ما إن دخلوا مدخل قاعة الطعام حتّى بدأ عبق الطعام الشهيّ يملأ الأجواء.
تفحّص أستان الطاولة بنظراتٍ مذهولة لا تُصدّق، فكانت الأطعمة التي لم يرَها حتّى في عيد ميلاده، مملوءةً عن آخرها.
كان قد أوصى مرارًا بأن يُدّخر الطعام خشية النقص، لكن يبدو أنَّ أحدًا لم يُلقِ لكلامه بالًا. لعلّهم يحتاجون إلى تجربة المجاعة في عزّ الشتاء القارس كي يُدركوا الأمر.
فيما كان يُفكّر بإعلان حالة تقشّف ابتداءً من الغد، هرعت إليه كبيرة الخادمات.
“وصلتم، آنستي. تفضّلوا بالجلوس.”
جلس أستان مكفهرّ الوجه حين رآها تُعنى بغلوريا دون أن تُلقي له ولو نظرة.
“ما الذي أخّرك في الاستيقاظ هذا اليوم؟ لقد جعلت آنستنا تنتظر.”
قالت الخادمة بينما كانت تساعد غلوريا.
“من يستيقظ مبكرًا يأكل أولًا، هكذا ببساطة.”
“كيف يمكننا السماح للضيفة بأن تتناول طعامها بمفردها؟ لقد أخبرتك مرارًا وتكرارًا، يا دوق، أنَّ على السادة معاملة السيّدات…”
“أنا جائع. دعينا نأكل.”
قاطع أستان مربيته وبدأ يتناول الطعام.
نظرًا لسهره حتى وقتٍ متأخر ليلة البارحة، واستيقاظه المتأخّر، كان جائعًا للغاية. غمس قطعة خبز في الحساء وأدخلها إلى فمه، ليتجهم وجهه على الفور.
‘كان يجدر بي الاستيقاظ أبكر قليلًا.’
كان الخبز صلبًا كالحجر، والحساء باردًا كالماء.
بل إنَّ معظم الطعام كان قد برد تمامًا.
ربّما لأنَّ تحضير الإفطار بدأ مبكرًا، وربّما لأنَّ قاعة الطعام واسعةٌ جدًا، فتفقد الأطعمة حرارتها بسرعة مهما كانت طازجة.
وإن كان أستان معتادًا على هذا، فإنَّ الضيفة التي تتناول أوّل وجبةٍ لها في القصر لم تبدُ عليها الراحة.
نظر إلى غلوريا وهي تُقطّع اللحم بيدين محمرّتَين من البرد، ثم خلع معطفه.
“ألم أقل إنَّ هذا سيحدث؟”
قالها بخشونة وهو يُناولها معطفه، مما جعل عينيها تتّسعان.
“ألستَ تشعر بالبرد، يا دوق؟”
“أشعر.”
“فلماذا…؟”
“لأني لا أريدك أن تتذرّعي بالإصابة بالزكام للبقاء هنا فترة أطول.”
“…..”
“تناولي طعامك.”
‘هل هذا لطفٌ منه؟ أم لا؟ لا أدري.’
تمتمت غلوريا بصوتٍ خافت وهي ترتدي المعطف وتُحدّق في أستان، الذي جلس بجانبها مرتديًا قميصًا رقيقًا، يتناول كأسه بهدوء، وكأن لا شيء يهمّه.
فتحت فمها فجأة وسألت:
“لكن يا دوق…”
“همم؟”
“لماذا تُناديني بـ ‘أنتِ’ منذ قليل؟”
“وماذا عساي أن أناديكِ؟”
“نادِني ‘آنسة ماكين’ أو ‘غلوريا’، أو إن شئتَ، فرُبّما ‘زوجتي’ أيضًا، ولو أنّه مبكرٌ قليلًا…”
“حسنًا، يا آنسة صغيرة.”
تضرجت عينا غلوريا بالغضب من اللقب المليء بالسخرية.
“لا تعاملني كطفلة! أنا ناضجةٌ وأفهم كلّ شيء!”
“تفهمين كلّ شيء؟”
تبدّلت نظرات أستان الهادئة إلى نظرة حادةٍ خاطفة.
وضع السكين على الطاولة، ثم نهض من مكانه فجأة. انزلق صوت الكرسي بصوتٍ مزعج، مما جعل غلوريا ترتجف وتُرتّبك.
اقترب منها وانحنى ليهمس:
“قلتِ إنّكِ تفهمين كلّ شيء، أليس كذلك؟”
لفح أنفاسه الحارّة أذنها الباردة كقطعة ثلج.
وانعكس وجهها المذعور على ملعقة الحلوى اللامعة.
راقبته يقترب أكثر فأكثر، فأغمضت عينيها بقوّة.
خفق قلبها حتى ظنّت أنه سينفجر.
‘تماسكي… هذا أمرٌ طبيعي بين زوجَين… لا تتصرّفي كطفلة…’
كانت تقنع نفسها بذلك بقوّة.
“افتحي عينيكِ.”
قالها بصوتٍ خشن، ففتحت عينيها بخجل.
“لديكِ صلصةٌ هنا.”
مسح أستان فمها بمنديل برفق، وأشارت بقعة الصلصة إلى خطأها.
فاشتعلت وجنتا غلوريا خجلًا.
“هل ما زلتِ تدّعين أنّكِ بالغة؟”
“…..”
***
“غلوريا ماكين، أيتها الحمقاء! كيف تفكرين في الزواج وأنتِ بهذا الحال؟!”
عادت غلوريا إلى غرفتها بعد الإفطار، وفركت موضع الصلصة على فمها بشدّة وهي على وشك البكاء.
“لو كنتُ أكلتُ أقل قليلًا فقط…”
رغم عزمها على التصرّف كسيدةٍ محترمة، إلا أنّها فقدت السيطرة أمام الطعام، بعد أيامٍ من الجوع.
“لِمَ لَمْ يتجاهل الأمر فحسب…”
‘منذ متى صار من قواعد الإتيكيت أن تشير إلى بقعةٍ على فم السيدة؟’
وبينما كانت تلوم أستان على بروده، نظرت غلوريا مطوّلًا إلى نفسها في المرآة.
‘هل أبدو غير مُرضيةٍ إلى هذا الحد؟’
ارتسمت على وجهها علاماتُ الحزن.
ظنّت أنَّ الأمور ستسير بسلاسةٍ بعد وصولها إلى قصر شولتسمير، لكن يبدو أنَّ طريق الزواج لن يكون سهلًا.
<ولِمَ قد أُقدِم على زواجٍ بلا فائدة؟>
من كان ليظنّ أن دوق شولتسمير سيهتم بالمنفعة في الزواج؟
كانت تعلم أنَّ زيجات النبلاء تُبنى على حساباتٍ دقيقة، لكن سماع ذلك مباشرةً كان أمرًا مُحبِطًا.
‘لا وقت للتردّد.’
فبحسب نبوءة المذّكرة، لم يبقَ لها سوى عامٍ، وربّما أقلّ.
وإن لم تتزوّج بأستان حتى ذلك الحين…
“لا، أستطيع فعلها.”
هزّت رأسها بقوّة لطرد الأفكار السوداوية.
‘ما زال اليوم الثاني فقط، من المبكر الاستسلام.’
إن كان لا يرى فائدةً في هذا الزواج، فعليها أن تُظهر له فائدته.
وإن لم يكن يريدها، فعليها أن تجعله لا يستطيع إلّا أن يريدها.
“لا تسرعي، ضعي خطة، وابدئي خطوةً بخطوة.”
قالت لنفسها بجدّ، ثم فتحت باب غرفتها بنشاط.
وما إن خرجت تبحث عن حليف، حتى رأت لوغان يمرّ في الرواق.
“لوغان، هل لديك وقت؟”
“بالطبع، لدي الكثير من الوقت، آنستي. بماذا أخدمكِ؟”
“أودّ أن أسألك شيئًا.”
“اسألي ما شئتِ، سأُجيب بكلّ إخلاص.”
انحنى لوغان بانحناءة مبالغٍ فيها، أشبه برقصةٍ نبيلة، وظهر على يده سوارٌ أرجوانيّ لافت.
سألت غلوريا بخجل:
“أيُّ نوعٍ من النساء يُفضّلها الدوق؟”
“ماذا؟”
أعاد السؤال بصوتٍ مذهول، وقد بدت على وجهه ابتسامةٌ ماكرة.
“ظننت أنّه من الوقاحة أن أسأله مباشرةً. هل يُفضّل الفتيات الظريفات؟ أم البريئات؟ أم الناضجات؟”
“تريدين معرفة نوعه المفضّل إذن؟”
“نعم.”
“هممم… نوعه المفضّل…”
اتّخذ لوغان هيئة المُفكّر العميق، وكأنّه تلقّى أصعب سؤالٍ في حياته.
وأخيرًا قال:
“الدوق يحبّ النساء الجميلات.”
“أوه، فهمت.”
أومأت غلوريا برأسها بجدّ، ثم سألت:
“وماذا عنّي؟”
“لا يمكنني قول ذلك بصراحة…”
“لا بأس. قُل الحقيقة، أعدك أني لن أغضب.”
ألحّت غلوريا وهي تُحدّق فيه بعينين جادّتين.
بلل لوغان شفتيه وتنهّد، ثم قال:
“من بين السيّدات اللواتي رأيتهن، فأنتِ من أجمل اثنتَين.”
“حقًا؟”
“بالتأكيد. فأنا لا أُجيد الكذب أصلًا.”
قالها مبتسمًا بثقة.
كادت تسأله مَن الأخرى الجميلة، لكنها كتمت فضولها وابتسمت بخفة.
“هل تعتقد أنَّ الدوق يرى ذلك أيضًا؟”
“كلّ رجل سيفعل. صدّقيني، عندما رأيتكِ للمرّة الأولى، تأسّفت لأنّي لستُ أنا دوق شولتسمير.”
“أوه…”
ضحكت غلوريا من المجاملة المبالغ فيها.
وإن كانت تعلم أنها مجرّد كلمات لطيفة، فقد بدا واضحًا أنَّ لوغان سيكون حليفًا لها.
وفيما كانت الضحكات تتردّد بينهما، ظهر صوت بارد فجأة:
“لم أعلم أنّك تطمع بمنصب دوق شولتسمير، يا هذا.”
“د-دوق؟!”
ظهر أستان فجأةً دون صوت، وكان يُحدّق في لوغان بنظراتٍ نارية.
“لم أظنّ أنِّ هناك من يطمع برقبتي داخل بيتي.”
“ماذا تقول! لم أفكّر بهذا أبدًا!”
“إذن ماذا عن كلامكِ هذا؟”
“كنتُ فقط أحسدك لأنَّ هذه السيّدة الجميلة تطلب الزواج منك.”
نظر إلى غلوريا بطرف عينه وهو يحاول تبرير نفسه.
لكن أستان، وقد ضاق ذرعًا بالموقف، داس على قدم لوغان بكلّ قوّته.
“توقّف عن الهراء، واختفِ من أمامي.”
“مفهوم! الغيرة تفعل العجائب…”
“لوغان!”
“أنا ذاهب، أنا ذاهب!”
فرّ هاربًا، لكنّه لم يكفّ عن الكلام حتى وهو يختفي.
أستان، وقد أصابه صداع من تصرفات مساعده، مسح جبينه بتعب.
‘طلبتُ منه إشعال المدفأة، فذهب وجمع حطبًا مبلولًا! والآن هذا الهراء؟’
ثم ألقى نظرةً متفحّصة على القصر، حيث بدا التنظيف سيئًا اليوم.
‘كلّ هذا لمجرّد دخول ضيفة؟ يبدو أنني بحاجةٍ لإعادة تدريبهم.’
وبينما كان يُفكّر بذلك، أحسّ بنظرةٍ حارّة من الجهة اليسرى.
“…لماذا تنظرين إليّ هكذا؟”
“كنتُ أتساءل، ما نوع المرأة التي تُعجبك؟”
‘ها نحن نبدأ من جديد.’
قال في نفسه وهو يتنهّد، ثم أجاب بسخرية:
“أُفضّل النساء الأكبر سنًّا منّي.”
“هممم، هذا صعبٌ قليلًا…”
بدت غلوريا متأزّمة من الجواب الذي لا يمكن تجاوزه بالاجتهاد.
شعر أستان برضى داخلي وهو يمرّ بجانبها.
فمهما فعلت، لن تُصبح أكبر منه سنًّا.
وكانت “الآنسة صغيرة” تتبعه مثل ظلّه.
“إلى أين أنت ذاهب؟”
“إلى المكتبة.”
“لتقرأ؟”
“لنقُل ذلك.”
لم يرغب أن يقول إنّه هرب من دخان الحطب المبلول الذي ملأ غرفته.
“سآتي معك!”
ركضت غلوريا نحو غرفة الجلوس والتقطت كتابها الصباحي.
ومشى أستان ببطء أكثر من المعتاد، متجاهلًا وجودها.
جلس على الأريكة، وفتح كتابًا.
وجلست غلوريا بجانبه، تقرأ بجدّ.
…لكن، “١٠١ طريقة لتُصبحي دوقة”؟! لماذا يوجد مثل هذا الكتاب في القصر؟
وأدار نظره إلى كتابه، ليستكشف العنوان:
“سلوكيات السيّد النبيل – مع التركيز على آداب المجتمع والمرافقة –”
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 5"