في طرفة عين عمّت الفوضى. شحب وجه الباحثين وهم يضغطون على ساعاتهم المعلّقة في المعصم أو يثبتون قبضاتهم على الأجهزة اللوحية. ترددت حولي أصوات الآلات وهي تُشغَّل من كل اتجاه. بدا أنهم يتخذون إجراءات عاجلة.
وسُمِعَت شتيمة ضجرٍ من مكان قريب. انكمشتُ خلف المكتب وانحنيتُ حتى غطاني سطحه، ثم جذبتُ الدرج بقوة مرة أخرى. لم يتحرك.
نعيد الإبلاغ.
كانت أدراج الخزانة الثلاثة مغلقة جميعها بقفل واحد.
بدأت أفتش حولي فورًا. الأدراج القريبة من اليد تُفتح باستمرار، لذلك من المرجّح أن المفتاح قريب، وبنسبة كبيرة يكون متروكًا من أجل الراحة.
حالة طوارئ. هروب غريب. على جميع الوحدات الاستعداد.
قلبتُ حافظة الأقلام، وبحثت تحت لوحة المفاتيح وخلف الشاشة، ثم قبضت على رزنامة المكتب.
تحسست الجزء الداخلي من الورق المطوي. كان شيء ما عالقًا عند حلقة السلك بمشبك. سحبته فكان المفتاح.
أدخلته في قفل الدرج وأدرته فاستجاب بسلاسة. فتحتُ الدرج الأعلى. كان مليئًا بالخردة.
‘أهكذا يترك مكانه؟’
تحاملت على نفسي وأنا أقلب الأدراج الثلاثة جميعها. جمعت كل بطاقة وجدتها بين شوكولاتة نصف مأكولة وقطع دبابيس مبعثرة، ثم دسستها في جيبي. أرجو أن تُفتح غرفة الأمن بإحدى هذه البطاقات فقط.
هروب غريب. على جميع الوحدات الاستعداد.
أغلقت الأدراج. عليّ الآن أن أعود فورًا إلى غرفة الأمن في الطابق السفلي. لكن ما إن هممت بالقيام وأنا أشدّ المعطف على جسدي، حتى أدركت الخطر.
انكمشتُ من جديد وتابعت الوضع. كان الباحثون عند آخر الممر قد رفعوا نوافذ شفافة في الهواء بواسطة ساعاتهم، وكانوا يحدقون فيها بوجوم.
وكانت الواجهة المعروضة… وجهي.
على جميع الوحدات الاستعداد.
استدرت وأسندت ظهري إلى الأدراج وأمسكت أنفاسي. لم يعد بوسعي الاندساس بينهم. الآن يعرف الجميع وجهي.
التقطت أنفاسًا عميقة. وأنا أحاول الاختباء قدر المستطاع أمسكت بالفأرة. الشاشة كانت مقفلة. جربت الأرقام المكتوبة على ورقة لاصقة أسفل الشاشة، لكنها أخفقت جميعًا.
بحثت فوق المكتب. وبينما أراجع الأوراق المخبأة تحت زجاج سطحه، قلبت لوحة الفأرة، فإذا بورقة صغيرة تحمل رقمًا ملتصقة أسفلها.
أدخلت الرقم كما هو. انفرج قفل الشاشة، وظهر سطح العمل.
فتحت نافذة الرسائل إلى اليمين. اخترتُ “الجميع” كمستقبِل، وكتبت بسرعة:
[طوارئ.
الغريب يحتجز باحثًا رهينة في أعلى طابق ويُهدّد بالتصعيد.
على جميع الوحدات الدعم فورًا.]
ما إن أرسلت الرسالة حتى ظهر أثرها فورًا. بدأ الباحثون يذكرون محتوى الرسالة بفزع، وهرعوا جميعًا نحو جهة واحدة.
استغللتُ هذه الفوضى وغادرت المختبر مسرعة. تجاهلت المصعد الذي سيمتلئ بهم، واخترت الدرج.
قابلت في طريقي بعض الباحثين، لكن السيطرة عليهم لم تكن صعبة. فالحقنة شديدة الفعالية. وكنت أعرف ذلك جيدًا لأني أسقطت بنفسي حين طُعنت بها.
حين وصلت غرفة الأمن، أخرجتُ كل البطاقات وصنعتها في قبضتي اليسرى، ثم بدأت ألتقط واحدة تلو الأخرى بيدي اليمنى، وأمرّرها على لوحة الأمن. فإن فشلت ألقيتها على الأرض فورًا.
تساقطت البطاقات على بلاط الأرض واحدة بعد الأخرى، وعرقٌ بارد يسيل على ظهري. إن أخفقت هنا انتهى كل شيء. لن يبقى وقت لأية مناورة أخرى.
وبقيت ثلاث بطاقات فقط حين أطلقت اللوحة صوتًا خفيفًا، ثم أضاءت.
أسقطت البطاقة من شدة الارتباك ثم هرعت ألتقطها من الأرض. دفعتُ الباب الحديدي بكل قوتي.
لقد انفتح!
داخل صدري كان نبضٌ يضرب كطبول الحرب. وبمجرد أن دفعتُ الباب ودخلت، تجمدت من الدهشة.
بدت القاعة كمعرضٍ فسيح، أكثر منها غرفة تخزين. مساحة صُممت ليُرى ما فيها، لا ليُخفى.
كان الهواء نديًّا، والنور يفيض من كل اتجاه. ورغم كون المكان بلا نافذة وفي عمق الأرض، شعرتُ كأني علا الجبل ورأيت بعض اتساع السماء.
نسيم بارد هبّ فجأة، فاضطرب شعري الذي تبلل بالعرق في ركضي وهربه.
“اختاري الشيء الذي يبدو أفضل. فترين له رتبة.”
لم يكن عدد الأشياء كثيرًا. مساحة واسعة تنبت عند أطرافها قليل من الطحالب والعشب، وفي مركزها كانت بضعة أشياء كبيرة وصغيرة، تطفو ببطء في الهواء وسط هالة من ضوء خافت.
تقدمت أولاً بحذر… ثم بدأت أركض. كنت أشعر بتموّج الهواء تحت خطواتي. وكلما رفعت قدمي ظهر من موضعها هالة دائرية من نور تنتشر ثم تضمحل.
“لا تلمسي أي شيء عبثًا. كل إنسان لا يستطيع الالتحام إلا بسلاح واحد.”
كان هناك خمسة أشياء في الهواء.
قوس أسود لامع، كرسي حديدي قد صدئ باللون الأحمر، حصاة صغيرة زرقاء، خاتم أبيض منقوش بفخامة، وكتلة بحجم راحة اليد تلمع بلون الذهب، كالهلام.
“السلاح الجيد يعرف من النظرة وحدها.”
‘لا أعرف شيئًا!’
أخذت أدور حول الأشياء مرتبكة. لا أجرؤ على لمسها مباشرة؛ فلو التصق واحد منها بجسدي لأي سبب لانتهى أمري. وقالوا لي إن ما تحت رتبة F لا ينظر إليه أصلًا.
قالوا إن الرتبة تظهر…
رفعتُ البطاقة قليلًا نحو الأشياء. ولم أتوقع شيئًا، فإذا بنوافذ شفافة تومض فجأة فوق كل قطعة. تحوي اسم الشيء، رتبته، تاريخ تخزينه، اسمه المسؤول عنه، واسم المشرف.
بدأت بالرتبة. لكنها لم تكن بالحروف A و B كما قال أولئك الناس، بل برموز: اثنان يحملان شعار قلعة زرقاء، واثنان يحملان رمز رمح أحمر، وشيء واحد فقط بلا رتبة إطلاقًا، وخانة الرتبة فيه فارغة.
‘أي هذه أفضل؟’
هل الرمز الأزرق هو الأعلى؟ أم الأحمر؟ أم الفارغ؟
لم أعرف. انتقلت إلى سطر “المشرف”. كانت كل الأشياء الأربعة تحت إشراف رئيس الفريق البحثي. عدا شيء واحد… كان مشرفه:
قائد الكتيبة الخاصة 207.
وفجأة اختفت النوافذ.
رفعت البطاقة مرة أخرى، ولا شيء. لا شك أن أحدًا أوقف صلاحيتها.
وما إن فكرت بهذا حتى سمعت صوت فتح الباب خلفي. تراجع الباب الحديدي بصرير خفيف، وظهرت وجوه باحثين من الفجوة.
والباحث الذي كان في المقدمة التقت عيناه بعيني، في اللحظة نفسها التي مدتُ فيها يدي وانتزعتُ أحد الأشياء من الهواء.
الكتلة الذهبية بحجم الكف… الشيء الوحيد الذي يشرف عليه قائد الكتيبة.
“لاااا!”
صرخ الباحث وهو يندفع بكل قواه. وتبعه الباقون مهرولين.
“أنتِ… أنتِ… ضعيه! ضعيه! ليس هذا! لااااا، أرجوكِ…!”
رأيت وجوههم تتشح بالسواد من الذعر. وفهمت.
هذا هو. هذا ما عليّ أن أجعله ملكي، مهما كلف الأمر.
تراجعت خطوة ومسحت الهلام على ساعدي. فلم يحدث شيء. كان فقط لزجًا ممقوتًا، لا علامة على التصاق أو اندماج.
أخذت الهلام وركضت في الاتجاه الآخر. وفي الوقت نفسه رفعتُه إلى فمي. لم يخطر لي أي حلّ آخر.
كان الهلام دافئًا وطريًا. وكبيرًا جدًا… لدرجة أن سحقته بأسناني.
صدر صوت “بَضْدَق” وانفجرت مادة لزجة ذات طعم معدني. كدت أتقيأ، لكنني أجبرت نفسي على ابتلاعها.
“آآآااه!! جنون! جنون!”
“أوقفوها!”
“أمسكوا بها! أمسكوها!!”
وبينما كان آخر ما تبقى في يدي يدخل فمي، انقضّ باحث من الخلف. تدحرجت معه على الأرض.
اعتلاني ورجّ كتفي وهو يصرخ:
“أيتها الـ… اخرجيه! اخرجيه! آاااااه!!”
كان هو الباحث الذي تقدم الصفوف. وفي خضم صراخه رأيت اسمه مكتوبًا على شارة صدره:
رئيس الفريق البحثي: جانغ سوكجو. صاحب البطاقة.
“سيدي! فقط… فقط أخرجه!”
“كيف أخرجه؟ أأشق بطنها؟”
“أدخلوا يدكم في فمها! حتى نصفه… دعوني أحاول!”
“لا، دعني… أنت! أمسكوا فكها!”
أجبرني أحدهم على فتح فمي بالقوة. وما أن نفذّت يد جانغ سوكجو إلى داخل فمي حتى عضضت عليها بكل ما أملك.
“آاااااه!!!”
“سيدي!”
“عضّتني! عضّتني! الدم…!!”
“اسحب يدك! اسحبها!!”
خرجت يده باضطراب. واستغليت لحظة الفوضى وابتلعت ما تبقى من السائل المعدني.
ارتجّ جسدي. أصابني دوار شديد. وسعلت بعنف. انحرفت رؤيتي.
“لقد… ابتلعته. ابتلعته حقًا…”
“أحقًا أكلته؟”
“انظروا… لا شيء في فمها…”
شهقت وأنا أمسك بطني. شيء ما في داخلي يخدش أحشائي تمزقًا. وانتشرت وخزات غريبة من أصابعي حتى أطراف قدمي.
لم أكن أعلم إن كنت سأعيش دقيقة أخرى، لكن أمرًا واحدًا بدا مؤكدًا.
كانت الوجوه فوقي تتقلّب بين الهلع والرعب. وانحنى جانغ سوكجو بنظارته المائلة وقال بصوت مبحوح:
“لقد هلكنا.”
مهما كان الذي ابتلعته… فقد ابتلعته حقًا، وبأبشع طريقة.
——–
كفو آيون
ترجمة : Moroha
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 9"