أيضًا؟”
“انتهت تمامًا صدفة.
طلبت كمية جديدة من الدير، لكن لا أعلم متى ستصل.”
“أوه، يبدو أن شطيرة الكزبرة تلقى رواجًا كبيرًا!”
“لا تذكّريها…”
لوّح جوزيف بيده كما لو كان يتظاهر بالضيق، لكن ملامحه كانت تنضح بالفخر.
“في البداية، الكل كان يسأل: ما هذا الطعم الغريب؟”
“الكزبرة، أليس كذلك؟”
“نعم، تلك العشبة.
يقولون إن طعمها مثل العطر!”
“آه.”
الكزبرة فعلًا لها طعم عطري قوي، وهناك من لا يتحمّلها وراثيًّا أصلًا.
“لكن، إذا جربها أحدهم مرّة، يبقى يتذكرها، أليس كذلك؟”
“بالضبط!
الناس تسمع عنها وتأتي لتجربها، وإن راقت لهم، يعودون مرّتين أو ثلاثًا على الأقل!”
ضحك جوزيف وهو يصف الحالة، وفجأة اقترب رجلٌ من جانب إيثيل وهمس له:
“هيه، جو… هل عندك تلك الشطيرة؟”
“اليوم نفدت المكونات.”
“تشش، كانت لذيذة ومنعشة…”
“جرب شطيرة اللحم بالجبن بدلًا منها؟”
“ممم… أعطني واحدة إذًا.”
تحرّك الرجل مع جوزيف نحو طاولة الطلبات.
قدّم له شطيرة طازجة، ثم عاد وهمس بسعادة:
“منذ أيام، لا يأكل غير شطيرة الكزبرة، رغم أنّه شتمها من قبل وقال إنها مقرفة.”
“ولماذا يطلبها بهذا السرّ؟”
“لأنه يخشى أن يظن الناس أنه غريب الأطوار!”
صحيح، شطيرة فيها لحم ساخن وبصل وكزبرة برائحة العطر قد تكون غريبة في فونيت.
ضحكت إيثيل أخيرًا، ونسيت اكتئابها المؤقت.
“يبدو وكأنه يشتري دواءً سريًّا.
ماذا لو شاع أن الشطيرة تحتوي على مواد مخدرة؟”
“أوه، لا تقولي ذلك!
لو انتشر مثل هذا الكلام، سيكون كارثة!”
“قد تقبض علينا الشرطة!”
“هاها، من يصدّق؟
أنا فقط أقول إنها لذيذة لدرجة الإدمان.”
في الحقيقة، لا يوجد ثناءٌ على الطعام أفضل من هذا.
الطعام الذي يُراد أكله مرارًا وتكرارًا، لا يُملُّ منه أبدًا.
هزّت إيثيل كتفيها بلا مبالاة وقالت:
“ومَن في فونيت يملك مخدرات أصلًا؟
كل ما نملكه هو الفلفل الباهت!”
“لا، لقد سمعت شيئًا…”
خفض جوزيف صوته فجأة، ونظر حوله.
كان الزبائن منشغلين بشطائرهم.
“هناك إشاعة عن دخول دواءٍ غريب هذه الأيام.
يقولون إنه يسبب الهلوسة…”
التعليقات لهذا الفصل " 19"