شدَدتُ أسناني وركضت. كنتُ حافية القدمين، وفي كلتا يديّ حفنة كبيرة من الحقن. كان الممر الأبيض الناصع الخالي من البشر إلى حد يقشعرّ له البدن. وهذه نعمة ساقتها الأقدار.
وصلتُ إلى نهاية الممر منزلقَةً. انتزعتُ بطاقة الموظف من جيبي ولوّحتُ بها على لوحة الأمن مرات متتابعة.
فشل. ثم فشل. ثم فشل.
لم تتحرك لوحة الأمن قيد أنملة، وكل ما حدث أن عدّاد المحاولات ذاب بسرعة.
كانت بطاقة الموظف من ذاك الباحث الذي انتزعها من عنقه بايك إيهيون قبل خروجه، وقد تركه لمراقبتي. لكن الباحث خفف حذره سريعًا، لأنني تظاهرت بالعجز المطلق فوق طاولة الفحص.
وحين لم يحتمل الباحث الملل فأخرج جهازه اللوحي وحنى رأسه، أمسكتُ خزانة أدوات قريبة وضربتُ بها طاولة الفحص بكل ما أوتيت من قوة.
تحطمت الخزانة واندلقت منها حقن مليئة بالأدوية. هي نفسها الحقن التي حُقنت بها أول دخولي إلى المختبر.
أسرع الباحث المذعور إليّ، فغرستُ في عنقه إحدى الحقن فأغمي عليه. فتشتُ جيب معطفه فوجدت البطاقة، ثم قبضتُ على باقي الحقن وخرجتُ من المختبر. لم يكن الأمر صعبًا.
أسرعت إلى الدرج الطارئ، وهبطت إلى الأسفل، وركضت بكل ما أوتيت حتى وصلت إلى غرفة الأمن من الدرجة الأولى في نهاية ممر الطابق السفلي.
“سيجرّونك إلى المختبر حتمًا. فكل ما يُرى فيه شبهة يُفتَّش هناك. انتظري فرصةً ما ثم اهربي.”
هذا ما قاله لي الغرباء الآخرون حين نُقلنا من البوابة إلى السفينة.
“حين تنزلين إلى الأسفل ستجدين غرفة الأمن من الدرجة الأولى. هناك أعظم الأسلحة.”
وعندما سألتهم: أيريدون مني قتالهم؟ لوّحوا بأيديهم نفيًا.
“إنها أسلحة تلتحم بالجسد. غالية جدًا ونادرة. إن التصقت بجسدك فلن يجرؤ أحد على قتلك.”
“منها ما يلتصق بالجلد، ومنها ما يُزرع جراحيًا. امسكي السلاح وافركيه على ذراعك. لو التصق وصار جزءًا منك فهو لك.”
“لكن انتبهي. لا يمكن للإنسان أن يلتصق إلا بسلاحٍ واحد.”
تسابق الناس إلى إخباري بكل ما يعرفونه.
وكان لهم الحق؛ إن تبيّن أني غريبة عادية، فسنُقتَل جميعًا. كان لا بد أن أعيش، لكي ترتفع فرص نجاتهم.
كان الجنود يعاملونني أنا وهؤلاء الناس كحزمة واحدة. كانوا يحافظون على كل ما يتعلّق بي حتى يتحققوا من قيمتي.
“اختاري أفضل ما ترينه. ستعرفين قيمته من النظرة.”
“بل لا وجود للرتب بعد آخر تحديث.”
“ما هذا الكلام؟ الرتب موجودة. كنت ألعب حتى أصابتني سكتة قلبية. كيف لا تكون الرتب موجودة؟ كل شيء ظاهر. الرتبة S عند الإمبراطور فقط، لذا أعلى ما تجدينه هنا هو A. وإن لم يكن فمن فئة B. أمّا ما دون F فلا تنظري إليه.”
“إن علّقتي على جسدك شيئًا تافهًا فسيقتلونك عقابًا. إن أردتِ أن يهابك الجنود فلا بد أن تتملّكي سلاحًا نفيسًا، بحيث يُؤسف قتلُك.”
“لا تهتمي الآن بالرتب. المهم أن تصلي لغرفة الأمن. السلاح الجيد يُعرَف من النظرة.”
“انزلي للأسفل. آخر الممر تحت الأرض.”
كانت معلوماتهم دقيقة، فالوصول لغرفة الأمن لم يكن صعبًا. المشكلة جاءت بعد ذلك.
لا تنفتح!
مهما لوحتُ بالبطاقة، لم تُصدر لوحة الأمن إلا ضوءًا أحمر يلمع ثم ينطفئ.
كتمتُ الشتيمة. واضح أنّ بطاقة هذا الموظف تخصّ باحثاً بسيطًا. لن تكفي. أحتاج بطاقة أعلى رتبة.
عدتُ نحو المصعد فورًا. ما عاد ثَمَّة وقت للصعود بالدرج؛ لا بُد أنهم اكتشفوا هروبي الآن.
انفتح باب المصعد. كان فيه باحث مطأطئ الرأس نحو جهازه اللوحي، فلم ينتبه إليّ وأنا أغرِزُ الحقنة في ذراعه.
هوى بلا حراك. انتزعتُ معطفه وفتشت جيوبَه فوجدت بطاقة الموظف. لم تختلف كثيرًا عن تلك التي بحوزتي.
علّقتها على عنقي، وحملتُ المعطف والجهاز اللوحي ودخلت المصعد.
“الطابق الثالث. إيّاك أن تذهبي إليه.”
ضغطت الزر الثالث، ثم زر الإغلاق مرارًا.
“هناك مقرات الباحثين. خطر كبير.”
لكن لا بد أن أذهب. أبواب غرفة الأمن لا تفتح ببطاقات عادية.
وأفضل وسيلة هي العثور على أعلى شخص رتبة هنا. ولن أعثر عليه إلا حيث يكثر الناس.
بينما ارتفع المصعد، ارتديت المعطف بسرعة. أغلقت أزراره وعلّقت البطاقة على صدري. كان قلبي يخفق حتى أطراف أصابعي.
“قلتَ إنك تستطيع رؤية نافذة الحالة.”
ترددت في رأسي نبرة بايك إيهيون.
“سنختبر صدق كلامك عما قريب. وعلى أساس النتيجة يحدّد أمرك.”
والإشكال أن ذلك الاختبار ربما لا يبرهن شيئًا. حتى لو صحّ أني أرى نافذة الحالة، لا ضمان بأنهم سيبقون على حياتي. قد ينتهي بي الأمر مُعَلَّقة في مختبر ما.
ثم إنني لا أعرف كيف أُظهِر نافذة الحالة. ولم أَرها منذ خروجي من البوابة.
ربما لا تظهر إلا داخل البوابة. أو لها أجلٌ محدد. وإن كانت اختفت فلست مختلفة عن الآخرين.
لهذا لا بد أن أتحرك. لا أحد سيحفظ سلامتي غيري.
“ما يعنيني هو من يقف وراءك.”
وراءي؟ لا أحد.
‘لقد كنتِ فقط منحوسة. هذا ما يصف حالي.’
المهم أنني هنا وحدي. ولو كان لي سند لما كنت في هذا العذاب.
لكن بايك إيهيون يشك، ولا أملك البرهان. وفي النهاية لا بد أن أعتمد على نفسي.
جربت الهرب مرات عديدة من السفينة. خططنا كثيرًا بلا جدوى.
هذه الفرصة الوحيدة. وإن ضاعت فلن تتكرر. لا بد أن أنجح.
وترددت كلمات أولئك الذين سقطوا معي إلى هذا العالم.
“رجاءً… أنقذينا.”
ظلّوا يتأسفون أنهم لم يدافعوا عني أمام الجنود. ولم يعنِني الأمر كثيرًا. أنا نفسي كنتُ سأفعل مثلهم.
ثم إنني أريد أن أنقذهم. هم يعرفون قواعد اللعبة بعكس جهلي.
ثم إن بينهم طفلًا صغيرًا. هو أول من دفعتُه نحو المخرج.
طفلٌ التحق للتو بالمدرسة الابتدائية، وقال إنه لمس اللعبة من باب الفضول بعدما تركها أخوه الأكبر مفتوحة، وآخر ما يتذكره هو ممر المشاة أمام المدرسة. ورجّح الجميع أن حادث سير قد وقع.
كان يلتصق بي طول الوقت، ولما اقتادوني الجنود كان وجهه أزرق كالثلج فلم يقدر حتى على البكاء.
انفتح باب المصعد.
ظهر بضعة باحثين في الممر. بدا المكان كمكاتب شركة عادية. ربما لم يعلموا بعد بهروبي، أو ربما لا يُعد الأمر مهمًا لهم. وفي كلتا الحالتين فهذه مصلحة لي.
أخفيت الحقنة خلف الجهاز اللوحي. سرت بمحاذاة الجدار، بينما عيناي تلتهمان المكان.
كانت المكاتب والمختبرات أبوابها مفتوحة، لكن لا وقت للتفتيش واحدًا واحدًا.
أبطأتُ الخطى وألصقتُ نظري بلوحة توزيع المقاعد على الحائط. بحثت عن منصبٍ أعلى دون جدوى.
اجتزتُ قاعة الاجتماعات، ثم المخزن، ثم إدارة الخدمة دون نتيجة. حتى بلغت مختبرًا بدا في لوحة الجدار أن أعلى مقعد فيه يحمل منصبًا:
رئيس الفريق البحثي: جانغ سوكجو.
هذا هو. لمحت الداخل. المقعد الأعلى خاوٍ، وبضعة باحثين يتجاذبون أطراف الحديث. إن أخرجتُهم فالأمر لي.
اقترب باحثٌ مصادفة نحوي. حين مر بمحاذاتي غرستُ الحقنة في ذراعه. أطلق صوت “آه” وانهار.
تجمع الباحثون مذهولين. وخرج من في المختبر لاستجلاء الأمر. فانسللتُ وسط الفوضى ودخلت المختبر.
وفي تلك اللحظة انطلقت رسالة الطوارئ.
حالة طوارئ.
أسرعت إلى المقعد الأعلى وفتحت الدرج. كان مقفلاً.
حالة طوارئ. غريبٌ واحد هرب من المختبر. جميع العناصر إلى حالة تأهب.
—
نايس 🔥
سلاح الالتحام الجسدي:
سلاحٌ خاص مصنوع من روحٍ متجسدة، يندمج مع جسم المستخدم. تُصنَّف الأرواح من S إلى F، ولا يستطيع الإنسان الالتحام إلا بسلاح واحد.
إزالة السلاح بعد التحامِه تؤدي غالبًا إلى موت المستخدم وفناء الروح، ولذلك يُعدّ انفصالُه مستحيلًا تقريبًا.
كلما كان السلاح أقوى اشتدّت آثاره الجانبية على النفس والجسد.
ترجمة : Moroha
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 8"