4
قراءة ممتعة~~~
الفصل الرابع: تزوّج.
دُفن ماركوس غلاستون في المقبرة القريبة.
عندما انتهت الطقوس الأخيرة للجنازة، بدأ المعزون بتقديم كلمات المواساة لعائلة الفقيد، ثم أخذوا يغادرون المكان بهدوء.
وحين خفّ الزحام قليلًا، نادى لوغان على إيفون التي كانت تراقبه من بعيد بينما يتحدث مع الآخرين.
“تعالي معي.”
تبعتْه إيفون بارتباك واضح، وعيناها تبحثان بين الحضور عن أفراد عائلة غلاستون.
لكن نظراتها لم تتوقف عند خطيبها ديريك—الذي تلتقيه رسميًا للمرة الأولى اليوم—بل عند شقيقه الأكبر سيدريك.
‘حادثة محطة القطار… من الأفضل ألا أذكرها أبداً.’
لم تكن تعلم طبيعة العلاقة بين الأخوين، لكنها تعلم أنهما أخوان غير شقيقين ويتنافسان على منصب الوريث، وهذا يعني أن علاقتهما الجيدة أمر غير محتمل.
لذلك، أي علاقة شخصية بينها وبين شقيق خطيبها قد تثير سوء فهم لا داعي له.
ولحسن الحظ، كان سيدريك يقف مبتعدًا قليلًا عن أسرته، يتحدث مع بعض الضيوف الآخرين.
تمنّت إيفون أن تمرّ المناسبة دون أن تلتقيه أو يُذكر ما حدث في محطة القطار، بينما كانت تتقدّم لتقف أمام كاثرين غلاستون وديريك.
في تلك اللحظة، استدارت كاثرين التي كانت تودّع آخر المعزين وكأنها شعرت بقدومهما.
“أوه، يا دوق، لقد أتيت!”
“أتقدّم بأحرّ التعازي يا سيدتي.”
“شكرًا جزيلًا لك. لابد أنّ الرحلة كانت طويلة، ومع ذلك تكرّمت بالمجيء.”
رغم أنّ كاثرين غلاستون كانت ترتدي ثوب الحداد الأسود ووجهها خالٍ من الزينة، إلا أنّها بدت متألقة بطريقة غريبة.
“وهذه الآنسة إيفون، أليس كذلك؟”
قدّمت إيفون التحية التي كانت قد أعدّتها مسبقًا بعناية.
“أتقدّم بخالص العزاء لفقدكم، سيدة غلاستون. أنا إيفون لوروا.”
“لقد سمعتُ عنكِ كثيرًا من الدوق. قال إنك تعتنين بوالدتك وبالبيت بإخلاص كبير. سررت بلقائك أخيرًا.”
تحدثت كاثرين بلطف وهي تمسك بيد إيفون بحرارة—تمامًا كما فعلت ناديا من قبل.
“آه، صحيح. اسمحي لي أن أقدّم لكِ ابني ديريك.”
“تشرفت بلقائك، آنسة إيفون. أنا ديريك غلاستون.”
عن قرب، بدا ديريك وسيمًا للغاية.
يبدو أنّ ملامح ماركوس غلاستون، الذي كان يُعرف يومًا بأشهر كازانوفا في عصره، لم يرثها سيدريك وحده.
لكن انتباه إيفون كان كلّه مشدودًا نحو سيدريك الواقف خلف ديريك، يتحدث مع أحد الضيوف.
كانت تتمنى بكل قلبها ألا تراه مجددًا، وألا تُفتح مجددًا صفحة ما جرى في محطة القطار…
“سيدريك؟ إن لم تكن مشغولًا، تعال وحيّهم. سنصبح عائلة قريبًا على أي حال.”
نادته كاثرين عمدًا من بين الضيوف البعيدين.
وحين التفت نحوهم، التقت عيناه بعيني إيفون التي كانت تنظر إليه.
حتى وسط المطر في محطة القطار الكئيبة، كان يلفت الأنظار.
وها هو الآن، بين هذا الحشد من الناس، لا يزال يبرز بينهم بوضوح.
لم يكن ذلك بسبب طوله ولا وسامته اللافتة، بل بسبب تلك العينين.
لم تستطع أن تصرف نظرها عنهما—تلك العينان اللتان بدا وكأنهما لا تنظران إلا إليها.
وكلما طال نظره، ازداد شعورها بالذنب، كأنها مذنبة تنتظر الحكم.
وحين اقترب سيدريك أخيرًا، بادرت إيفون بالتحية.
“إنه… لشرف لقائي بك، سير سيدريك.”
أحست بعدم ارتياح لأنها تتظاهر بعدم معرفته، رغم أنه كان قد أسدى إليها معروفًا من قبل، لكنها اعتقدت أنه سيتماشى مع الموقف بالطبع، لأن الأمر سيكون مُحرجاً بالنسبة له أيضاً.
لكن………………
“لقاؤنا الأول، أليس كذلك… حقًا الأول؟”
رفعت إيفون بصرها نحوه مذهولة من رده غير المتوقع.
“تبدين… مألوفة بشكل غريب.”
في عينيه لمع بريق غريب—كصبيٍّ عثر على لعبة جديدة.
لكنها كانت هي من بدأت الحديث، ولم يكن بوسعها التراجع الآن.
على الأقل، ليس أمام آل غلاستون ولا أمام دوق لوروا.
نظرت إليه بثبات، دون أن يطرف لها جفن، كما لو أن هذا حقًا أول لقاء بينهما.
تأملها سيدريك لحظة بصمت، ثم ابتسم ابتسامة خافتة ساخرة.
“آه، يبدو أنني كنت مخطئًا إذًا. يشرفني لقاؤكِ، آنسة إيفون.”
تنفست إيفون الصعداء أخيرًا، وردّت التحية بانحناءة مهذّبة.
انتهى اللقاء القصير عند هذا الحد—لكن قلبها ظلّ يخفق بقلق.
لأنّ نظرات سيدريك لم تفارقها بعد.
تلك النظرات الغامضة بقيت موجهة نحوها حتى انتهى حديث لوغان وكاثرين.
ولوقت طويل جدًا.
***
الثامنة وأربع دقائق صباحًا.
لم يتغيّر وقت استيقاظ سيدريك يومًا بأكثر من خمس دقائق عن الثامنة بالضبط.
عادة متأصلة فيه منذ سنوات طويلة.
نهض من السرير، مرّر أصابعه في شعره المبعثر، وربط رداءه المنزلي بعناية كما اعتاد، ثم نظر من النافذة.
حتى بعد موت أحدهم، تشرق الشمس كعادتها، وتبدأ الأوراق بالبزوغ على أشجار الشتاء، وتغرد العصافير.
كان صباحًا لا يختلف عن أي صباح آخر.
بل لعلّه بدا أخفّ قليلًا، كما لو أن علّةً مزمنة أُزيلت أخيرًا.
ارتشف قليلًا من الماء الموضوع على الطاولة، وحدّق ببرود في مشهد الربيع الذي بدأ يقترب.
تحت أشعة الشمس المنسابة من النافذة، كانت أغصان الأشجار الجديدة تتمايل كأنها تلقي تحية الصباح.
فجأة، خطرت في باله عينان تلمعان بنفس الضوء.
“إنه… لشرف لقائي بك، السير سيدريك.”
امرأة تملك عينين تشبهان براعم الربيع على شجرة شتوية.
خطيبة شقيقه.
متغيّر يهدد نصره الكامل—
والبطاقة الخفية التي عليه أن ينتزعها.
بمجرد أن تذكّرها، تداعت إلى ذهنه كلّ المهام المؤجلة منذ الجنازة واحدة تلو الأخرى، كجذور بطاطا تتشابك في الحقل.
مجرد التفكير بجدوله المزدحم جعل صدغيه ينبضان بالألم.
اليوم التالي للجنازة—حتى لو أخذ قسطًا من الراحة ليوم واحد، لما لامه أحد.
لكن سيدريك لم يفكر بذلك إطلاقًا.
كالعادة—دقيق، منضبط، كامل.
لم يكن ذلك بدافع المسؤولية أو الواجب.
بل لأنها طبيعته.
الماء البارد الذي انساب في حلقه أزال آخر بقايا النعاس.
طَق.
وضع الكوب على الطاولة وتوجّه نحو الحمّام، وفي عينيه عاد ذلك البريق الحادّ المعتاد.
***
بعد وقت قصير، حين نزل سيدريك إلى قاعة الطعام، سمع الكلمات التي كان يتوقّعها من جدّه—لكن ليس بهذه السرعة.
“تزوّج.”
لم يتوقع أن يكون معنى “قريبًا” هو صباح اليوم التالي مباشرة لجنازة والده.
“بهذا المعدّل، سينتهي الأمر بأن يرث ديريك الشركة.”
رفع سيدريك كأسه بهدوء، يصغي لكلمات جدّه.
هيئته، ملابسه، طريقته في إمساك الكأس، زاوية ميله حين يشرب—
كل تفصيل فيه يعكس انضباط الأرستقراطي المتمرّس بالأدب والاتيكيت.
كان التجسيد المثالي للنبلاء.
لم يبقَ سوى أن يتزوج امرأة كريمة من عائلة محترمة—
وسيصبح الوريث المثالي الذي حلم به كارلايل طوال حياته.
لكن الكلمات التي خرجت من فم سيدريك حطّمت تلك التوقعات تمامًا.
“أنا أعمل على ذلك.”
ارتفعت حاجبا كارلايل بحدة.
ذلك الفتى ذكيّ وفطِن، فلا يمكن أنه لم يفهم ما تعنيه تلك العبارة.
“أتظن أنني كنت أمزح حين قلت إنني سأورّث المنصب لمن يُنشئ عائلة؟”
أشار كارلايل بسكّينه نحو سيدريك، رافعًا صوته.
لقد سعى في شبابه لأن يكون نبيلاً حقيقيًا، وتعلّم آداب المائدة في وقت متأخر، لكن عادات طبقته القديمة كانت تطفو بلا إرادة في لحظات كهذه.
“لقد عشت حياتي دون أن أتراجع عن كلمة أو قرار قلته يومًا، وسيكون الأمر كذلك هذه المرة أيضاً.”
لم يشك سيدريك في صدقه.
فهذا هو الرجل نفسه الذي طرد ابنه الوحيد المنحرف دون تردد.
“لذا، لا تُرِني محاولاتك، أرِني النتيجة!”
في البداية كان صوت كارلايل صاخبًا، ثم ما لبث أن زفر بتعب، متابعًا بنبرة أخفّ.
“ماذا عن ابنة الفيكونت فريمان؟”
“آل فريمان يملكون منجمًا، لذا فالفائدة ستكون لهم أكثر منا.”
“وابنة الكونت شيرين؟”
“طالما الابن الأكبر ما زال حيًّا، فمن الصعب أن ترث لقب الكونت، لكنها قد ترث لقبًا أدنى منه مثل الفيكونت.”
“لم أعني هذا.”
قاطع كلامه بحدة، ضاربًا السكين على الطبق بصوتٍ عالٍ.
نظراته كانت قاسية.
“أسألك إن كانت هناك امرأة تعجبك فعلاً.”
المرأة هي امرأة، ولكن ما قصده بامرأة تعجبك؟
تظاهر سيدريك بعدم الفهم، وتابع بهدوء تقطيع شريحة اللحم ووضعها في فمه.
لقد مات والده.
سبب الوفاة كان مرض الزهري.
نهاية مناسبة لرجل قضى نصف حياته بين بيوت الدعارة.
ومع ذلك،
أن يتحدث جده عن الحب لحفيده الذي مات والده موتة سخيفة بعد أن بحث عن الحب طوال حياته.
هل أصبح جده، وهو يتقدم في السن،
يشعر بالحنين تجاه أشياء واهية مثل العائلة أو الحب؟
يتبع^^
ترجمة نينا @justninaae
Chapters
Comments
- 4 - تزوّج منذ يوم واحد
- 3 - أخ خطيبي منذ 3 أيام
- 2 - الآنسة المزيفة منذ 3 أيام
- 1 - هل عليَّ سرقتها؟ منذ 3 أيام
التعليقات لهذا الفصل " 4"