ميروو:
الفصل 18
بعد ثلاثة أيّام، من المقرَّر أن يُفتتح مطعم فونيت. وقد تمّ تمويلُهُ بشكلٍ مشتركٍ من قِبَل عائلة الكونت ميشلان وعائلة دوق فلينت.
كانت التفاصيل الجوهرية مثل قائمة الطعام والمفهوم العام من مسؤولية عائلة الكونت ميشلان،
بينما تكفّلت عائلة دوق فلينت بأعمال الديكور الداخلي والخارجي، بالإضافة إلى تجهيزات المكان.
واتُّفِقَ على أن يُدار المطعم بالاشتراك بين الطرفين.
وبما أن موعد الافتتاح هو بعد غدٍ فقط، فقد أُنفِقَت بالفعل مبالغ تُقدَّر بمئات الآلاف.
لذا، حتى وإن تمّ فسخ العقد، فلا بُدّ من استرداد تلك الأموال.
“ما الذي يُفكّر فيه دوق فلينت بشأن ذلك المطعم؟ لا يُعقل أن يُفكّر بهدمه بعد أن انتهت كلّ أعمال التجهيز!”
“يبدو أنّه لا يُريد اعتبار الأمر شراكة، بل استثمارًا فقط. يقول إنّه إذا تحقّقت أرباح، فسوف يُعيد أموال الاستثمار مضاعفةً…”
“وماذا قدّموا أصلاً ليقولوا هذا؟!”
حتى سيسيليا، التي كانت تُحاول التزام الهدوء وحساب الأرباح والخسائر، لم تستطع كتمان غضبها أكثر فانفجرت.
فذلك المطعم كان ثمرةَ جهد إيثيل من البداية إلى النهاية.
ولو تحدّثنا بصدق، فلوكاس فلينت لم يفعل سوى تنفيذ تعليمات إيثيل بشأن الزينة وشراء الصحون.
“ما هذه الوقاحة؟!”
“لكن لا يمكننا رفض طلبه بهذه البساطة، سيسيليا. يبدو أن الدوق قد حسم قراره بالفعل… وإذا رفضنا، فقد لا نسترد حتى رأس المال. وهذا سيكون كارثيًا.”
“ماذا عن رفع القضيّة إلى المحكمة النبلاء؟”
اقترح دورانتي هذا الحل الذي بدا بديهيًّا في تلك اللحظة، إذ أنّ دوق فلينت يُمارس ضغوطًا غير منطقية، لذا يمكن رفع الأمر للمحكمة.
لكن الكونت وزوجته هزّا رأسيهما رفضًا في انسجام.
“إن كان الخصم هو دوق فلينت، فليست لدينا ضمانات بالفوز…”
“وحتى إن ربحنا القضيّة، فكم من الوقت سننتظر؟ قد تُجمَّد الأموال لسنوات.”
“هذا صحيح…”
تنهد دورانتي بعمقٍ وهو يشعر بالإحباط، ولحق به الكونت بنفس التنهد المتحسّر.
“يبدو أننا بحاجة لإطلاق سفينة التجارة في أسرع وقت.”
“لكنّنا لا نملك السيولة الكافية حاليًّا. هل قال الدوق إنه سيُواصل الاستثمار في سفينة التجارة؟”
“هل تظنّين ذلك ممكنًا؟”
“إذًا، سنحتاج إلى مستثمرين آخرين أيضًا…”
عاد وجه دورانتي ليفقد لونه تمامًا وهو يُصغي إلى حوار والديه.
الوضع لم يكن جيّدًا إطلاقًا. فبسبب انسحاب دوق فلينت المفاجئ، أصبحت خطّة إطلاق سفينة التجارة مهدّدة.
قبضت إيثيل بقوّةٍ على طرف فستانها.
المطعم وسفينة التجارة كانا في غاية الأهميّة بالنسبة لها.
وإذا فسدت العلاقة مع عائلة دوق فلينت، فإنّ الاستثمار في السفينة سيكون شبه مستحيل.
“لا يمكن أن نسمح بهذا.”
نهضت إيثيل من مكانها بعد صمتٍ طويلٍ.
“سأذهب لأتحدّث معه بنفسي.”
أرسلت إيثيل برقيّةً إلى قصر دوق فلينت تطلب فيها لقاءه، لكنّ الردّ جاء بأنّ الدوق غير موجود، دون أيّ وعدٍ بلقاءٍ لاحق.
وفي اليوم التالي، توجّهت إيثيل بنفسها إلى صالون الاستقبال في القصر دون موعدٍ مُسبق، رغم معرفتها بأنّ تصرّفها يُعدّ غير لائق.
لم يظهر دوق فلينت إلّا بعدما شربت إيثيل ثلاثَ أكوابٍ من الشاي الرديء المذاق.
“أوه، إيثيل . لقد مرّ وقتٌ طويل.”
“أتمنّى أن تكون بخير، سيدي الدوق.”
“تزدادين جمالًا يومًا بعد يوم. سأسمع قريبًا أنك ستتزوّجين.”
“لا تُقل مثل هذا الكلام. لا وقتَ لي ولا نيّة لذلك.”
أجابت إيثيل بابتسامةٍ مشرقةٍ، رغم أنّ كلمات الدوق كانت مليئة بالرسائل المُبطّنة.
وظهر القليل من الانزعاج على وجه دوق فلينت الجشع.
“أسمع أنك مشغولة جدًا هذه الأيام. ما الذي أتى بكِ؟”
“يبدو أنكم أكثر انشغالًا منّي، أليس كذلك؟”
ارتجفت زوايا فمها رغم محاولتها المحافظة على الابتسامة.
“كيف تنسى إشعار فسخ العقد الذي أرسلته أمس؟”
“آه، جئتِ بسبب ذلك إذًا.”
رغم سخرية إيثيل ، ضحك دوق فلينت بصوتٍ عالٍ.
وكان وجهه مزعجًا لدرجة أنّها كادت أن ترمي كأس الشاي عليه.
‘من حسن الحظ أنّ لوكاس قد ورث ملامحه من والدته وليس من والده…’
فكّرت في ذلك وهي تُحاول تهدئة نفسها بالتنفّس العميق.
“كانت خطوةً صادمةً فعلًا. هل هناك أمرٌ بدر منّي أزعجك يا سيدي؟”
“لا، لا شيء. نحن لم نُشارك سوى في بعض الأعمال الثانوية كالتجهيزات، بينما كلّ شيءٍ آخر كان تحت إدارتك.”
“إذًا، لماذا تُقرّرون الانسحاب من المشروع دون حتى التشاور، والمطعم سيفتتح بعد يومين فقط؟”
“انسحاب؟”
قاطَعها الدوق فجأة وقد بدت عليه علامات السخرية، ولوّح بيده كمن ينفي كلامًا غير منطقي.
“ولِمَ أنسحب من مشروع ناجح؟”
“لكن أليس من الأفضل هدم المكان وجعل محلٍّ آخر يحلّ محلّه بدلًا من تركه كما هو؟”
“كلا، لا هذا ولا ذاك.”
بدأت إيثيل تشعر أنّ صبرها بلغ حدّه. الدوق كان يتحدّث بشكلٍ دائري، دون أن يُقدّم إجابةً واضحة.
وبدا أنّ ملامح الغضب قد ظهرت على وجهها، إذ أن دوق فلينت ابتسم بسخريةٍ وقال:
“بما أننا وصلنا إلى هذه المرحلة، فلنتحدّث بصراحة.”
“تفضّل.”
“مع أنّه لا أحد يُنكر أنك الأفضل في مجال الطعام في فونيت، يا إيثيل …”
ما إن بدأ كلامه، حتى قبضت إيثيل على أسنانها. كانت تعرف تمامًا ما الذي سيقوله.
“من غير المعقول أن يعمل دوق فلينت مع ابنة بائع عربات.”
منذ البداية، كان الدوق غير مقتنع بالمشروع.
لقد وافق فقط لأنّ وريثه لوكاس كان متحمّسًا له، ولأنّ عائلة ميشلان كانت تهيمن على توزيع السلع في الإمبراطورية.
لكن رأيه بشأنهم لم يتغيّر قط.
مجموعة من التجار السوقيين دون أصل.
أصلهُ أصحاب عرباتٍ يطرقون الطرقات.
أخفت إيثيل قبضتيها داخل ثنايا فستانها المزخرف.
لقد تعرّضت لمثل هذا النوع من الإهانة مرارًا في حياتها السابقة كمسوّقة.
التصرّف كأنّها بلا كرامة لم يكن أمرًا صعبًا عليها.
ابتسمت بصعوبة.
“لكن، رغم ذلك، لقد وافقتم على الشراكة، وبذلنا جهدًا مشتركًا في المشروع. فلا يصحّ أن تنسحبوا فجأة…”
“انظري، يا إيثيل …”
وقاطَعها من جديد.
“في عالم الأعمال، يجب أن نختار دائمًا ما هو أكثر نفعًا. لا يمكن أن نُدير تجارةً بناءً على الصداقة أو الولاء فقط.”
“…ما هو أكثر نفعًا؟”
لم تُصدّق أذنيها.
كان دوق فلينت يقول بوضوحٍ أنّه اختار خيانة العقد وطعن عائلة ميشلان من الخلف، فقط لأنّه وجد صفقةً أنفع.
“حتى ولو كنتِ ابنة تاجر، فأنتِ لا تزالين مجرّد فتاة صغيرة!”
لم تستطع إيثيل أن تُخفي انكسار تعبيرها، فما كان من الدوق إلّا أن ضحك بصوتٍ مرتفع.
“لماذا لا تتركين هذه الأعمال وتعودين لكتابة المقالات؟ عمّا قريب، سيُفتتح مطعمٌ جديد يحمل اسم أتوود وفلينت. يمكنكِ أن تكتبي عنه، أليس كذلك؟”
أتوود وفلينت.
فهمت إيثيل أخيرًا الصورة الكاملة. لم يكن راضيًا بمكانة عائلة ميشلان، لذا اختار أن يتحالف مع عائلة الماركيز أتوود.
خرج صوتها المرتعش من بين شفتيها:
“أنتم تتعاونون مع عائلة الماركيز أتوود إذًا.”
“في السابق، لم يكن هناك من يُنافس ميشلان في التجارة. لكن الأمور تغيّرت. ألم تسمعي بما اكتشفته بعثة الماركيز في رحلتها الأخيرة؟”
“…”
“إنّه أرخبيل التوابل! مكانٌ تمتلئ أرضه بالتوابل النادرة.”
(ميري: أرخبيل التوابل هو اسم يُطلق على مجموعة جزر تقع في جنوب شرق آسيا، وتُعرف تاريخيًا بأهميتها الكبيرة في تجارة التوابل، خاصة في العصور الوسطى وحتى بدايات العصر الحديث.)
رغم أنّه سخر من مهنتها كتاجرة، كان دوق فلينت أكثر جشعًا من أيّ تاجر في فونيت.
أخذت إيثيل نفسًا عميقًا لتكبح مشاعر الغضب.
ظنّ الدوق أنّها مندهشة من اكتشاف الأرخبيل، فسألها:
“لو كنتِ مكاني، أكنتِ ستتعاونين مع عائلة ميشلان المتواضعة، أم مع عائلة أتوود التي تملك احتكارًا لأرخبيل التوابل؟ ها؟”
التعليقات لهذا الفصل " 18"