دوق ، هل تُحب الدمىَ المحبوكةَ؟ - 3
“يا إلهي… ما الذي يحدثُ هنا؟!”
منذ أن جلبتُ دميةَ التنين الصغيرة، كنتُ أكلَمها مرارًا، وأروي لها أفكاري ومخاوفي، لكن…
لم تتحرك قطٌ، ولم تنطق بكلمة واحدةً حتى الآن.
رمشتُ عينَيّ في دهشة، غير متأكدة مما أراه.
“هل بالغتُ في التفكير حتى بدأت أرى أمورًا غير حقيقية؟”
لكن الدمية لم تكتفِ بالحركة، بل راحت ترفرف بجناحيها الصغيرين، ثم ارتجف جسَدها بأكمله قبل أن تمدّ أطرافها كما لو كانت تستَيقظ من سباتٍ طويل.
ثم فجأة، فتحت عينيها.
「آه… إلى متى كنتُ نائمًا؟ أشعر وكأن رأسي سينفجر من الألم…」
لكن… ليس لديها فم! كيف تثاءبت؟!
بينما كنتُ متسمّرة في مكاني غير قادرة على استيعاب الموقف، راحت الدمية، التي لطالما ناديتها بـ”السيد فيبي”، تحدّق في جسدها وتتمتم بامتعاض.
「ماذا…؟ لماذا ساقاي بهذا القِصر؟ من الصعب الحفاظ على التوازن! ولماذا رأسي كبيرٌ هكذا؟!」
ثم أخذ يقفز في مكانه بطريقة غير متزنة، قبل أن يُخفض بصره إلى يديه، ليطلق صرخة مذعورة.
「مستحيل… هذه يدٌ مصنوعة من الصوف؟! ولكن يداي… ما هذا بحق السماء؟! لقد تحولتُ إلى دميةٍ محبوكةٍ؟!」
راح يدور حول نفسه في ذعر، وكأنه يحاول التأكد مما حدث، لكن المشهد بأكمله كان… في غايةِ اللطافةَ.
“يا إلهي… أريد أن أحتضنكَ!”
لم يكن الأمر مجرد دميةٍ تتحرك، بل دميةٌ صغيرة تهتز بخوفٍ وارتباك، مما جعلها أكثر ظُرفًا بمراحلَ.
ضغطتُ يديّ بقوة فوق صدري في محاولةٍ للسيطرة على قلبي الذي كان يخفق بسرعة.
“هل هذا يعني أنه حقًا السيد فيبي؟”
ذلك التنين العظيم…
التنين الذي أنقذني ذات ليلة…
التنين الذي انهار فجأة، مُغطىً بالدماءِ…
لم أتمكن حتى من تغطيته جيدًا بذلك الوشاح الصوفي…
“هل تحوّل السيد فيبي إلى دمية؟!”
في لحظة، تحوّل الدفء الذي غمرني إلى برودةٍ حادة كالجليد، وتجمّدت أصابعي في مكاني.
إذا كان تنينٌ عظيمٌ قد تحوّل إلى دميةٍ صغيرة، فلا يمكن أن يكون السبب سوى…
“إنه خطئي.”
لا أعلم كيف، لكن… في اللحظة التي غطّيته بذلك الوشاح الصوفي، اختفى، ولم يتبقَّ منه سَوى هـذه الدمية.
لابدّ أنه تعرض لسحرٍ مشؤوم، سحرٍ جعلني… أحك!م عليه بهذا المصير.
“لم أتمكن حتى من منحه الدفء كما ينبغي…”
أطبقتُ شفتيّ في أسى، بينما راح فيبي، الذي كان يدور في مكانه ككلبٍ يلاحق ذيله، يتوقف فجأة، ثم التفت إليّ برأسه الصغير.
「ومن تكونين أنتِ؟」
“……!”
اتسعَت عيناي. لم أكن مستعدة لسماع هذا السؤال.
شعرتُ بشيءٍ ما يشدّ صدري، وكأن أنفاسي باتت ثقيلة فجأة.
أمال التنين الصغير رأسه في حيرةٍ طفولية، قبل أن يسأل مجددًا:
「لا تقولي لي أنكِ… إيفون؟」
“……السيد فيبي؟”
يا إلهي… إنه يتذكرني!
لم أتمالك نفسي، بل انطلقتُ نحوه مباشرةً، وأحطتُ جسده الصغير بين يديّ بح!نان.
كان حجمه لا يتجاوز كفّي، لذا لم أتمكن من احتضانه بالكامل، واكتفيتُ بفرك خديّ به بحبور.
“إنه أنتَ فعلًا، السيد فيبي!”
「إيفون! لقد كبرتِ كثيرًا منذ آخر مرة رأيتكِ! هل أكلتِ إحدى ثمار التكبيرُ السحريةَ أم ماذا؟!」
“ما هذا الكلام؟!”
ثمار تكبير؟ هل هناك شيءٌ كهذا حتىَ؟!
قهقهتُ بسعادة، ثم مددتُ سبابتي ومسّدتُ بها رأسه الصغير الناعم.
“لقد اختفيتَ منذ سنواتٍ طويلة، يا سيد فيبي…”
「هممم؟ سنوات طويلة؟ هل مضى كل هذا الوقت؟!」
أومأتُ برأسي، قبل أن أبدأ في سرد القصة بإيجاز.
كيف أنه اختفى فجأةً وهو ينزف، وكيف أنني وجدتُ نفسي ممسكةً بهذه الدمية حين استيقظتُ، وكيف انتهى بي الأمر في قصر الكونت كليينيه.
“أنا آسفة… هذا كله بسَببي…”
كلما استعدتُ الذكريات، ازدادت الدموع التي تجمّعت في عينَيّ.
وقبل أن أتمكن من كبحها، انهمرتَ على خديّ بغزارة.
لكن عندها، فعل فيبي شيئًا لم أتوقعه أبدًا…
ربّت على جبهتي بكفّه المستدير، قائلاً برقةٍ مطمئنةٍ:
「مهلًا، لا تبكي. لا أتذكر بالضبط ما الذي حدث، لكن… لا داعي لأن تلومي نفسكِ. فالتنانين لا تموت بسهولة. لا بد أنني كنتُ متضررًا بشدة، وهذا ما أدّى إلى تحوّلي إلى هذه الحَالة.」
“السيد فيبي…”
بمجرد أن نطق بهذه الكلمات، انهمرت دموعي بغزارةٍ أكبر، وكأنها خرجت عن السيطرة.
ارتجف جسد فيبي بشدة، قبل أن يصرخ بفزع:
「توقفّي! ستبللين جسدي بالكامل! الدمى الصوفية تصبح ثقيلةً إن ابتلّت!」
لكن رغم صراخه، لم أتمكن من التوقف.
راقبني للحظة، ثم أطلق تنهيدةً طويلة، قبل أن يتمتم لنفسه:
「لا بأس… على الأقلِ، سأمنح هذه الفتاة هديةً تُخفف عنها حزنها.」
مسحتُ دموعي بطرف كُمّي، قبل أن أرمقه باستغراب:
“هديةٌ؟”
عندها، انتفخ صدره الصغير بفخر، وقال بثقةٍ لا تتناسب مع حجمه الضئيل:
「لقد استعادت قوتي قليلًا، وأصبحتُ قادرًا على استخدام بعض السحر مجددَدًا! هل هناك شيءٌ ترغبين في رؤيته؟ شيءٌ تحتاجين مساعدتيَ فيهُ؟ سأحقق لكِ أي أمنيةٍ ترغبين بها!」
“سحرٌ، إذن…”
رغم أنني لم أستطع التفكير في شيء معين على الفور، فإن قلقي على فيبي كان أكبر من أي شيء آخر
بعد عشرات السنين، بالكاد استطاع التحدث مجددًا، فماذا لو استخدم قوته السحرية الآن وأصابه مكروه؟
تحدثتُ بحذر، مترددة في طلبي:
“… لا تُجهد نفسكَ، أرجوك. لو فقدتَ وعيك مرة أخرى، فسأبكي هذه المرة حتى تتورّم عيناي بالكامل.”
كنتُ أظن أن كلماتي ستُظهر مدى قلقي عليه، لكن فيبي، على العكس، داس على الأرض بغضبِ، وضرب الأرض بقدمه المكتنزة، مستاءً.
「يا لهذه الوقاحة! لمجرد أنني لم أتمكن من الكلام لبضع سنين، تظنين أنني ضعيف؟ حسنًا، سأريكِ عظمة التنين العظيم فيبي!」
“آه! انتظر، يا سيد فيبي!”
لا، لا، لا حاجة لذلك حقًا!
لكن قبل أن أتمكن من إيقافه، بدأ جسده يشعّ ضوءًا مبهرًا، تمامًا كالنور الذي انبثق منه حينما غطّيته بالوشاح قبل سنوات.
“انتظر، لحظة فقط!”
في غمرة القلق، احتضنت جسده الصغير بقوة، وأغمضتُ عينيّ مع الضوء الساطع…
وحين فتحتهما مجددًا…
كنتُ في مكانٍ آخر تمامًا.
“ماذا…؟ أين أنا؟”
كان النسيم يعبث بأوراق العشب، لكن الرياحَ كانت جافة، قاسية على غير العادة.
ومع ذلك، كان المشهد مألوفًا التلال المتموجة، وحقول القمح الممتدة بلا نهاية…
إنه إقليم الكونت كليين..
“لكن… لماذا أنا هنا؟”
كان الوقت صيفًا، لكن الهواء بدا باردًا على غير العادة. كنت أرتدي فستانًا قصير الأكمام، مما جعلني أرتجف لا إراديًا.
“هذا غريب… لقد كان الطقس لطيفًا طوال الأيام الماضيَة، لكن الجو الآن يبدو وكأن الثلج على وشك أن يهطل.”
عندها، نفخ فيبي صدره بفخر، بينما لا يزال مستقرًا في راحة يدي.
「من الطَبيعي أن يكون الطقس مختلفًا، فهذا هو المستقبل.」
“المستقبل؟!”
「التنانين كائنات روحية، لا تُقيّدها حدود الزمان والمكان. ولأنكِ صمدتِ وحدكِ بشجاعة طوال هذه السنوات، فقد فكرتُ أن المستقبل سيكون هديةً مناسبة لكِ.」
“المستقبل…”
「لقد عشتِ حياتكِ في قلقٍ دائم، أليس من الأفضل أن تطمئني بمعرفة ما سيحدث؟」
التقت نظراتنا، ثم ابتسم فيبي بخبث، قائلاً:
「ألستِ فضولية؟ لقد تلقيتِ عرض زواج، أليس كذلك؟」
…
“لو قلت إنني لستُ فضولية، سأكون كاذبة.”
بمجرد أن ذكر فيبي ذلك، عاد إلى ذهني ذلك العرض الذي قدّمه إيميل، والذي حاولتُ تجاهله مرارًا.
تذكرتُ كيف كنتُ مترددة، وكيف نظرتُ إلى الكونتيسة بحثًا عن إشارة، قبل أن أُومئ برأسي ببطء.
“إذا تزوجتُ منه… كيف ستكونُ حياتي؟”
لم يكن هناك سيناريو واضح في ذهني.
ربما… سنرزق بصبي يشبه إيميل، وفتاة تحمل ملامحي، وسنعيش حياة هادئة.
“إيميل سيكون زوجًا جيدًا، وأنا سأكون زوجةً صالحة.”
قد لا تكون هناك شرارة حبٍ عظيمة، لكننا عرفنا بعضنا البعض منذ وقتٍ طويل.
كنا نفهم بعضنا جيدًا، لذا سنعيش باعتدالٍ وسلامٍ.
وحتى إن وُجدت تقلبات في المستقبل، فإن كلاً منا لم يكن طموحًا بشكلٍ مفرط، مما يعني أننا سنواصل العيش ببساطة في هذا الإقليم.
“هذه ليست رؤيةً استثنائية، لكنها منطقية.”
لكن…
ما أراه الآن لم يكن يشبه تلك الصورة على الإطلاق.
صاح فيبي فجأة وهو يرفرف بجناحيه الصغيرين:
「انظري! هناك أشخاص مجَتمعون هناك!」
تقدمتُ نحوهم…
… ثم تجمّدتُ.
“لماذا… يرتدي الجميع الأسود؟”
إنه… مشهد جنازة.
“لماذا أُرينا هذا المشهد بالذات؟ من الذي تُقام له الجنازة؟”
مشيتُ بين الحشود. لم ينتبه أحدٌ لي، كما لو أنني كنتُ شبحًا.
بخطواتٍ ثقيلة، اتجهتُ إلى النعش…
وحين رأيتُ من بداخله، اتسعت عيناي في صدمة.
“ماذا…؟”
في داخل النعش، كان هناك جسدٌ مألوف…
وجهٌ شاحب، كأنه غُمر بالثلج، تتساقط عليه زهور الزنبق البيضاء بلا توقف.
كنتُ أنا.
“…أنا؟!”
شفتاي ارتجفتا من الصدمة.
“أنا… ميتةٌ؟!”
كان إيميل واقفًا بجانب النعش.
كان شعره البني مُصففًا بعناية، ولم يكن وجهه ي
حمل أي تجاعيد، مما يعني أن هذا لم يكن بعد سنوات طويلة من الزواج.
لم يكن هناك أي أطفال يقفون بجانب النعش أيضًا.
“لم ننجَب أطفالًا…”
نظرتُ إلى وجه إيميل، في محاولةٍ يائسة لفهم ما يشعر به.
لكن السؤال الوحيد الذي ظل يرنّ في رأسي كان:
“هل إيميل… بخيرٌ؟”