1
الفصل 1 :
كان عيد موت القدّيس يومًا عاديًّا تمامًا بالنسبة إلى ليڤ.
بعد أن أنهت ليڤ عملها في وقتٍ متأخّر من الليل، أسرعت بالاستحمام ثمّ ارتمت على السرير. وانتشرت رائحة الأعشاب المُجفّفة من كيس العطر الموضوع بجانب الوسادة.
“رائحته طيّبة.”
حين يعيش المرء بمفرده، تكثر أحاديثه مع نفسه. أغمضت ليڤ عينيها وهي ما تزال مستلقية، ورفعت يديها بالدعاء الذي لن يسمعه أحد.
“أيّها القدّيس الذي رحل قبل زمنٍ طويل في مثل هذا اليوم، أعتذر لأنّني لا أحتفل بيومك. لكن الاحتفال بيوم الوفاة يبدو غريبًا بعض الشيء أيضًا. على أيّ حال، أتمنّى أن تكون بخيرٍ وسلامٍ في العالم الآخر.”
وفي اللحظة التي كادت تغفو فيها، انفتحت عيناها بخفوت على صوت طرق الباب. كانت الساعة قبل منتصف الليل بقليل، ولم يكن التاريخ قد تغيّر بعد.
“مَن يا ترى في هذا الوقت؟”
انتفض عقل ليڤ من الصدمة، فأمسكت البندقية المُعلّقة على الحائط. لم تكن مُعبّأة، لكنّها كانت ستستخدمها عصًا إن اضطُرّت.
لم تفتح ليڤ الباب، بل سألت:
“مَن هناك؟”
“هل هذه مزرعة لينوود؟”
كان صوت رجلٍ شاب. تُرى، هل وُجد في القرية رجلٌ يملك مثل هذا الصوت الجميل؟
“أليست هذه دار الآنسة أوليفيا لينوود؟”
“نعم، لكن مَن يكون حضرتك؟”
فتحت ليڤ الباب عرض كفٍّ واحد فقط، والتقت عيناها بعيني رجلٍ وسيمٍ بقدر ما كان صوته جميلًا.
“مرحبًا، يا أوليفيا.”
كان الرجل جميلًا ووسيمًا، لكن بدا عليه شيءٌ من الخفّة. يصلح ممثّلًا مسرحيًّا أو عارضًا في الإعلانات.
وبينما كانت تنظر إليه، تذكّرت الخرافة المرتبطة بهذا العيد. فتحت خزائن ذاكرتها الطفوليّة.
‘لقد قالت أمّي ذلك. إن اغتسلت فتاةٌ غير متزوّجة قبل النوم، ووضعت غصن روزماري تحت الوسادة، وصلّت للقدّيس في هذا اليوم… فسترى شخصًا ما في حلمها.’
وكانت بضع أغصان من الروزماري قد اختلطت بالفعل في كيس العطر الموضوع عند رأسها.
‘مَن كان من المفترض أن يظهر…؟ آه!’
وفي اللحظة التي تذكّرت فيها ليڤ الإجابة بنفسها، ابتسم الرجل، الذي بدا كأنه خارج من مجلة أزياء، وقال:
“إنّه أنا. زوجُكِ.”
فاليوم هو اليوم الذي يُري فيه القدّيسُ الفتاةَ زوجها المستقبلي.
—
نادي نخبة الرجال الخاص، في مكانٍ ما في العاصمة.
في هذا النادي الذي لا يستطيع أحدٌ دخوله بلا تزكية من عضوٍ قديم، مهما كان من عائلةٍ مرموقة أو ثريًّا، كانت أفضل المقاعد دومًا محجوزة باسم إيدن أوفلين.
كان إيدن معروفًا لا باسمه فقط، بل بكونه: “تعرفه، ذلك الحفيد الأصغر لعجوزة آل أوفلين المليونيرة.”
وكان أيضًا مشهورًا بأنّه كثير الظهور في المقاعد الخاصّة في المسارح أكثر من ظهوره في شركات عائلته الكثيرة. صحيح أنّ المسرح كان أيضًا أحد مشاريع آل أوفلين، لكن إيدن لم يكن يذهب إلى هناك بصفته موظّفًا.
كان شابًّا يقضي أوقاته في الحدائق وعلى ضفاف البحيرات وفي محالّ القبعات الجديدة وفي المتاحف وقاعات الرقص. أماكن لا تمتّ للإنتاجيّة بصلة، على طريقة آل أوفلين.
“أتعرفه؟ ذلك الحفيد الأصغر الذي لا يعرف إلا التسكّع، بخلاف بقية أبناء العائلة المهذّبين.”
“نعم، ذاك الذي يصرف كثيرًا رغم أنّه لا يعمل شيئًا؟”
ومع تداول الحديث، ظهر أشخاصٌ يحملون نوايا خبيثة.
‘إن تمكّنتُ من إقناع ذلك المغفّل، فربّما أحصل على غنيمة كبيرة.’
كان إيدن يظهر حيثما وُجدت المتعة في العاصمة، لكن أكثر الأماكن التي كان يزورها هو هذا النادي الرفيع فوق العادة.
فراح البعض يتوسّطون ويدفعون الرشاوى ليدخلوا النادي، طمعًا في التقرب منه. ولم يكن أحدٌ يحتاج إلى من يعرّفه، إذ يُعرف إيدن من النظرة الأولى.
“أنت عضوٌ جديد؟ أهلاً وسهلاً!”
“…هاه. تبدو الإشاعات صادقة فعلًا.”
كان شابًّا طويلًا جميل الطلعة وأنيقًا إلى حدّ يُخرس الألسنة.
ورغم كونه من آل أوفلين، لم يكن يتعالى على الغرباء، بل كان يقترب منهم بسهولة. وكان فتح الحديث معه أسهل من شرب حساء الشوفان الساخن.
لكن مصادقته حقًّا لم تكن بتلك السهولة.
فعلى سبيل المثال، إن اصطحبه أحدهم إلى حانة مرموقة ذات سمعة طيّبة:
“قلتَ نذهب إلى مكانٍ جيّد، فإذا به حانة؟ لماذا يشرب الناس شيئًا سيّئ الطعم وسيّئًا للجسم؟”
أو إلى صالة سيجار فاخرة مليئة بأنواع التبغ:
“انظر إلى الدخان! كحّ… ورائحته قبيحة! سأخرج قليلًا.”
أو إلى قمارٍ في الأزقّة الخلفيّة:
“هممم… ما الممتع في خسارة المال عمدًا؟”
أو الورقة الأخيرة، مكانٌ تعجّ به النساء المتبرّجات:
“أنا… أنا اعتقدتُ أنّك صديقٌ طيّب! سأعود فورًا!”
وكان المحتالون ينظرون إلى ظهره وهو يهرب محمرّ الوجه ويتمتمون:
“هل هذا الشابّ رجلٌ بحق؟”
وبهذا، كان أحدهم اليوم يُسحب خارج النادي وهو يصرخ غاضبًا:
“أيها الأحمق يا أوفلين! فعلتَ ذلك عمدًا، صحيح؟ كنتَ تستمتع بأن أتنزّل لك وأداريك، أليس كذلك؟!”
ورغم الصخب خارجًا، لم يفعل إيدن سوى أن مال برأسه جانبًا.
“يا للعجب. شخصٌ آخر خرق القواعد؟ غريب. لا أظنّ قواعدنا صارمة إلى هذا الحد.”
لم يخطر بباله قطّ أنّ الرجل طُرد لأنّه حاول شقّ طريقه نحو إيدن عبر الرشوة. فالحياة التي لا تحتاج فيها إلى الشكّ بغيرك، كانت امتيازًا وُلد به.
وكانت حياة إيدن تسير بسهولة أكبر من حياة الآخرين… إلى أن جاء ذلك اليوم.
“إيدن.”
جاءه صديقه بَـني مسرعًا وهمس في أذنه بشيءٍ ما. فوقف إيدن مذعورًا.
“جدّتي العظيمة…؟”
—
رحلت “ذات اليد الذهبية” ميف أوفلين عن العالم.
رغم أنّها كانت تستريح بسبب زكامٍ شديد في هذا الشتاء القاسي، فإن الجميع ظنّ أنّها ستنهض عمّا قريب، على طريقتهم المعتادة، ولهذا وقع الخبر صادمًا.
“لقد أسرعت الخادمة بإحضار الأب الكاهن، وشهد لحظة رحيلها. تقول إنّها أغمضت عينيها بسلام.”
لم تتزوّج ميف يومًا، لكنّها كانت تحبّ أبناء أخيها وذريّته كأنّهم أولادها. ولذلك امتلأت دارها بالزوّار حتى ساعةٍ متأخرة من الليل.
“شكرًا لحضورك.”
“رحمها الله. كانت امرأة عظيمة.”
ومع اقتراب الفجر، وبينما وقف الأقارب والزوّار قرب النعش يتبادلون الحديث، اجتمع الإخوة السبعة من آل أوفلين في غرفة صغيرة داخل المنزل ليستريحوا قليلًا.
دخل الرابع وهو يحمل بضع كؤوس جعة في يديه.
“مَن يريد جعة؟”
“أنا.”
“وأنا كذلك.”
وقدّم كوبًا لإيدن الجالس متكوّرًا في زاوية الأريكة، لكن إيدن هزّ رأسه.
“آه، صحيح. صغيرنا لا يعرف طعم الجعة. اذهب واشرب ماء لو أردت.”
“كيف تقدرون أنتم على ذلك؟ جدّتي العظيمة رحلت.”
أجابهم إيدن بأنفٍ محمرّ ووجهٍ ممتلئ بالدموع، وقد شوّه البكاء قسمات وجهه الوسيمة.
“لو كانت مريضة بهذا القدر، كان يجب أن تستدعينا منذ البداية. وأنا… كنتُ أتسكّع بلا مبالاة…!”
“توقّف، يا أحمق.”
نقرت أخته السادسة جبينه بخفّة، وتوالت كلمات اللوم والحنان من إخوته.
“تماسك. لا يوجد ما هو أسوأ من شخصٍ يبكي بهذا الشكل حين يكون في موقع المُعزّي.”
“ألا تعرفين شخصيّتها؟ لم تكن لترغب في لحظة وداعٍ حميميّة بين الأحفاد.”
“دعوه يرتاح قليلًا. كان مدلّلها الأثير.”
وبينما يتبادل الأشقّاء الحزن والإرهاق، فُتح الباب بعد طرقٍ لطيف.
“وجدتكم أخيرًا.”
“أهلاً، أستاذ المحامي. شكرًا على جهودك.”
كان الرجل، الذي غارت عيناه من قلّة النوم، محامي ميف الخاصّ، السيد مكدوال. نظر مباشرةً إلى إيدن.
“هناك أمرٌ عاجل يجب إبلاغ السيّد إيدن به، يتعلّق بوصيّة الراحلة.”
“إلى الصغير فقط؟ هكذا فجأة؟”
“سنراها جميعًا عند قراءة الوصيّة، فلماذا وحده؟”
لم يُجِب المحامي. فاكتفى الأكبر بقولٍ واحدٍ بنبرةٍ حازمة:
“دعوه يتحدّث معه على انفراد.”
وبهذا خرج الإخوة السبعة في لحظة، وبقي إيدن وحده مع المحامي.
ماذا يخبّئ له في هذه اللحظة الحرجة وسط العزاء وتزاحم الأعمال؟
“بخصوص نصيبك من الميراث يا سيّد إيدن…”
وصل صوت المحامي إلى آذان إيدن وكأنّه بعيدٌ جدًا.
“لن يُسلَّم لك إلا إن نجحتَ خلال عامٍ واحد في نيل ‘الحبّ الحقيقي’ للآنسة أوليفيا من مزرعة لينوود.”
التعليقات لهذا الفصل " 1"