4
عادوا إلى المنزل بعد ساعات طويلة في المستشفى.
كانت أڤانيا منهكة، خطواتها متثاقلة، وملامحها باهتة كأن اليوم كله ما زال منحفرًا فوق عظامها.
فتح الأب الباب، ودخلوا…
ليتفاجأوا بأختها الصغيرة أليكا جالسة على الأريكة، تضحك بصوتٍ عالٍ على فيلم كرتوني، كأن شيئًا لم يحدث، كأن أختها لم تكن غائبة طوال الليل، ولم تُنتزع من بين أيدي الخاطفين على حافة الموت.
نظر إليها الأب بصدمة، ثم تحوّلت الصدمة إلى غضبٍ حادّ.
مدّ يده، أخذ جهاز التحكم من يدها، وأطفأ التلفاز بقوة واضحة.
قال بصوتٍ مرتفع لكنه مكسور بالغضب:
“أليكا! أختُك عادت من المستشفى بعد ليلة كاملة من الخطر… أتضحكين وكأن الأمر لا يعنيك؟! أهذا قلبك؟!”
رفعت أليكا نظرها إليه ببرودٍ، ولم تنطق.
زفر الأب بغضب، وهو يحاول السيطرة على رجفة صوته:
“نحن لا نفرّق بينكما قط. محبتنا لكما واحدة، واهتمامنا بأختك لا يعني أننا نهملك.
كان ينبغي أن تكوني أول من يركض إليها، لا آخر من يسأل عنها!”
بقيت أليكا صامتة، تنظر للأرض، دون كلمة اعتذار.
في تلك اللحظة، كانت الأم قد أخذت أڤانيا من يدها برفق، متجنّبة لمسها كثيرًا كي لا تفزع.
دخلت بها إلى غرفتها، أغلقت الباب، ثم ذهبت إلى الخزانة وأخرجت ملابس نظيفة، وجهزت لها حمامًا دافئًا.
وقفت أمام ابنتها وقالت بلطفٍ لا يُخفى عليه القلق:
“حبيبتي… ادخلي لتأخذي حمّامك. سأعدّ لكِ شوربة خفيفة، جسدُكِ مرهق.”
هزّت أڤانيا رأسها، ووقفت أمام أمها كطفلة تتعلّق بطوق نجاة.
رفعت عينيها المرتجفتين، وقالت بصوتٍ مبحوح ومقطوع من أثر الإصابة:
“لا… لا تذهبي. قِفي أمام الباب… لا أريد أن أكون وحدي.
وجود ذلك العدد من الرجال حولي… وهم يحاولون لمسي… ما زال عالقًا هنا.”
ثم أشارت بيدها المرتجفه إلى عقلها.
تجمّدت الأم مكانها، وكأن قلبها نفسه انكسر.
اقتربت منها خطوة بطيئة، وقالت بصوتٍ متحشرج:
“يا ليتني أحملُ عنك كل ألمٍ مررتِ به… يا ليتني أتلقى خوفك بدلاً منك.”
ابتسمت ابتسامة صغيرة مكسورة، ثم جلست قرب باب الحمّام، تنتظر بصبر مؤلم.
ظلت هناك حتى أنهت أڤانيا حمّامها بالكامل.
خرجت أڤانيا ترتجف قليلًا، فغطّتها الأم بالمنشفة، ثم ساعدتها على ارتداء الملابس، وأرشدتها إلى السرير.
وفِي الخارج، كان الأب لا يزال يحدّث أليكا بصوتٍ صارم، وقد هدأ غضبه قليلًا لكنه لم ينطفئ تمامًا:
“أختك كانت على وشك أن تُفقد… ومع ذلك لم تسألي عنها.
أهذا ما نعلّمه لك؟ أين إنسانيتكِ التي تظهر للجميعِ عداها هي؟ أين الأخت الصغيرة التي يجب أن تحب أختها قبل الجميع؟.. بدلًا من أن تقتربي منها… تبتعدين؟”
وقطع حديثه صوت الأم من الغرفة:
“إندارو… تعال من فضلك.”
ترك الأب ابنته الصغيرة، ودخل إلى غرفة أڤانيا.
وقفت الأم أمامه وقالت بصوت منخفض:
“ابقَ معها… هي تحتاج إلى أمانك الآن أكثر من أي وقتٍ مضى….ثم سأنتهي من الشوربة وأعود.”
أومأ الأب، واقترب من ابنته الجالسة على السرير، عيناها تبحثان عنه بطريقة صامتة جعلت قلبه ينقبض.
جلس إلى جانبها فورًا، ممسكًا بيدها بحذرٍ شديد.
غادرت الأم الغرفة، وعندما مرّت أمام غرفة أليكا، سمعت صوت بكاء مكتوم.
وقفت عند الباب، ثم فتحته ببطء…
فرأت أليكا جالسة على سريرها، وجهها مخبأ في كفيها، تبكي بصوتٍ مكسور.
لكن الأم لم تدخل؛ تركتها تبكي وحدها هذه المرّة… ربما لتفهم.
أعدّت الشوربة، ثم عادت بها إلى غرفة أڤانيا، وأعطتها لزوجها.
قالت له بهدوء:
“ساعدها لتأكل. ثم ستبيتُ معها…”
أما هي فقررت أن تبيت تلك الليلة مع أليكا… لعلّها تُرمّم ما انكسر في قلبها هي أيضًا.
_و لكن هذه الحادثة…. ستتركُ من الأثر السيء على إڤانيا.._
في صباح اليوم التالي – قاعة محكمة القضاة في تمام الساعه (التاسعة).
دخل “كينت كورينتو” قاعة المحكمة بخطوات ثابتة، كأن هذه الأمور أصبحت مملة بالنسبةِ له… لا جديدٍ في حياتة يذكر…
كان يرتدي بزّته الدبلوماسية الداكنة ذات القصّة العسكرية الملساء، كتفاه مستقيمتان، ربطة عنقه مضبوطة بإتقان، ومعطفه الطويل ينسدل بخفة خلفه.
وجهه لا يحمل أي انفعال… عيناه الرماديتان جامدتان، قادرتان على قراءة القاعة كلها في لمحة واحدة.
رغم أنه دبلوماسي من الطراز الذي تصنعه سنوات طويلة من التفاوض وحل الأزمات الدولية…
إلا أنه تحرّك بثقة من يعرف البلد جيدًا…
وإن لم يكن ينتمي إليها حقًا.
(هذه المعلومة ستُكشف لاحقًا).
جلس في مكانه المخصص للمدّعين الخاصّين.
وعلى الجانب الآخر جلس ابن السياسي، شاحب الوجه رغم تكبّره، وبجواره محاميه ينقّب في ملفاته بعصبية.
أما السياسي نفسه فجلس في الصف الأمامي، يشيع كينت بنظرة انتصار متعجرفة.
نظرة رجل يظنّ أن خطته اكتملت، وأن القاضية التي خطفوها بالأمس صارت تحت سيطرته.
لكن وجه كينت بقي كما هو…
هادئًا، مستويًا، لا يرمش.
وانفتحت أبواب القاعة…
ودخلت القاضية الجديدة.
ارتبك السياسي للحظة… كأن عقله يرفض تصديق ما يراه.
وقف الجميع احترامًا، إلا كينت، الذي اكتفى بانحناءة خفيفة رأسها نحوها بإقرار رسمي… ثم رفع بصره إليها بثبات.
بدأت الجلسة.
المحامي يقف
قال المحامي وهو يقدّم الأوراق بثقة مُفتعلة:
“سيّدتي القاضية، نطلب الإذن بسفر موكّلي، ابن النائب أوسنر، إلى الخارج لتلقّي العلاج الطبي العاجل…
وقد تم توثيق حالته الصحية بتقرير رسمي، وأوصى الأطباء بضرورة نقله فورًا.”
ثم وضع الملف على المنضدة أمام القاضية كمن يضع ورقة رابحة.
السياسي شبك يديه خلف ظهره… ابتسامة نصر صغيرة ارتسمت على فمه.
القاضية تلتفت نحو كينت
“السيد كورينتو، ما ردّكم على هذا الطلب؟”
نهض كينت ببطء، كمن يمنح الجميع وقتًا ليلتزموا الصمت قبل أن يتكلم.
فتح الملف الذي أمامه، ثم قال بصوتٍ منخفض لكن عميق، نبرة رجل اعتاد التحدّث في الاجتماعات الدولية، لا في محاكم عادية:
“أولاً يا سيّدتي…
حالة المتَّهم الطبية، بحسب التقارير التي قمتُ بالتحقّق منها شخصيًا، لا تستدعي مغادرة البلاد.
وبإمكانه تلقّي العلاج ذاته داخل المستشفيات المعتمدة هنا.”
رفع المحامي حاجبيه بقلق.
تابع كينت بنبرة تحليلية دقيقة:
“وثانيًا…
المتّهم ليس بحاجة إلى السفر، بل يحاول الهرب من الملاحقات القضائية الموجّهة إليه في هذه القضية، إضافةً إلى قضايا أخرى معلّقة في دولٍ مجاورة.”
همهمة عالية ملأت القاعة.
السياسي فتح عينيه بحدة… لم يتوقع هذا.
وأضاف كينت وهو يقلّب صفحتين من ملف آخر:
“ثالثًا…
سجلّ المتّهم في السنوات السابقة يظهر انتقالاتٍ متعددة خارج البلاد فور توجيه شبهات إليه.
وعليه… فإن السماح له بالسفر الآن، ولو بحجة العلاج، هو مساعدة مباشرة على تهرّبه من العدالة.”
قالت القاضية بصرامة:
“هل تملكون إثباتًا على ذلك؟”
أغلق كينت الملف بهدوء تام، وقال كمن يلقي جملة نهائية:
“نعم.
وقد أرفقتُ جميع المستندات الواردة من مكتب التنسيق الدولي، إضافة إلى تقييمٍ طبي صادر من جهة عليا في الدولة…
يثبت أن حالة المتّهم مستقرة تمامًا ولا تستدعي أي سفر.”
ارتبك المحامي، وتراجع السياسي في مقعده بوضوح.
تمتمت القاضية:
“إذن… الطلب مرفوض.”
سقطت الجملة على السياسي كصفعة…
وتغيّر وجهه من لونٍ للآخر.
أما كينت…
لم يبتسم.
بل اكتفى بخفض رأسه تواضعًا، ثم جلس.
بعد اختتام الجلسة
وقف السياسي غاضبًا، يكاد الشر يخرج من عينيه.
وقبل أن يغادر، شعر بثقل يقف خلفه…
كان كينت.
وضع كينت يده خلف ظهره، ثم مال برأسة نحوه قليلًا، صوته بالكاد يُسمع، لكنه كان أشبه بخنجر:
“من حظّك العاثر…أن التي خططتَ لاختطافها لم تكن القاضية الحقيقية.
بل امرأة لا صلة لي بها… ولا صلة لها بالمحكمة أصلاً.”
تجمّد السياسي…
تسارع نفسه…
وفهم حينها أن أحد رجاله خدعه طوال الليل.
وسمع كينت يضيف بهدوء:
“لقد انهارت خطتك قبل أن تبدأ.”
اختنق السياسي غضبًا، ثم قال بصوت منخفض لكن مليء بالتهديد:
“أنت تعبث يا ولد.”
فأعاد كينت ربط زرار معطفه، كمن يستعد لمغادرة مسرحية مملة، وقال وهو يسير مبتعدًا:
“ومن منّا… لا يحبّ العبث؟”
ثم خرج.
هادئًا…
كما دخل.
كان الليل ينساب عبر زجاج نافذة المكتب الواسع، يسكب خيوطه فوق كومة الأوراق المتناثرة، ووميض شاشة الحاسوب ينعكس على ملامح كينت المتعبة. جلس مُنحنيًا قليلًا فوق المكتب، إحدى يديه تضغط على لوحة المفاتيح بإصرار، بينما الأخرى تحمل سيجارًا مُشتعلًا لم يمسّه سوى نصفه.
أسند جانب رأسه إلى إبهامه، وجفناه يثقلان من الإرهاق؛ خطوط التعب كانت واضحة، كأنها محفورة حول عينيه الحادتين.
وفي لحظةٍ خاطفة، عندما همَّ بمقاربة الورقة التالية، لفتَ خدشٌ رقيق على ظهر كفه انتباهه… الخدش نفسه الذي تركته إڤانيا في أول لقاءٍ لهما عند البحر….
تجمّد للحظة.
رفع السيجار إلى شفتيه، سحب نفسًا طويلًا، ثم نفثه ببطء… كأنه يفرّغ شيئًا يثقل صدره.
همس، وصوته خافتٌ لكنه غارق بالتفكير:
“تُرى… كيف حالها الآن؟”
ظلّ ينظر إلى الخدش وكأنه نافذة تُعيده إلى ذلك الوقت.. عندما كانت تبكي بجانبه و تخدش يده..
والشعور الذي لطالما حاول إسكاته عاد ينهش صدره: لو تأخر قليلاً فقط… لكان حدث الأسوأ.
أرجع رأسه للخلف، وأسنده إلى حافة المقعد، يحدق إلى سقف المكتب بعينين شاردتين.
استعاد لحظة دخول والدتها غرفة الطوارئ وهي تصرخ باسمها،
والاسم… ارتسم في ذاكرته بصورةٍ أوضح.
تمتم بنبرة عميقة، أثقلها شيءٌ لم يعتد الإقرار به:
“إڤانيا…”
ثم نظر إلى ساعة يده و رأى أن الوقت لازال مبكراً فبإمكانه زيارتها في بيتها الآن….
نهض أخيرًا.
أغلق الحاسوب، أمسك سترته وارتداها بحركة معتادة، ثم خرج من المكتب بخطوات واثقة رغم إرهاقه.
كان زيك، مساعده الخاص، يقف خلف المكتب الخارجي ينظم الأوراق.
توقف كينت أمامه وقال بصوت منخفض لكنه صارم:
“أرسل لي عنوان الفتاة التي أنقذناها بالأمس.”
انحنى زيك فورًا احترامًا:
“حاضر، سيّدي.”
—
ترجل كينت من سيارته بعد أن بدل ملابسة إلى ملابس رجلٍ عادي كي يزيل عنهم الحرج أمامه بإختلاف الطبقات و نظر إلى البيت من الخارج..
كان المنزل صغيرًا ودافئًا، أضواؤه خافتة تشير إلى بيتٍ مرَّ بليلة طويلة.
و بعد أن طرق الباب فتح له الأب… وما إن رأى كينت حتى اتسعت عيناه في دهشة:
“أ… أنت! أهلاً بك… تفضل، تفضل.”
دخل كينت بخطوات هادئة، ألقى نظرة خاطفة حول المكان، ثم عادت عيناه إلى الفتاة التي تقف بجواره، متوترة وخائفة كطفلٍ يتحسس الأمان في وجوده.
ابتسم الأب بامتنان واضح:
“نحن سعداء بزيارتك لنا.. تفضل”
ابتسم كينت في هدوء ثم نبس”أردت أن أطمأن عليها “
ثم نظر إلى إڤانيا و قال:
“كيف تشعرين الآن؟ هل تتحسن حالك؟”
رفعت نظرها إليه وانزلته سريعاً ثم أمسكت بطرف ثياب والدها … كانت عيناها نصف شاحبتين، ونبرة صوتها ضعيفة، لكنها خرجت قاطعة:
“لا يشرب السجائر… إلا الرجال الضعفاء.”
ساد صمت مفاجئ.
كررَتها مرة أخرى، بنبرة أضعف لكن بإصرار طفوليّ صريح:
“الرجال الضعفاء فقط… يفعلون ذلك.”
نظرت إليها أمها بذهول:
“إڤانيا! توقفي… لا تتحدثي هكذا!”
لكنها أعادت العبارة للمرة الثالثة:
“ضعفاء… فقط الضعفاء.”
حاول الأب تهدئتها، وضع يده على كتفها:
“ابنتي، هذا الرجل هو من أنقذك… اعتذري.”
التعليقات لهذا الفصل " 4"
شكرا على الفصل ♥️
البطله تمثلني في كرهي للتدخين و المدخنين😂