2
الفصل 2 :
رمشَ إيدِن ببطء وهو يشعر بجفافٍ في عينيه.
“سيدي المُحامي، لِمَ تُلقي نكاتٍ كهذه في مثل هذا الوقت؟”
“ليست نكتة، فهل لي أن أُكمِل الشرح؟”
قال مُستشارُ العائلة القانوني دون أدنى أثرٍ للابتسام.
“إنْ لَمْ يتمكّن السيّد إيدِن خلال سنةٍ واحدة من الآن مِن كسبِ قلب الآنسة أوليفيا لينوود الصادق، فسيُتَبرَّع بكلّ نصيبه من الإرث إلى المجتمع، وذلك وَفقًا لوصية السيّدة مَيڤ أوفلين.”
بعد صمتٍ خانق، سأل إيدِن:
“اسمُها مَن؟ أوليڤ وود؟”
“أوليفيا لينوود. مالكةُ مزرعة لينوود في قرية سْنوبيري بجزيرة إينيس.”
“ومَن تكون هذه؟”
اختفى البكاء والاضطراب تمامًا عند سماعه اسمًا لم يسمع به قط.
“سيدي المُحامي. أنا لم أزر مكانًا كهذا من قبل، ولا أعرف هذه المرأة أصلًا.”
كان رأسه مُثقَلًا بعد ليلٍ دون نوم، ومع ذلك حاول إيدِن التفكير جاهدًا. هل سبق له أنْ استنزف دماغه بهذا الشكل خلال السنوات الماضية؟
“ثمّ ما معنى ‘الحبّ الحقيقي’؟ لا يُعقل أن تكون جدّتي وضعت شرطًا خطيرًا كهذا بهذه العشوائية. كيف يُمكن حساب مشاعر الناس؟ وكيف يُحدّد إنْ كانت صادقة أم لا؟ ومَن سيحكم بهذا أصلًا؟”
“بالطبع، لم تكن السيّدة الراحلة لتُهمِل الجوانب القانونية.”
ناولَهُ المُحامي ظرفًا مختومًا. كانت وصيّةً خاصة كتبتها جدّته الكبرى وموجّهة إليه مباشرة.
فتح إيدِن الظرف بسرعة وبدأ يقرأ الوصية، بينما تابع المُحامي الشرح بصوتٍ خالٍ من الانفعالات.
“كما ذكرتُ، المُهلة سنةٌ واحدة. ومعايير تحقيق الشرط المذكور هي إحدى الآتي: عقدُ زواجٍ رسمي بين الطرفين، أو خطوبة، أو قيامُ الطرفين بتبادل الهدايا المُخصَّصة للخطوبة بما يرقى إلى تعهّدٍ مُلزِم، أو إقرارُ ثلاثة شهودٍ مستوفين لشروط التوثيق القانوني…”
“لحظة، أنا الطرف الثاني؟ أنا الحفيد الوحيد! مَن تكون هذه المرأة بالنسبة لجدّتي أصلاً؟”
قلب إيدِن الورقة، ونفض الظرف، وبحث عن أي سطرٍ يمكن أن يغيّر شيئًا، لكن دون جدوى.
“توقيع جدّتي بخطّ يدها موجود… وهناك أيضًا توثيقٌ متبادل من المُحامي والجهة الرسميّة… موجود.”
كانت وصية ذات قوّة قانونيّة لا مجال للطعن فيها.
‘ولم يكن على الظرف أيّ أثرٍ للتلاعب.’
كان إيدِن صاحب عينٍ ثاقبة منذ صغره. ولو كان هو عاجزًا عن اكتشاف أيّ تزوير، فلن يتمكن أحد آخر من ذلك.
‘ثمّ مَن الذي سيستفيد من تزوير شيء كهذا؟’
وفي تلك اللحظة، وجد نفسه يُحدّق بالمُحامي دون وعي. كانت تلك اللحظة التي اكتشف فيها أنّه بدأ يشكّ بالناس.
“ألا تكون هذه… أوليڤ ابنة حضرتك السرية مثلًا؟”
“أبدًا.”
ردّ المُحامي بهدوء، كأنه كان يتوقع أن يسمع شيئًا كهذا. ثم تابع، كأنه يختبر ردّ فعل إيدِن:
“ليس الأمر بلا سبب، وأنت تعلم ذلك.”
“وما هو؟”
“فكّر قليلًا يا سيّد إيدِن. تذكّر هواية السيّدة الراحلة.”
السيّدة مَيڤ أوفلين، جدّة إيدِن الكبرى.
الجيل الثاني من المهاجرين، بدأت كغسّالة بسيطة ثم أصبحت أوّل مليونيرة في البلاد، أسطورةٌ في عالم الأعمال.
وظّفت أفراد العائلة واحدًا واحدًا ووسّعت إمبراطوريّة العائلة، ودعمت أبناء المهاجرين من أبناء بلدها الأصلي، فحازت احترام الجميع ومحبتهم.
لكن حتى هذه العظيمة كانت لها هواية واحدة سيّئة…
“…آه، دوري أنا الآن!”
كانت تُحبّ لعب دور “الخاطبة”، تجمع أيّ رجل وامرأة تراهما مناسبَين كما يحلو لها.
“كيف نسيتُ هذا؟”
غطّى إيدِن رأسه بيدَيه وبدأ يندب مثل طفل، بينما حاول المُحامي كتم ضحكة فتنحنح بدلًا من ذلك.
“يا عمّ مَكدَوُل! أنا على وشك أن أُباع لامرأة لا أعرفها حتى، وأنت تضحك؟”
“وهل في الأمر ما يُقلق؟ طالما السيّدة الراحلة هي مَن اختارت تلك الفتاة.”
“تتكلّم بسهولة لأنها ليست مشكلتك! صحيح أنها جدّتي، لكنها لا تُطاق أحيانًا. لو كان لديها مخطّطٌ كهذا لكانت أخبرتني على الأقل!”
كان يتذمّر كأنه يلوم حيًّا لا ميّتًا. لقد تلاشى حزنه وشعوره بالذنب لعدم وجوده بجانبها قبل الرحيل، ولو رآهَتْه جدّته في هذه اللحظة لكانت سعدت كثيرًا.
ابتسم السيّد مَكدَوُل لأول مرة ذلك اليوم.
“لا تقلق كثيرًا. لقد كانت السيّدة الراحلة تُحسن اختيار الناس دائمًا.”
كان يُقال إنّ “الخِطبة إنْ نجحت فثلاثة كؤوس بيرة، وإنْ فشلت فثلاث لكمات”، لكن جدّته لم تتلقَّ لكمة واحدة في حياتها.
“كانت تجعل أسوأ الأعداء يتحوّلون إلى أحبّ اثنين بمجرد أن تُقرّر تزويجهما.”
“حسنًا… يبدو أنّ هذا سيكون أوّل فشلٍ لها.”
ثمّ توقّف إيدِن فجأة، وقد تذكّر شيئًا.
فآخر زيارةٍ قام بها لجدّته قبل وفاتها كان قد دار فيها حديثٌ بسيط حول الزواج.
“إيدِن يا بُني، إنْ كنت لا تعمل ولا تدرس، فلِمَ لا تتزوّج على الأقل؟ لعلّ الزواج يجعلك رجلًا يعتمد عليه.”
“وأنتِ؟ أنتِ لم تتزوّجي أيضًا.”
“وأنا وحدي كفيتُ وقمتُ بعمل اثنين، أليس كذلك؟”
في ذلك الوقت ظنّها مجرّد محادثة عابرة خلال فترة مرضٍ قصير. ولم يدرِ أنّ تلك ستكون لحظاته الأخيرة معها: تُحدّق فيه بعينين صارمتَين ثم تنفجر ضاحكة، كما كان يحدث دائمًا.
غطّى إيدِن عينَيه براحته، وقد صارتا حمراء من جديد. فقال السيّد مَكدَوُل بحذر:
“سيّد إيدِن، هناك قولٌ قديم: يجب تنفيذ آخر كلمات الميت ولو كانت خصومة.”
“ها…”
كان قراره سريعًا. نهض من مقعده وقال:
“سأقابلها. على الأقل يجب أن أراها كي أعرف ما العمل.”
—
“لكن الزواج بعقدٍ صوري؟ مستحيل! كلّ مَن يبدأون بعقدٍ صوري ينتهون بزواجٍ حقيقي.”
“إيدِن، أنت تشاهد الكثير من المسرحيات.”
بعد انتهاء مراسم العزاء، توجّه إيدِن مباشرةً إلى المزرعة المعنيّة. رافقه صديقه منذ الطفولة والمحامي الجديد، بَيتي.
كان بَيتي في غاية الحماس، فقد استلم أول مهمة قانونية رسمية له، بعد أن أوكله السيّد مَكدَوُل بمتابعة ملفّ إرث إيدِن.
“كما هو متوقّع من السيّدة الراحلة! هذه الوصية مذهلة! لا توجد فيها أيّ ثغرة يمكن استغلالها! إيدِن، ستقع في الشَّرَك لا محالة.”
“وهل هذا ما يُقال لموكّلك؟ كان عليّ أن آتي بفينيغن بدلًا منك.”
كان فينيغن شريك مَكدَوُل في المكتب وأحد أقرب المحامين إلى جدّته الراحلة.
“لكنّه مُسافرٌ بسبب حالةٍ طارئة خارج العاصمة.”
“إذًا مَكدَوُل؟”
“إنّه مشغول بإجراءات الإرث الخاصة ببقية أفراد العائلة.”
“سأنتظر حتى ينتهي ثم—”
“تفكيرٌ غير منطقي. يا إيدِن، السنة التي مُنحت لك بدأت بالفعل من يوم الوفاة. يجب أن تقابل تلك الفتاة في أسرع وقتٍ ممكن، بل وتصل معها لاتفاقٍ إن أمكن! احمد الله أنّ صديقك هو محاميك.”
“أُقدّر هذا يا بَيتي… لكنك متحمّس أكثر من اللازم.”
“وما ذنبي؟ الأمر ممتع! إيدِن أوفلين، أخيرًا سيتزوّج!”
تنهد إيدِن بحزن، فقد كان الجميع يتعامل مع الأمر بخفّة لأنه لا يعنيهم.
استغرقت الرحلة من العاصمة إلى الجزيرة يومين. وعندما وصلا إلى الميناء، كانت الشمس تميل نحو الغروب.
تكوّنَت جزيرة إينيس من ثلاث مدن ساحلية وعددٍ من القرى الداخلية. ركب الاثنان القطار الذي يتّجه نحو القرية.
أسند إيدِن رأسه إلى النافذة وتمتم:
“في منزلنا، جدّتي هي الإله، وكلامها وحيٌ منزّل. لكن لو لم أرث شيئًا وصرتُ فقيرًا، فماذا كانت ستفعل؟”
“إيدِن، بصراحة… حتى لو اعتمدنا فقط على المبالغ التي أعطتك إياها جدّتك خلال حياتها، فستعيش كملكٍ طوال عمرك.”
“هذا ينطبق على الناس الطبيعيين.”
“صحيح… أما أنت فحالة خاصة.”
على عكس إخوته الأكبر منه، لم يكسب هذا الابن الأصغر آخر فلسٍ بعمله.
لم يكن ثابتًا في أي شيء؛ يتعلّم مسكَ الدفاتر ثم يتركه، يتعلّم البيع ثم ينسحب.
“وفوق ذلك، ذوقُك العالي جعل مصاريفك في السماء.”
نظر بَيتي إلى صديقه، فوجده يحدّق في المناظر بملامحٍ حزينة، كأنه بطل رواية مأساوية.
“كنتُ أريد الاستفادة من كوني وُلدت في عائلة غنيّة، لأعيش مرتاحًا من دون أن أحرّك أصبعًا حتى أموت.”
“ومع ذلك، بوجهك هذا، تبقى محظوظًا.”
اقترب القطار من وجهته. صَفَق بَيتي بيدَيه مرتين لجذب انتباهه.
“على كلّ حال، يجب أن تُحسّن انطباعك أمام الآنسة لينوود، أليس كذلك؟ واليوم هو موعد رؤية الفتيات لمستقبلهنّ الزوجي، لذا سأُعطيك جملةَ ترحيب تناسب المناسبة. أعرف ما تحبّه النساء.”
نظر إليه إيدِن بارتياب، فهو يعلم أنّ عدد علاقات صديقه يساوي عدد سنوات عمره بلا حبيب.
“الجملة التي كتبتها لي… لا تبدو جيّدة.”
“مع وجهك ستبدو رائعة.”
وهكذا خرجت الجملة التي قالها في ذلك اليوم الخاص بعيد القدّيسين والشهداء:
“إنّه أنا. زوجكِ.”
“…ما هذا؟”
وتجمّد الجوّ تمامًا.
التعليقات لهذا الفصل " 2"