دوق ، هل تُحب الدمىَ المحبوكةَ؟ - 1
“دوقي، هل تُحب الدمىَ المحبوكةً؟”
عند سماعه صوتها الناعم الرقيق، التفتت عينا دانتي الحمراء نحو إيفون، التي جلستْ أمامهُ.
إيفون، الفتاة ذات الدم الممزوج بدماء الجنياتِ، كانت تتمتع بجمال هادئ تسوده هالةٌ من الغموضِ.
شعرها المجعد الناعم انسدل بلطف ليحيط بوجهها الأبيض،
حتى بدا وكأنه قد يكشف عن عروق خفية تحته،
وشفتيها اللتين تحملان ابتسامة رقيقة كانت وردية باهتة،
في حين ازدهرت وجنتاها بحمرة كحُمرة الورود.
‘بمَ أجيب؟’
تردد دانتي للحظة، ثم أومأ برأسهِ ببطء.
عندها، أضاء وجه إيفون بضحكة مشرقة، كزهرة تتفتح في الصباح.
“كنتُ متأكدةً من ذلكَ ! رغم أن تقدمكَ بطيءٌ ، إلا أنكَ لم تتوقف قطٌ عن المحاولةِ.”
كانت ابتسامتها آسرةً، حتى أن دانتي وجد نفسه يتأملها بصمتٍ، شفتيه مغلقتان دون أي كلمةٍ.
حين لاحظتْ ذلك، تقوقعَ جَسد إيفون قليلًا، وكأنها أدركتْ فجأةً أن كلماتها قد تكونُ أغضبتهُ.
“لـ-لكنَ سرعان ما ستتقن الأمرَ! الجميع يَتعلمُ بهذهِ الطريقةِ، أليس كذلكَ؟”
“……..”
لم أكن أتأملكِ لهذا السبب..’
تنهد دانتي، ملقيًا نظرة خاطفة نحو دمية الصوف الصغيرة التي أطلت برأسها الدائري من خلف كتف إيفون، متراقصةً بسخرية، وكأنها تستهزئ به.
‘ذلكَ الوغد…’
حدق دانتي فيها بحدة، فما كان من الدمية إلا أن تجمدت على الفور، متظاهرة بأنها مجرد دمية محاكة بلا حياة.
شعر برغبةٍ شديدةٍ في سحقِ رأسها الصغيرِ بإصبعهِ، إلا أنه اكتفَى بالعبوسِ.
وبينما كان منشغلًا في هذا الصراع الصامت، شهقتْ إيفون فجأة، وعيناها متسعتان.
“آه! إن قبضتَ على الخيط بهذه القوة، فلن تكون الغرز متساوية! حاول تخفيفَ قبضتكَ قليلًا… نعم، بهذا الشكل، برفقٍ أكثر.”
وبينما كانت تتحدث، ربتت بخفة على ظهر يده بأصابعها الرقيقةِ.
في لحظة، احمر وجه دانتي الأسمر، وانتشرت حمرة خفيفةٌ على وجنتيه.
“كح كح”
كانت دمية الصوف، تلك المَخلوقة الصغيرة، تقهقه بصمتٍ، مما زاد من توترِ دانتي.
أخذ نفسًا عميقًا، ثم انحنى للأمام قليلًا ليحجبها عن مجال رؤيته، محاولًا التركيز على العمل بيديه الكبيرتين.
ظاهريًا، بدا هادئًا، لكن داخله كان ممتلئًا بالاضطرابِ.
‘لماذا أقومُ بهِذا أصلًا؟’
في البداية، كل ما أراده هو استمالةُ هذِه الفتاةُ البريئة، فادّعى الاهتمامَ بالحياكة.
لكنه الآن… لم يعد قادرًا حتى على الاعتراف بأنهُ لا يهتمُ بها حقًا.
أمسك بالإبرةِ، وبدأ يحوكُ مجددًا، لكن كما قالتَ إيفون، كانت غرزه غير متساوية، فتنهد بعمقٍ.
دانتي كريستوفر، دوق الإمبراطورية، الجناح الأسود للإمبراطورية، قائد الفرسان الملكيين، حاكم الأراضي الشمالية الشاسعة…
كيف انتهى به المطافِ في هذا الموقف الغريِب، يمارس الحياكةَ؟
للإجابة عن ذلكَ، لا بد من العودةِ إلى ما حدِث قبل ثلاثةِ أشهرِ بالضبطَ.
* * *
كانتْ ذكرياتٍ لا تتعلقُ بوالداي، بل بكائن عظيم، ذو جناحين ضخمين بلون المياه العميقة.
التنين العظيم، فيتويانيس.
كان يحملني على ظهره ِوهو يهرب.
خلفنا، تعالت أصوات الصراخ، وأمواج من البشر كانوا يطاردوننا بجنون.
“أمسكوا به!”
“إنه يحمل الصغيرةَ ! لا تدعوها تفلت!”
“اقضوا عليها إن لزم الأمر! أطلقوا السهام فورًا!”
وسط الظلام الحالك، امتزجتْ أصوات صهيل الخيول، ولعنات الصيادين، وتوهج المشاعَل المرتجف.
كنت صغيرة جدًا، ولم أفهم ما كان يحدث، سوى أنه كان مرعبًا…
فغمضت عينيّ بشدة، وأحكمت ذراعيّ حول عنق فيتويانيس.
لا أدري كم من الوقت استمر هروبنا، لكن في النهاية، بزغت الشمس، وتلاشى المطاردون في الأفق.
عندما نزلنا إلى الأرض، كانت يداي الصغيرة باردةً ومتصلبةً من الخوفِ.
نظرتُ إلى فيتويانيس، ووجدتُ أخيرًا القوة لأطرح السؤال الذي كان يعتمل في صدري طوال ذلك الوقت.
“أين أمي…؟”
لم تكن أمي بجانبي.
“كان عليهُ أن يأخذها معَنا… كان عليه أن ينقذها أيضًا…”
لم أكن أعلم من كان يطاردنا، أو إلى أين كنا نذهب، لكنني كنت أعرف شيئًا واحدًا فقط أنني أريدُ أمي.
أردتها أن تعانقني، أن تخبرني أن كل شيء سيكون بخير… عندها فقط، كنت سأشعر بالأمان.
لكن نظرات فيتويانيس نحوي كانت مفعمة بالحزن، قبل أن ينطق ببطء:
“لن تتمكني من رؤية والدتكِ مجددًا.”
“…ماذا؟”
شعرتُ ببرودة تجتاح جسدي كله، وعيناي تحدقان به بذهول.
ثم… بدأ جسده الضخم يتهاوى، وكأن قوتهُ قد استُنزفت بالكامل.
“وأنا أيضًا… أعتقد أن هذه هي نهايتَي.”
“ف-فيتويانيس!”
كان الدم يتدفق بغزارة من عنقه الطويل، يتسرب بين قشوره الصلبةِ.
هناك،َ بين الحراشف المتينة، كان رمح ضخم قد اخترق جسده.
“بسَببي…”
لم أفهم كل شيء، لكنني كنت متأكدة من شيءً واحدٍ فيتويانيس أصيب بسبب محاولته إنقاذي.
فجأة، انفجرت الدموع من عينيّ، وسقطتُ على ركبتيّ، ممسكةً بمخالبه الضخمة، وصرختُ بحرقةٍ…
“لا تنم، أرجوكَ! أمي كانتَ تقول إنه لا يجب النوم عندما يكون أحدهم مريضًا… سأذهب لإحضار الطبيب. سأبقيك دافئًا، لذا… لذا فقط انتظرَ قليلًا، حسنًا؟”
ثم، بيدين صغيرتين مرتجفتين، غطيتُ جسد فيتويانيس بذلك الشال.
كنت أريد تدفئته، ولو قليلًا…
لكن بالمقارنةِ مع حجمهِ الهائل، كان الشال الذي بحوزتي صغيرًا للغايةِ.
عيناه الذهبيتان، اللتان كانتا تنظران إليّ بحنان، بدأت تغيم ببطء، كما لو أن بريَق الحياة كان يخفتُ منهما شيئًا فشيئًا.
“فيـ-فيتويانيس!”
غرقتُ في البكاء، وأغمضتُ عينيّ بإحكام.
“أحدهم… أحدهم، فلينقذهُ، أرجوكَ!”
وفي تلك اللحظة تمامًا
الشال الذي كنت أحاول أن أغطيه به بدأ يشع بضوء ناعم دافئ.
كان ضوءًا يشبه ذلك الدفء الذي كنت أشعر بهِ عندما كانت أمي تحَتضنني.
“لماذا… لماذا يشع الشال بهذا الشكل؟”
لقد كان هذا الشال الذي حاكته أمي بيديها من أجلي، لكنه لم يصدر مثل هذا الضوء من قبل…
“إنه ساطعٌ جدًا!”
أغمضتُ عينيّ، غير قادرة على تحملِ شدّة النور.
وعندما فتحتهما مجددًا
“هاه؟”
لم يكن هناك أي أثر لذلك التنين العظيم، بل فقط… دمية صغيرة محاكة وضعت مكانه.
“تنين صغيرٌ؟”
بيدين مرتعشتين، رفعتُ تلك الدمية برفق.
كانت محاكة بعناية، برأس دائري من الصوف بلون الزمرد، تتدلى منه خصلاتٌ ناعمةّ بيضاءً.
وعلى ظهرها، امتدت جناحان صغيران، نصف شفافين، يشبهان جناحي الخفافيش.
كانت الدمية… لطيفةً جدًا، حتى أنني شعرتُ برغبةٍ في عضها من فرط الظرافةِ.
لكن… أين ذهب فيتويانيس؟
من أين أتى هذا المخلوق الصغير؟
ظللتُ متيبسة في مكاني، مذهولة وعاجزة عن الفهم.
وفجأة، سمعتُ صوتًا خلفي، كأن شيئًا تحرك وسط! الأوراق الجافة.
شددتُ قبضتي على الدمية الصغيرة، واستدرتُ نحو مصدر الصوت.
كان الفجر قد بدأ يُلقي بضيائه الخافت، يبدد بعضًا من برودة الليل.
ومن بين الأشجار، ظهر شاب يرتدي درعًا خفيفًا، وملامحه يغمرها الاستغراب.
عندما التقت عيناه بعينيّ، اتسعَتا قليلًا.
فتح فمه كأنه على وشك قول شيء، لكنه تردد لبرهة قبل أن يسألني بصوت هادئ، وإن كان يحمل شيئًا من الدهشةِ:
“ماذا تفعل طفلةٌ صغيرةٌ هنا؟ وأين ذهب ذلك التنين العظيم؟”
عند سماعي لكلماته، عاد إليّ شريط الذكريات
فيتويانيس، الذي كان يحيطني بجناحيه الضخمين، لم يعد موجودًا.
شعرتُ بشيء ينكسر داخلي، وانهمرت الدموع من جديد.
بكيتُ وقلتُ بصوت مرتجف:
“لـ-لستُ أدري… لقد اختفى فجأة.”
“أفهم…”
للحظة، بدا أنه مترددٌ، لكنه سرعانَ ما تقدم نحوي، وجثا على إحدى ركبتيه ليصبح في مستواي.
كان هناك توتر في ملامحه، لكنه أمسك! بكتفيّ برفق، وسألني:
“ما اسمكِ؟”
“إيفون.”
رددتُ بصوت خافت، فكرّر اسمي وكأنه يتذوقه ببطء:
“إيفون…”
ثم، مدّ نحوي يده الكبيرة، وقال بصوت دافئ:
“إن لم يكن لديكِ مكان تذهبين إليه… ما رأيكِ أن تأتي معي؟ لديّ ابن في مثل عمركِ، وسيكون سعيدًا إن أصبحتِ صديقته.”
كنتُ خائفة ومترددةً، لكن… كنتُ وحيدة في هذا الغابة، بلا أم، بلا فيتويانيس، بلا أي شخصٍ آخر.
بعد لحظة من التردد، مددتُ يدي الصغيرة وأمسكتُ بيده.
وهكذا، بدأتُ حياتي الجديدةَ.
الشخص الذي أخذني من تلك الغابة كان الكونت كليين، أحد نبلاءِ الشرق.
لم يكن لديّ اسم أو هوية، لكن الكونت وزوجته عاملاني كما لو كنتُ ابنَتهما.
ومع مرور السنين، كبرتُ وترعرعتُ تحت رعايتهما، حتى أصبحتُ فتاةً يافعةً.
وحينها، جاء المنعطف الذي غيّر حياتي للأبدِ.
في إحدى الأمسيات، وبينما كنتُ أقف في شرفة القصر، ظهر أمامي إيميل كليين، الابن الوحيدُ للكونت.
نظر إليّ بعينين جادتين، ثم قال بصوت واضح:
“إيفون، هل تقَبلين الزواجَ بي؟”
لقد تقَدم لي إيميل كليين، الابن الوحيدّ للكونتِ كليين.