وإذ أجبرت قدميها على التقدّم أكثر، حتى وقفت أمام الوحش مباشرةً، فتحت غلوريا فمها بهدوء:
“أَسْتان.”
تجمّد الوحشُ في مكانه للحظة.
ونظرت غلوريا مباشرةً في عينيه المحتقنتَين بالحُمرة.
كانت عيناه تشتعلان بنيرانٍ تكاد تلتهم كلّ ما تراه، دون أن تنعكس فيهما أيُّ صورة.
إن كنتُ ما زلتُ موجودةً في ذاكرتك…
تمسّكت غلوريا بأملٍ ضئيل، ثم قرّبت شفتيها من شفتي الوحش ووضعتهما عليهما بهدوء.
“آه!”
عضّها بأنيابه الحادّة بشراسة.
شعرت بالألم وهي تفقد قطعةً من لحمها، وامتلأ فمها برائحة الدم المعدنيّة.
لكنّها صمّمت أن تتحمّل، حتى لو قُطع لسانُها.
فهذا هو السبيلُ الوحيد للنّجاة.
أَسْتان… أرجوك.
اختلط نَفَسُها بأنفاسه في وتيرةٍ سريعة. ولم يكن ما حدث يُسمّى قبلة، بل احتكاكٌ جسديٌّ عنيفٌ دام لدقائق.
ثم…
“……”
بدأ تنفّس الوحش المضطرب يهدأ تدريجيًّا.
وسرعان ما استعاد لونُ شعره الباهت سوادَه، وعاد البريق إلى عينيه الغائمتين.
شعرت غلوريا بسكونٍ في حركة لسانه داخل فمها، فرفعت رأسها ببطء وقالت:
“سموّ الدوق؟”
“……غلوريا.”
تمامًا كالأميرة التي أنقذت الأمير المَسحور، ارتسمت ابتسامة مشرقة على وجه غلوريا التي فازت في رهانٍ مجنون.
الفصل 1 :
هَبَّت عاصفةٌ ثلجيّةٌ قارسة، كأنّها ستَطمر العالم بأسره.
قطّب الرّجل حاجبيه وهو يُدفئ نفسه أمام المِدفأة، متأفّفًا من صوت الرّيح الّتي كانت تهزّ النوافذ.
“يا لهُ من طقسٍ لعين.”
“صدقت، يا سيّدي.”
ردّ عليه الرّجل الضخم بسرعة.
“بهذه العاصفة، سنبقى محبوسين لأسبوعين على الأقل.”
“لو اقتصرَ الأمر على أسبوعين، فذلك سيكون حظًّا جيّدًا.”
أجاب الرّجل وهو يُحوّل بصره إلى الخارج. كانت النّوافذ مغطّاة بطبقةٍ من الصّقيع، فلم يكن المنظر في الخارج واضحًا.
“هل لدينا ما يكفي من المؤونة؟”
“لقد خزّنا ما يكفي لشهرين.”
“راقِبْ مخزن الطعام جيّدًا، يا لوغان. لا أحد يعلم متى قد يهاجمنا السِّكون.”
“لا تقلق، في مثل هذا الطّقس، حتى السِّكون يَقبَعُون في كهوفهم.”
“معكَ حق.”
ما لم يكن أحدهم قد جُنّ فعلاً، فلا عاقل يتجوّل وسط هذا الجوّ.
أستان فون شولتسمير، سيّد دوقيّة شولتسمير الواقعة في أقصى شمال القارّة، أطلق ضحكةً مُرّة.
كانت دوقيّة شولتسمير، المعروفة أيضًا بـ’نهاية العالم’ أو ‘بوّابة الآخرة’، مغطّاةً بالثلج والجليد طوال العام.
لا تُشرق فيها الشّمس سوى ثلاثة أشهر فقط، وهي الفترة الّتي تكون فيها حدود الدّوقيّة في أعلى درجات التّأهّب، لأنّها موسم ازدهار نشاطات السِّكون.
السِّكون وحوشٌ ضخمة تقيم في الجبال الثلجيّة، تمتاز بقوّةٍ هائلة وسرعةٍ فائقة، ومن النّادر أن ينجو أحدٌ من مواجهتهم.
وكان مكان قصر شولتسمير، في أعلى تلّ شاهقٍ ووعر، قد اختير خصّيصًا لردع تلك الوحوش.
لكن في طقسٍ مثل هذا، لا السِّكون ولا حتّى أجدادهم يمكنهم التّجوال.
استعاد أستان فكرة أنّه ما زال أمامهم شهران على الأقل قبل انقضاء هذا، فطرد الهواجس من ذهنه، وبدأ يُفكّر في كيفيّة إزالة هذه الكميّة المهولة من الثّلج بطريقةٍ يُشاد بها.
وبينما بلغَ قناعةً بأنّ استغلال لوغان، الّذي لا يفعل شيئًا مُفيدًا طَوال الوقت، هو الخيار الأمثل، طرق كبيرُ الخدم بابَ المكتب.
“سموّك، يُرجى الخروج للحظة.”
“ما الأمر؟”
“لقد جاءك ضيف.”
“ضيف؟ في مثل هذا الطقس؟”
يبدو أنّ ثمّة مَن جُنّ فعلًا.
***
خرج أستان من القصر مرتديًا عباءةً سميكةً تُقاوم العاصفة الثّلجيّة. وما إن خطا خطواتٍ قليلة، حتّى بدأ جسده بالتّجمّد.
‘ضيف في هذا الطّقس؟ ربّما تخيّل كولين الأمر.’
واثقًا أنّه لن يجد أحدًا، وصل إلى بوّابة القصر، لكنّه شَهِقَ لا إراديًّا حين رأى مَن كان هناك.
“…….”
امرأةٌ. فائقةُ الجمال، حتّى إنّ لسانه عجز عن وصفها.
كانت مغطّاةً بالثّلج من رأسها حتّى قدميها، ونظرت إليه بوجهٍ شاحب.
تأمّل أستان المرأة ذات البنية الضّئيلة، والّتي بالكاد بلغت كتفيه.
وبما أنَّ أنفاسها كانت تتبخّر في الهواء، فهي ليست شبحًا أو خيالًا.
لكنّها وصلت إلى هنا وسط هذه العاصفة. فلا بدّ أنّها ليست إنسانةً عاديّة.
فما الّذي تكونه إذًا؟
وبينما كان يتفحّصها بشكّ، بادرت هي بالكلام:
“هل أنتَ دوق شولتسمير؟”
“أجل، أنا هو.”
“تشرفتُ بلقائك. اسمي غلوريا ماكّين.”
“غلوريا ماكّين؟”
راح ذهنه يستعرض أسماء العائلات النّبيلة، فلم يجد اسم ماكّين بينها.
سأَلها بحذر:
“كيف وصلتِ إلى هنا؟”
“سِرتُ على قدمي. في البداية، أراد السّائق أن يوصلني إلى أعلى التلّة، لكنّ العاصفة كانت شديدة، فلم تَتحرّك الخيول.”
“لم أقصد ذلك تمامًا─”
“آه، تقصد سبب مجيئي.”
فهمَت غلوريا مقصده ونظرت حولها بقلق قبل أن تُتابع:
“أعتذر، لكن هل يُمكننا الحديث في الداخل؟”
اهتزّت حاجباها المغطّيان بالصّقيع بأسًى.
كانت ترتجف بشدّة، ومظهرها يشي بأنّها قد تسقط في أيّ لحظة.
نظر أستان إلى الفتاة الّتي غاصت قدماها في الثّلج، ثمّ نَقَرَ بلسانه.
عباءةٌ خفيفة لا تصلح لهذا الجوّ، وفستانٌ خريفيّ بالٍ، وحذاءٌ متآكل، وحقّيبة تُشبه لُعبة أطفال.
‘هي عازمةٌ على الموت، بلا شك.’
لم يكن يرغب بإدخالها إلى القصر، لكن إن تركها خارجًا، فسيضطرّ غدًا إلى دفن جثّتها المُتجمّدة.
حتى لو كانت تنوي شرًّا، فماذا يُمكن أن تفعل فتاةٌ بهذه الضّآلة والضّعف؟
“ادخلي أوّلًا.”
أشرق وجهُ غلوريا بذلك الإذن على مضض. وشعر أستان ببعض تأنيب الضّمير وهو يتقدّمها.
كانت تُعرج خلفه وكأنّها تُعاني من تَجمّد الأطراف.
فأبطأ خُطاه حتّى يُسايرها، وسارا معًا نحو القصر.
عند الباب، توقّف أستان فجأة. فقد أُغلِقَ الباب بإحكام، وكأنّ القصر رفضَ استقبال شبحٍ قد يجلبه الدّوق معه.
‘سحقًا لهم.’
رمق الفتاة المُرتجفة بنظرةٍ جانبيّة، ثمّ ركل الباب بغضب.
“لوغان! افتح هذا الباب فورًا!”
سمعَ همهمةً من الدّاخل، ثمّ فتحَ أحدُهم ثقبَ الباب، وأطلّ وجه شابّ.
“سيّدي، هل أنت بخير؟”
“لا أدري. لكن إن لم تفتح الآن، فأنتَ من سيكون في خطر.”
“هاهاها… لا داعي للغضب، سيّدي!”
ضحك لوغان بخجل وفتح الباب بسرعة.
ويبدو أنّ الخبر انتشر، لأنّ الخدم الّذين كانوا قد خلدوا إلى النوم، اصطفّوا في المدخل يتفرّجون.
أشار كبير الخدم إلى غلوريا وسأل:
“من هذه، يا سيّدي؟”
“لا داعي لأن تعرف.”
“ألعلّها… الحبيبة الّتي كنت تُخفيها عنّا؟”
“كُفّ عن الهراء، وإن كنتَ ناعسًا، فاذهب إلى سريرك.”
قطع أستان الحديثَ بحدّة.
لكنّ الخدم لم يتزحزحوا، وقد أسرتهم رؤيةُ امرأةٍ بهذا الجمال.
‘لا بُدّ من إخراجها من هنا.’
“يبدو أنَّ المتطفّلين كُثر. تعالي، نذهب إلى غرفة الاستقبال.”
“غرفة استقبال؟! هذه السّيّدة تكاد تنهار من البرد!”
خرجت مربية أستان فجأة وهي توبّخه.
“هل نسيتَ ما علّمتك إيّاه عن معاملة السّيّدات؟!”
بملامحٍ حادّة، انتزعت المربية حقيبة غلوريا من يدها.
“يا إلهي، كلّ شيءٍ مبتلّ. يجب أن تدفئي جسدك فورًا. اتبعيني، عزيزتي.”
“شكرًا جزيلاً.”
ابتسمت غلوريا بخفوت وتبعت المربية بخطًى متمايلة.
“تْشه.”
نظر أستان إلى ظهرها المُبتعد، ثمّ استدار بعيدًا.
***
“هيا، ادخلي، لا تتردّدي.”
قادتها المربية إلى غرفةٍ صغيرة دافئة.
“سأنقلكِ إلى غرفةٍ أوسع حين تُشرق الشّمس. فهذه الغرفة الوحيدة المُدفّأة حاليًّا.”
“هذه دافئةٌ ولطيفةٌ بما يكفي.”
جلست غلوريا أمام المِدفأة ونزعت قفّازيها المُبتلّين. كانت أصابعها متجمّدةً تمامًا.
وبينما كانت تُدلّك يدها، قدّمت لها المربية فنجانًا.
“أمسكي بهذا، سيساعدكِ.”
“شكرًا لكِ.”
شربت جرعةً من الشّاي السّاخن، فدفّأ المريء جسدها المتجمّد.
“أنا إليزابيث ميري ويذر، رئيسةُ الخدم في هذا القصر.”
“تشرفتُ بلقائكِ. أنا غلوريا ماكّين.”
ابتسمت غلوريا برقةٍ وهي تُجيبها.
سكبت إليزابيث المزيد من الماء السّاخن في فنجانها، ثمّ قالت:
“سأناديكِ حالما يُجهّز ماء الحمّام. ارتاحي قليلًا.”
“حسنًا.”
بعد أن تأكّدت من عدم حاجتها لشيء، خرجت إليزابيث.
ارتخت عضلات غلوريا أخيرًا، فاستندت إلى ظهر المقعد.
كان جسدها كلّه يؤلمها وكأنّها تعرّضت لضربٍ مُبرّح.
خلعت حذاءها ومدّت قدميها نحو المِدفأة.
كانت أصابعها تُشعرها بالوخز؛ لو تأخّرت قليلًا، لأُصيبت بعضة صقيع.
قرقر بطنُها فجأة.
منذ خرجت من منزلها، لم تتناول وجبةً واحدةً كاملة.
‘على الأقلّ وصلتُ حَيّة.’
صوتُ الحطب وهو يتشقشق في النار كان أشبهَ بتهويدة.
وأدركها النّعاس، حتّى بدأت تغفو.
لكن فجأةً، رفعت رأسها فجأة.
“آه! حقيبتي!”
قفزت من مكانها والتقطت الحقيبة، وأخرجت منها ورقةً كانت مدفونةً في الأسفل.
“هذا جيد…”
تنفّست الصعداء، ونشرت الورقة على الطاولة بعناية.
كانت الكلمات قد تَلطّخت، لكن لا تزال قابلةً للقراءة.
‘هل تحرسني حاكمة الحظّ؟’
تأمّلت غلوريا الورقة البالية، تُراجع في ذهنها رحلتها المُعجِزة.
كان عليها أن تحظى بالحظّ حتّى النّهاية.
عضّت شفتها وهي ترفع كمّها المُبتل، فظهرت آثار كدمةٍ واضحةٍ على جلدها.
كانت هديّةً من أخيها غير الشّقيق، جوناثان كورتيس، ذلك اللعين.
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 1"