الفصل 11
أدركتُ متأخراً أنَّ كلامي كانَ وقحاً للغايةِ. لكنْ الاعتذارُ لا يتناسبُ معَ شخصيةِ رينيه.
بدلاً من ذلكَ.
“لا تقلقْ. لن يكونَ هناكَ ما يجعلكَ مثيراً للشفقةِ بعدَ الآنَ.”
وعدتُهُ بغطرسةٍ وأنا أُمرِّرُ يدي على الأثرِ الأبيضِ المتبقي على مِعصَمِ فريدريش.
ارتعشَ فريدريش وسحبَ يدَهُ بسرعةٍ من قبضتي.
“هل تتألَّمُ؟”
“…لا.”
لكنْ لماذا سحبَ يدَهُ و كأنه لُدِغَ بالنار؟
كنتُ مُتعجبة، ولكنْ قبلَ أن أسألَ، قُدِّمَ النبيذُ المُقبِّلُ.
قمتُ بتحيَّةِ فريدريش بلا وعيٍ، وبينما كُنتُ على وشكِ أن أشربَ رشفةً، خطرَ لي فجأةً شيءٌ.
“لكنْ هل يمكنكَ أن تشربَ؟”
نظرَ إليَّ فريدريش بتعبيرٍ حائرٍ.
“ستعودُ طفلاً قريباً.”
“…ليسَ الآنَ بعدُ.”
لا، معَ ذلكَ، معدَّلُ تحلُّلِ الكحولِ موجودٌ، فهل يمكنُ لِكبدِ طفلٍ أن يتحمَّلَ ذلكَ؟
أصبحتُ جِدّيةً لِفترةٍ وجيزةٍ، ثمَّ في النهايةِ أخذتُ كأسَ فريدريش.
تجاهلتُ نظرتَهُ المُندهشةَ وطلبتُ من إِلزا أن تُحضرَ لهُ عصيرَ برتقالٍ.
بعدَ فترةٍ، عندما مُلِئَتْ يدا فريدريش بعصيرِ البرتقالِ المُنعِشِ، ابتسمتُ بارتياحٍ.
على النقيضِ منِّي، كانَ وجهُ فريدريش مُتجعِّداً. تجاهلتُ ذلكَ وقرعتُ كأسَهُ بكأسي.
كانَتْ مقبِّلاتُ العشاءِ عبارةً عن كاناپيه معَ كبدِ البطِّ.
الكاناپيه :
بينما كُنتُ على وشكِ التقاطِ واحدةٍ ووضعِها في فمي بلا وعيٍ، شعرتُ فجأةً بلمسةٍ حادَّةٍ على شفتيَّ.
عندما أدرتُ نظري، رأيتُ فريدريش يرفعُ قطعةَ الكاناپيه إلى فمي. ابتسمتُ بهدوءٍ وقلتُ:
“يمكنُني أن آكُلَ وحدي.”
ربما اعتبرَ ذلكَ رفضاً، فبدأَ فريدريش يسحبُ الكاناپيه بهدوءٍ. هل سبَّبتُ لهُ حرجاً كبيراً؟
فتحتُ فمي بشكلٍ مُندفعٍ وقضمتُ قطعةَ الكاناپيه. شعرتُ بأصابعِهِ وهي تتصلَّبُ عندَ مُلامستِها لِشفتيَّ.
“إنَّهُ لذيذٌ.”
“…..”
“لأنَّ الرفضَ المُتواصِلَ لن يكونَ لائقاً بزوجي المستقبليِّ.”
نظرَ إليَّ فريدريش بعينينِ مُتَّسعتينِ. نظرتُ إلى الكاناپيه الذي لا يزالُ في يديَّ وسألتُ:
“لا تُريدُ أن أُطعمكَ أيضاً، أليسَ كذلكَ؟”
ارتعدَ وهزَّ رأسَهُ بسرعةٍ.
يا لهُ من رفضٍ شديدٍ.
في النهايةِ، دخلَتْ قطعةُ الكاناپيه التي التقطتُها فمي.
“…لحظةٌ.”
عندئذٍ، فتحَ فريدريش فمَهُ بحذرٍ.
“هل لي أن أتصرَّفَ بوقاحةٍ؟”
ظننتُ أنَّهُ سيذهبُ إلى الحمَّامِ، فأومأتُ برأسي.
لكنَّ فريدريش مدَّ يدَهُ إلى فمي بحزمٍ، ومسحَ بخفَّةٍ جانبَ شفتيَّ.
نظرتُ إليهِ بحيرةٍ، فنظرَ فريدريش للأسفلِ بسرعةٍ وشرحَ بصوتٍ خافتٍ.
“لقد كانَ هناكَ فُتات.”
“آه، شكراً لكَ.”
“…على الرحبِ.”
هذا يجعلُهُ يبدو وكأنَّهُ خادمٌ حقاً. يبدو مُريحاً أيضاً.
ابْتَلَعتُ هذهِ الكلماتِ في داخلي، وتناولتُ النبيذَ الأحمرَ رشفةً بعدَ رشفةٍ.
***
…لم أشربْ سوى بضعِ كؤوسٍ، بالتأكيدِ؟
“آه، رأسي…”
استيقظتُ وأنا أشعرُ وكأنَّ رأسي سينفجرُ.
“يا إِلزا، أعطِني ماءً، ماءً…”
تمدَّدتُ بيدي أبحثُ عن كأسِ الماءِ. لمستُ شيئاً ناعماً وصلباً. إنَّهُ كبيرٌ جداً ليكونَ كأساً…
‘..انتظرْ، مررتُ بموقفٍ كهذا من قبلُ، أليسَ كذلكَ؟’
قفزتُ بسرعةٍ وتأكَّدتُ من هُويَّةِ ما كنتُ أمسكُهُ، ووضعتُ يديَّ على فمي.
كانَ فريدريش، الذي أمسكتُ بصدرِهِ، ينظرُ إليَّ بعينينِ مُضطربتينِ.
ما الذي أتى بهِ إلى سريري؟
“…هل أحضرتْكَ إِلزا إلى هنا بمُفردِها مرةً أُخرى؟”
سألتُ بحذرٍ، لِأنَّني لم أتذكرْ شيئاً على الإطلاقِ. عندئذٍ، ارتعشَتْ رموشُ فريدريش وهو يُخفِضُ بصرَهُ ويهزُّ رأسَهُ.
“إذَنْ، هل أنا منْ…”
“جئتِ أنتِ.”
أجابَ فريدريش بصوتٍ مُنهَكٍ.
“إلى غرفتي بنفسِكِ.”
عندَ سماعِ ذلكَ، نظرتُ حولي بسرعةٍ.
‘تبًا.’
صحيحٌ. لم يكنْ هذا هو السريرُ أو الأثاثُ الذي أتذكَّرُهُ.
“…أنا آسفةٌ. لقد فشلتُ في وعدي وجعلتُكَ تشعرُ بالبؤسِ في أولِ يومٍ نصلُ فيهِ.”
اعتذرتُ بسرعةٍ وسألتُهُ بحذرٍ، وأنا أُراقبُ ردَّ فعلِ فريدريش.
“هل قمتُ بأيِّ خطأٍ…؟ في الحقيقةِ، ليسَ لديَّ أيُّ ذاكرةٍ حول ما حدث بالأمس.”
“…لا شيءَ على الإطلاقِ؟”
“هل، هل تصرَّفتُ بطريقةٍ غيرِ لائقةٍ معكِ، أو ما شابهَ ذلكَ؟”
تجمَّعَتْ كلُّ أنواعِ الأفكارِ في رأسي، وانتظرتُ إجابتَهُ بقلبٍ مُضطربٍ.
نظرَ إليَّ فريدريش طويلاً، ثمَّ تنهَّدَ وفتحَ فمَهُ.
“لقد نمتِ بجانبي وحسبُ.”
“…حقاً؟”
“ليسَ لديَّ سببٌ لأكذبَ.”
“هذا صحيحٌ. أنا أُصدِّقُكَ.”
ابتسمتُ بحرجٍ وحاولتُ التربيتَ على كتفِ فريدريش.
لكنَّهُ ارتعشَ ولوَى كتفَهُ بعيداً، فسحبتُ يديَّ بخجلٍ.
“أنا آسفةٌ على أيِّ حالٍ. آه… أنا لستُ شخصاً يثملُ بهذهِ السهولةِ.”
أن أكونَ ضعيفةً هكذا تجاهَ الكحولِ. يبدو أنَّ قدرتي على تحليلِ الكحولِ اختفتْ معَ قُدرتي السحريةِ.
‘جميعُهُم سيعتقدونَ أنَّ المرأةَ التي كانتْ تشربُ كالأسودِ قد ثملتْ، وهذا غريبٌ.’
في الواقعِ، كانتْ هذهِ هي المشكلةُ الأكثرُ جِدّيةً الآنَ. اعتذرتُ لِفريدريش مرةً أخرى وغادرتُ الغرفةَ.
“يا إلهي!”
كانَتْ إِلزا واقفةً عندَ البابِ. كبتُّ شهقتي وحيَّيتُها بابتسامةٍ مُحرَجةٍ.
“مرحباً يا إِلزا.”
بدلاً من الإجابةِ، قدَّمَتْ لي إِلزا كوباً منَ الماءِ بالعسلِ. بينما كُنتُ أشربُهُ دُفعةً واحدةً.
“لقد كُنتُ غيرَ مُؤهَّلةٍ كخادمةٍ الليلةَ الماضيةَ.”
“كَح كَح كَح!”
اختنقتُ وسعلتُ بشدَّةٍ، وتابعَتْ إِلزا كلامَها.
“أن أسمحَ لكِ بالانخراطِ في مثلِ هذا الأداءِ المُتقنِ لِأخذِ كلامِكِ حرفياً.”
“ماذا؟”
“سأتصرَّفُ بذكاءٍ أفضلَ في المستقبلِ.”
بينما كنتُ أبدو مُندهشةً عمَّا تتحدَّثُ عنهُ، اجتاحَتْني موجةٌ منَ الذكرياتِ.
— يا صاحبةَ السموِّ، هل أُحضِرُ الأميرَ فريدريش؟
— ماذا؟ لا، لا. هذا وقتُ نومِهِ.
— لم تبلغِ الساعةُ العاشرةَ بعدُ.
— يجبُ أن ينامَ الأطفالُ الآنَ لِكي يصبحو أطول.
تبًا، بعدَ كلِّ هذا ذهبتُ إلى غرفتِهِ بنفسي.
“سامحيني على تقصيري، أيَّتُها الأميرةُ. أنتِ شخصيةٌ جريئةٌ جداً، لدرجةِ أنَّني أنسى أحياناً أنَّ الأميرةَ إنسانةٌ أيضاً، وأنَّها يمكنُ أن تشعرَ بالحرجِ.”
“…هاها.”
لم أستطعِ الإنكارَ، ورأسي يؤلمُني لِدرجةِ أنَّني لم أستطعْ حتى إظهارَ ذلكَ.
عُدتُ إلى غرفةِ النومِ وأنا أتمنى البكاءَ منَ الإحراجِ.
يجبُ أن أتوقَّفَ عنِ الشربِ في المستقبلِ. سأشربُ النبيذَ المُقبِّلَ فقط من حينٍ لآخرَ.
“طلبَ الدوقُ روميل مُرافقتَكِ في حفلِ النصرِ غداً.”
نقلتْ إِلزا إليَّ أخباراً غيرَ مُتوقَّعةٍ بينما كنتُ أُعالجُ صداعَ الكحولِ بشربِ الماءِ. عبستُ وسألتُ:
“هل هناكَ أيُّ احتمالٍ أن يكونَ الدوقُ روميل لا يعلمُ بوجودِ فريدريش؟”
“لا يوجدُ.”
“إذَنْ، كيفَ يجبُ أن أُفسِّرَ عرضَهُ لِمُرافقتِي؟”
“ربما يعتقدُ أنَّ شخصيةً عظيمةً مثلَكِ، قد تكونُ أولَ إمبراطورةٍ لشتاده، لن تتزوَّجَ أميرَ مملكةٍ مهزومةٍ.”
هزَّتْ إِلزا كتفَيها وكأنَّها تقولُ إنَّهُ لا بُدَّ أنَّهُ يُفكِّرُ بهذهِ الطريقةِ. طلبتُ من إِلزا أن ترفضَ عرضَهُ.
ثمَّ اقترحتُ على فريدريش بأدبٍ أن يتناولَ العشاءَ معي. يجبُ أن أعتذرَ بشكلٍ صحيحٍ.
“تذَكَّرْ، أنا لا أُجبِرُكَ على الإطلاقِ.”
“حسناً.”
“…اِسمعْ كلامي حرفياً، حسناً؟”
شعرتُ بقليلٍ منَ القلقِ، لكنَّ الأمرَ كانَ أفضلَ من أن أذهبَ وأقولَ لهُ بنفسي.
لحُسنِ الحظِّ، وافقَ فريدريش على عرضِ العشاءِ، وطلبتُ أن يتمَّ إعدادُ مأدبةٍ رائعةٍ.
ارتديتُ فُستاناً أحمرَ زاهياً مثلَ التفاحِ لِأؤكِّدَ صِدقَ اعتذاري، وانتظرتُ حلولَ المساءِ.
عندَ غروبِ الشمسِ، جاءَ ضيفٌ غيرُ مرغوبٍ فيهِ.
“صاحبةُ السموِّ، الدوقُ روميل يطلبُ مقابلتَكِ.”
هل هذا بسببِ رفضي لطلبِهِ للمرافقةِ؟ عبستُ ونظرتُ إلى الساعةِ.
الخامسةُ. تبقَّتْ ساعةٌ واحدةٌ تقريباً على الموعدِ.
حسناً، لِنُرتِّبِ الأمرَ الآنَ ونُخبرْهُ بوضوحٍ. لقد غيَّرتُ الشخصَ الذي سأتزوَّجُهُ بينما كانَ هو يُؤجِّلُ إجابتَهُ.
عندما ذهبتُ إلى غرفةِ الاستقبالِ، رأيتُ يواخيم جالساً مُنتصِباً.
بمجردِ أن شعرَ بوجودي، وقفَ وركعَ على ركبتِهِ للتحيَّةِ.
“أُرحِّبُ بِكِ يا سيِّدتي رينيه، النجمُ الساطعُ لشتاده والمُبارَكةُ بنعمةِ الحاكم.”
“لم أتوقَّعْ زيارةً مُفاجئةً دونَ إشعارٍ.”
جلستُ دونَ إخفاءِ انزعاجي، وعندئذٍ فقط وقفَ يواخيم أيضاً.
“سامحيني على وقاحتي. لكنَّ حفلَ النصرِ هو مساءُ الغدِ.”
“لذلكَ لم تُسرعْ في إعطائي إجابتَكَ.”
نظرتُ إليهِ بحدةٍ وسألتُ.
“وما زلتَ تأتي لِزيارتي، فهل هذا يعني أنَّكَ لن تقبلَ قراري؟”
“مُستحيلٌ.”
هزَّ يواخيم رأسَهُ بابتسامةٍ كريمةٍ.
“ليسَ لديَّ الحقُّ في التدخُّلِ عندما تقرِّرُ الأميرةُ الخروجَ إلى الحفلِ وهي ترتدي إكسسواراً جميلاً.”
“زوجٌ.”
صحَّحتُ سوءَ فهمِهِ على الفورِ.
“ليسَ إكسسواراً، بل زوجاً. هذا ما أنوي الخروجَ بهِ، أيُّها الدوقُ روميل.”
عندَ سماعِ ذلكَ، اختفتِ الابتسامةُ من وجهِ يواخيم لِوهلةٍ.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 11"