1
كنت أستقل الحافلة.
كنت أرغب في ارتداء سماعات الأذن مثل باقي المراهقين في سني، لكنني لم أملك واحدة، لذا اكتفيت بالنظر من النافذة إلى شوارع المدينة الداخلية، وأنا أسرح بخيالي… ليس عن امتلاكي مشغل موسيقى، بل عمّا قد يحدث لاحقًا في ذلك اليوم.
كان أول أحلامي قريب المنال، على بُعد شارعين تقريبًا.
كنت أحبّ أن أتخيّل أن إيفاندر تشيني سيخرج من مكتبة ستانلي ميلنر ويصعد إلى الحافلة التي أستقلها.
كنا نسير في الاتجاه نفسه، وننزل في المحطة نفسها، وكلا الأمرين صحيحان في أغلب الأيام. لكن التوقيت دائمًا كان مجرد خيال فهو عادةً ما يتأخر عني، فأفقد فرصة رؤيته.
في خيالي، كان يركب الحافلة، يراني، يلاحظ أن المقعد بجانبي فارغ، ثم يجلس هناك.
كان الأمر سخيفًا بعض الشيء، لكن في حلمي لم أكن بحاجة لأن يحدث أكثر من ذلك.
مجرد جلوسه بقربي كان كافيًا ليحوّلني إلى بركة من السعادة.
وإذا مرّت الحافلة بالمكتبة دون أن يصعد،
كنت أملك خيالًا آخر جاهزًا.
كنا متجهين إلى المكان نفسه، لأنني كنت ذاهبة إلى منزله.
كان يعيش مع عمه فينسنت وعمته إيمي، وكنت أعمل جليسة لطفلتهما كل مساء ثلاثاء وخميس.
أحيانًا كان إيفاندر هناك، لكن مهمته لم تكن العناية بالطفلة، بل الانعزال في قبو المنزل وتجنّب التعامل مع الناس قدر الإمكان.
وهنا تبدأ أحلامي الثانية… كنت أتمنى أن يخرج من القبو ويتحدث إليّ.
كنت سأتحدث معه بدوري، وسرعان ما ندخل في حديث ممتع.
في حلمي، كان بيننا الكثير من القواسم المشتركة، وبعد ثلاثين دقيقة فقط من الحديث، كنا سنشعر فطريًا أننا خُلقنا لبعضنا. ثم سيسألني الخروج معه في موعد.
ثم كان لدي مجموعة من المواقف الصغيرة التي تخيّلتها مسبقًا.
على سبيل المثال، كنت أتمنى أن يكون هو من يجيب على الهاتف عندما أتصل بمنزله، أو أن يعرض مرافقتي إلى البيت بعد حلول الظلام، أو أن ألتقيه صدفةً في أي مكان أي مكان على الإطلاق ونتحدث لدقيقة واحدة فقط.
قد تظنون أن بعض من هاته الأمور كان مم الممكن أن تحدث، لكنها لم تحدث كثيرًا.
كانت الحافلة على وشك المرور بالمكتبة.
في تلك اللحظة، شعرتُ أن أحلامي البسيطة تلك كانت سخيفة، ففتحت كتابي لأقرأ. تجاوزنا المكتبة، وانتظرت حتى نهاية الفصل لأرفع نظري من على الصفحة.
وشعرت بالذهول.
كان هناك يقف على بعد أقل من مترين مني، ممسكًا بعامود معدني.
كان يضع سماعاته من نوع Skull Candy وينظر عبر الأبواب الزجاجية وكأنه يرى شيئًا مدهشًا. ربما لم يرني.
(م/م: دي هي سماعات skull cardy لي هي تتحدث عنها )

ولأنني لست خجولة، لم أتردد في لمسه على كتفه.
قلت: “هل ترغب بالجلوس هنا؟”
وأشرت إلى المقعد بجانبي.
نظر إليّ، ابتسم، وعلّق سماعاته حول عنقه
وقال:
“ماذا قلتِ؟”
كان في نظرته شيء غريب، وكأنه لا يعرفني إطلاقًا.
شعرت بالارتباك، فكرّرت سؤالي.
قال بلطف: “لا، شكرًا.”
ثم أعاد سماعاته إلى أذنيه، واستمر في التحديق في الفراغ، وكأنه أغلق بابًا غير مرئي في وجهي.
حككت مؤخرة رقبتي بإحراج.
لقد تحقق حلمي السخيف، لكن الجزء السعيد منه كان مفقودًا، كالعادة.
كل ما أردته هو أن يجلس بجانبي، لكن حتى ذلك كان كثيرًا عليه. وهكذا كانت الأمور دائمًا حين نلتقي.
نزلنا من الحافلة عند المحطة نفسها، لأننا كنا متجهين إلى منزله.
نزل هو قبل أن أفعل بثوانٍ قليلة، ومشى أمامي بخمس أو ست خطوات طوال الطريق.
وكل ما فعله من باب اللباقة أنه ترك الباب مفتوحًا عندما وصلنا.
والسبب الوحيد الذي جعله يتذكر فعل ذلك هو المرة التي أغلق فيها الباب بوجهي بالخطأ وكاد أن يكسر أنفي.
اعتذر حينها، وكان ذلك أقل ما يمكنه فعله.
فقد كنت أزور منزله كل ثلاثاء وخميس منذ أشهر.
لو نظرت إلى إيفاندر عن قرب، لظننتَ أنه متعجرف تمامًا.
كان شعره الأشقر يتدلّى في خصلات مموجة تبدو دائمًا وكأنها قبّلتها الشمس.
وجنتاه نحيلتان، تسمران بسهولة، وذقنه عريض ومستوٍ بلا غمازة أو شق. عيناه بلون التوفي البني، دافئتان وغامضتان في الوقت نفسه.
على عكس أغلب الفتيان في عمره، كانت ملابسه مختارة بعناية فائقة، وكأنها تهدف إلى تقليد أناقة كلاسيكية، أشبه بمن يستعد لرحلة بحرية في مجلة لامعة. أما الفتيان الذين أعرفهم، فكانوا يرتدون قمصانًا مزينة بجماجم وثعابين.
حتى أنا، لم أكن أختار ملابسي بذلك الحرص، رغم أنني فتاة.
عندما أقف أمام خزانتي، أختار فقط ما لا يجعلني أشعر بأنني قبيحة وهي مهمة صعبة أصلًا، لأنني أشارك خزانتي مع أمي.
على أي حال، أمسك الباب ليبقيه مفتوحًا، لكن ليس بطريقة رومانسية، بل كما لو أنه تركه مفتوحًا فحسب.
كان يدير لي ظهره طوال الطريق، ولم تلتقِ أعيننا ولو مرة واحدة.
في تلك الليلة، كانت إيمي مستعجلة للغاية، فصاحت بثلاث تعليمات سريعة قبل أن تخرج مسرعة من الباب الخلفي.
كانت بيزلي الطفلة الصغيرة نائمة، لكنها قد تستيقظ في أي لحظة، وكان في الثلاجة مهروس البازلاء جاهزًا لها عندما تستيقظ.
لوّحتُ لإيمي من نافذة المطبخ، ثم عدتُ إلى غرفة المعيشة لأنتظر استيقاظ الصغيرة.
الجلوس في غرفة معيشة عائلة تشيني كان دائمًا يذكّرني بالفارق الطبقي بيننا.
كانت هناك صورة ضخمة لإيمي معلّقة فوق المدفأة، أكبر من شاشة تلفاز.
شعرها البني الداكن منسدل بخصلات لامعة متعرجة، تنتهي بخط مستقيم على ظهرها وجبينها.
كانت تضع أحمر شفاه بلون توت العليق الداكن وتحمل وردة حمراء قاتمة.
التُقطت الصورة على ما يبدو بعدسة فينسنت. ورغم أنها كانت صورة ملوّنة، إلا أنها بدت وكأنها نجمة من أفلام الأربعينيات.
وعلى الجدار المقابل، كانت هناك صورة مؤطرة بإتقان لــفينسنت نفسه.
لم أره قط وجهًا لوجه، فهو يعمل باستمرار، وعندما لا يعمل، كانت إيمي تذهب للقائه بينما أبقى أنا لأرعى بيزلي.
كان إيفاندر يشبه عمه كثيرًا إلا أن فينسنت بدا أكبر سنًا، أغمق البشرة، أقل غرورًا، وأكثر هيبة.
كان أقل غرورًا بفضل ابتسامته.
أما صور بيزلي الصغيرة فكانت في كل مكان في بعضها بأجنحة ملائكة، وفي أخرى لقطات مقرّبة جدًا لوجهها الوردي الناعم.
كانت صورًا كثيرة ومتنوعة.
وعندما تدخل الغرفة في الوقت المناسب من النهار، حين تكون الشمس في الزاوية المثالية، ينعكس الضوء عبر الثريا وعلى زجاج الإطارات في كل مكان، فيبدو وكأنك دخلت غرفة مليئة بالمرايا.
كان المكان فخمًا إلى حدّ مذهل.
وبينما كنت جالسة هناك، شعرت بمعدتي تتقلب لتذكّرني أنني أحتاج إلى وجبة خفيفة بعد المدرسة.
عادةً ما كانت إيمي تخبرني بما يمكنني تناوله قبل أن تغادر، لكنها نسيت هذه المرة، ولن تعود قبل العاشرة ليلًا.
فتحت الثلاجة أتفقدها، لكن لم يكن فيها ما يوحي وكأن إيمي تركت هذا لي خصيصًا.
راودتني فكرة مشاغبة صغيرة أن أذهب وأسأل إيفاندر عمّا يمكنني أن آكله.
نزلتُ السلالم على أطراف أصابعي حتى وصلت إلى بابه، وقلبي يكاد يقفز من صدري، ثم طرقت الباب بخفة.
لا إجابة.
طرقت مرة أخرى بصوت أعلى.
ولا شيء.
حاولت ثالثة بصوت أعلى هذه المرة.
حينها فقط انتبه، وفتح الباب قليلًا.
كان المكان مظلمًا في الداخل، والشيء الوحيد الذي استطعت رؤيته هو ضوء وامض من شاشة تلفاز أو كمبيوتر.
سأل بلهجة باردة وكأنه منزعج من وجودي
“ما الأمر؟”
ترددت قليلًا وقلت
“كنتُ فقط أتساءل… ماذا يمكنني أن آكل؟”
تبًّا، كنت أفقد شجاعتي تدريجيًا.
نظر إليّ وكأنني أغبى مخلوق رآه في حياته وقال
“وكيف لي أن أعرف؟ ابحثي عن شيء… أي شيء.”
ثم أغلق الباب في وجهي.
عدتُ إلى الطابق العلوي بخطوات مثقلة، لكن لحسن حظي، ما إن وصلت حتى سمعت بكاء بيزلي.
ذهبتُ وأخذتها في حضني.
مرّت الليلة على نحوٍ مألوف.
لعبتُ معها لعبة إخفي وجهك
(م/م بيسموها هم بيكا بو )
وأطعمتها عشاءها، ثم أخذتها إلى الحديقة الخلفية لنلعب في هواء المساء المنعش.
بدأ الطقس يبرد مع رحيل الصيف، وكانت رعاية الأطفال أسهل بكثير في أيام الصيف.
سيكون الأمر أصعب حين يمنعنا البرد من الخروج.
بعد اللعب في الخارج، شعرت الطفلة بالتعب، فبدّلت حفاضها وأعدتها إلى السرير.
كان الاعتناء بطفلة في مثل عمرها سهلاً جدًا فهي لا تزال تتعلم المشي ولم تحتفل بعيد ميلادها الأول بعد.
الأمر أشبه بنزهة.
بعد أن غنيتُ لها تهويدة صغيرة ووضعتها في مهدها، ذهبتُ إلى الحمام.
وبينما كنت أغسل يديّ، نظرت إلى وجهي في المرآة.
كان لون شعري غير مناسب. لا هو غامق ولا فاتح لون باهت بلا حياة.
لم تكن المشكلة في المال، فقد كنت أملك ما يكفي من عملي كجليسة أطفال، لكن الخوف كان يمنعني.
ماذا لو فشل الصبغ؟
ماذا لو لم أستطع استرجاع مالي؟
ماذا لو احتجتُ لمئتي سنة حتى ينمو شعري مجددًا؟
أو الأسوأ ماذا لو بدا رائعًا واضطررت بعدها إلى إنفاق المزيد لأبقيه كذلك؟ مثل إيفاندر تمامًا…
في الواقع، كنت مهووسة بعض الشيء بالفارق بين مظهري ومظهره.
في مكانٍ ما داخل عقلي الصغير، كنت أعتقد أن هذا الفرق هو السبب في أنه لا يريد التحدث معي. والأسوأ من ذلك، أن المشكلة لم تكن في شعري فقط فعيناي خضراوان، لكن ليس بلونٍ جميل، بل كعنب باهت مقسوم إلى نصفين.
أما بشرتي، فكانت بيضاء على نحو مخيف بياض يكاد يعكس الضوء.
ملابسي لم تكن مناسبة، ولم أكن أعرف حتى كيف أعتني بحاجبيّ.
ارتجفت قليلًا وخرجت من الحمام، ثم ألقيت نفسي على الأريكة وفتحت كتابي لأقرأ.
عادةً كنت أنزل إلى الطابق السفلي لأخبر إيفاندر أن بيزلي ستبقى نائمة حتى تعود إيمي، لكن في تلك الليلة لم أملك الجرأة لأحادثه.
كنت قد أحرجت نفسي بما فيه الكفاية بالفعل.
بعد حوالي عشر دقائق، صعد إيفاندر إلى الأعلى.
عادةً ما كان يصعد إما ليحضر شيئًا يأكله أو ليخرج من المنزل.
لكن تلك الليلة، دخل غرفة المعيشة وتوقف ليتحدث إليّ.
هل كان أحد أحلامي يتحقق أخيرًا؟
سألني بصوت هادئ
“هل بيزلي نائمة؟”
أومأت برأسي.
قال:
“إذن، لماذا لا تذهبين إلى المنزل؟”
والغريب أن تلك اللحظة بالذات ذكّرتني لماذا كنتُ معجبة به إلى هذا الحد.
لم يكن السبب أنه وسيم بشكل لا يُصدق، بل لأنه في تلك اللحظة لم يبدُ متغطرسًا.
صوته لم يحمل أي نبرة كبرياء، وتعبير وجهه كان هادئًا، ناعمًا، خاليًا من التفاخر.
بدا لطيفًا، مخلصًا، لا كما هو عادةً.
وحتى لو لم تدم تلك اللحظة طويلًا، فقد كانت حقيقية بما يكفي لأحبها.
أحببتها لأن قلةً فقط هم من عاملوني بلطف أو اهتمام حقيقي.
كذبت قائلة:
“كانت تبكي قليلًا… للتو وضعتها في سريرها، لكنها قد تستيقظ في أي لحظة.”
أومأ برأسه دون تعليق، ثم عاد إلى المطبخ، صنع لنفسه شطيرة بزبدة الفول السوداني، وعاد إلى الطابق السفلي.
وهذا كان كل ما في الأمر.
تلك كانت كل لحظتنا القصيرة، سوى أنه أراني ما يمكنني أن آكله، ففعلت مثله تمامًا.
عندما عادت إيمي إلى المنزل، كنت ما أزال جالسة على الأريكة أقرأ، أرفع نظري نحو الباب كل دقيقتين على أمل أن يصعد إيفاندر مجددًا رغم أن إيمي لم يكن عليها أن تعرف ذلك طبعًا.
قالت وهي تضع حقيبتها على الدرج
“كيف سار الأمر يا سارة؟”
بدأت أحكي لها عن الأمسية، بينما كانت تخلع حذاءها الأبيض من أطراف الأصابع وتفك وشاحها الأسود الحريري عن عنقها.
كانت إيمي دائمًا تبدو وكأنها في اختبار أداء لدور ساحرة أنيقة.
وبعد أن عرفتها لأربعة أشهر، أصبحت متأكدة أن هناك شيئًا غريبًا فيها بعض الشيء.
كانت أمًّا شابة، ثرية، لم تتجاوز الثلاثين بعد، ورغم أنها ترتدي الأسود باستمرار، فإن أناقتها لم تكن يومًا جزءا من هوس مصاصي الدماء المنتشر، بل كانت كلاسيكية راقية تمامًا كما يليق بفنانة مثلها.
ولهذا السبب كانت تذهب مساء كل ثلاثاء وخميس إلى معرض الفنون في المدينة.
باختصار، كانت ترتدي الأسود وكأنها في حداد على زوج راحل، لكنها تتصرف وكأن الشمس تشرق في حياتها كل يوم.
كانت مشرقة ومبهجة على الدوام.
قالت لي بنبرة عابرة وهي تخلع معطفها
“هل أراكِ إيفاندر كتابه؟”
رفعت حاجبي بدهشة
“لا. هل كتب كتابًا؟”
ابتسمت بخفة وقالت
“همم… لم يخبركِ؟ لقد ظل يكتبه لسنوات، وأرسله إلى دارَي نشر، لكنهما رفضتاه.
كان محبطًا جدًا، فقررت أن أطبع الكتاب وأُجلده بنفسي كهدية له.
فقط لأرفع من معنوياته قليلًا.”
ابتسمتُ لها بإعجاب صادق وقلت
“أنتِ لطيفة جدًا يا إيمي.”
قالت وهي تهز رأسها بابتسامة صغيرة
“لا، لست لطيفة كما تظنين. أردت فقط أن أوضح له أنه إذا كان كل ما يريده هو غلاف لامع يحمل اسمه، فالأمر لا يتطلب ثروة لتحقيقه.
عليه أن يكتشف الدافع الحقيقي وراء رغبته في الكتابة، وأعتقد أن هذه الطريقة الأسرع لفهم ذلك.
ظننت أنه قد يذكر الأمر لك، لأنني اضطررت لطلب عدد كبير من النسخ من المطبعة. وإذا لم يعرض عليك واحدة، فخذي نسخة لنفسك. أعلم كم تحبين القراءة.”
ثم نهضت وأحضرت لي نسخة بغلاف بني صلب.
لم يكن عليها أي رسم للغلاف، فقط العنوان مكتوب بحروف ذهبية أنيقة، وأسفله اسم إيفاندر. كان مكتوب
“خلف قناعه”
بقلم إيفاندر تشيني.
شعرت حينها وكأنها منحتني العالم بأكمله.
قلت بحماس صادق
“شكرًا يا إيمي! أنتِ الأفضل!”
ضحكت وغمزت بعينها قائلة
“أعلم ذلك، لكن أرجوكِ، لا تخبريه أنني أعطيتك هذه النسخة.
إذا كان خجولًا لدرجة أنه لم يذكرها لك، فربما لا يشعر بالراحة إن عرف أنك تقرئينها.”
سألتها بدهشة
“هل هو خجول فعلًا؟”
كنت أطرح السؤال ببراءة، فغالبًا ما كنت أظن أن صمته معي ليس خجلًا بل نوع من التعالي.
رفعت إيمي حاجبيها بدهشة وقالت
“المراهقون يعيشون وكأن على عيونهم غشاوة. إنهم منشغلون بأنفسهم لدرجة لا يلاحظون فيها ما يدور في حياة الآخرين.
لا، إيفاندر ليس خجولًا، إنه منطوٍ. من النوع الذي يفعل ما يشاء، لكنه لا يحب أن يشارك أحدًا عالمه الداخلي وهي عقبة سيتعين عليه تجاوزها إن أراد أن يصبح كاتبًا حقيقيًا.
فقط عديني ألا تخبريه أنني أعطيتك نسخة.”
قلت مبتسمة
“حسنا، أعدك. لن أخبره.”
أضافت وهي ترفع إصبعها محذّرة بلطف
“ولا تقرئيها وأنتِ هنا، مفهوم؟”
“حسنًا، مفهوم.”
ابتسمت وربّتت على كتفي قائلة
“استمتعي بها يا صغيرتي. والآن، ضعيها في حقيبتك قبل أن يراها أحد.”
رافقتني إلى الباب، ونظرت إلى الخارج وهي تقول بتنهيدة
“لقد أصبح الظلام يحل باكرًا الآن بعد انتهاء الصيف. ما رأيك أن أنادي إيفاندر ليمشي معك إلى المنزل؟”
كنت مشتعلة بالحماس.
ارتديت حذائي ومعطفي، وأخفيت الكتاب بعناية في حقيبتي.
إيمي كانت تنسّق لي مشهدًا من أحلامي إيفاندر سيوصلني إلى المنزل!
لكنه تأخر في الصعود، وبينما كنتُ أنتظره، لم أستطع التوقف عن التفكير في ما قالته إيمي. ألم تكن تبالغ قليلًا؟ بالتأكيد لم يكن إيفاندر سينزعج كثيرًا لو رآني أقرأ كتابه.
لا، على الأرجح كان متكبّرًا فحسب، وهي كانت تحاول حمايتي من الجانب الأكثر مزاجية فيه.
أخيرًا، صعد إيفاندر الدرج واستعد للخروج معي.
لوّحت إيمي لنا من عند الدرج، ثم خرجنا معًا إلى الرصيف.
سرنا بجانب بضع منازل قبل أن أجد موضوعًا مناسبًا للحديث.
سامحني على تفاهتي، لكن حين أكون بقربه، يتعطّل تفكيري تمامًا، فتغدو أفكاري أقل من عادية.
وفي تلك الليلة، كانت غبية بالفعل.
قلت له محاولًة فتح حديث
“هل تظن أنه ضروري فعلًا أن توصلني؟ الجو ليس مظلمًا جدًا بعد.”
أجاب ببطء بنبرة هادئة ممتدة
“لا مشكلة.”
كانت واحدة من تلك اللحظات البسيطة التي أحبها أكثر من غيرها.
تابعتُ قائلة
“الحي ليس الأفضل، صحيح، لكن لم يحدث أن واجهت شيئًا سيئًا وأنا أعود من عمل جليسة الأطفال.”
صمت لبرهة، ثم قال:
“هل تمشين وحدك إلى البيت من أماكن عمل أخرى أيضًا؟”
قلت:
“نعم، كثيرًا. معظم الأمهات اللاتي أعمل لديهنّ عازبات، وليس لديهن ابن أخ ليقودني إلى البيت.”
قال ببطء وكأنه يفكر بصوت عالٍ:
“لا، أظن أنهن لا يملكن فعلًا.”
ثم وصلنا إلى باب شقتي. أخرجت مفاتيحي بسرعة وأدخلتها في القفل.
قلت مبتسمة
“شكرًا يا إيفاندر. أراك الثلاثاء القادم.”
قال باقتضاب
“نعم، أراكِ.”
انتظر حتى دخلتُ عبر الباب الثاني من المبنى، ثم استدار وغادر نازلًا درجات السلم بهدوء.
التفتُّ ونظرت إلى ظهره للحظة قبل أن يبتعد. كنتُ آمل، في أعماقي، أن يطلب مني أن أتصل به في المرة القادمة التي أعود فيها إلى المنزل وحدي بعد عمل جليسة الأطفال.
لكن من الطبيعي أنه لم يفعل. كانت تلك واحدة من أفكاري التي تنتمي إلى عالم الأحلام أكثر من الواقع.
صعدتُ الدرج، ومشيت بجانب البقعة الدموية التي لطّخت السجادة. قبل بضعة أشهر، طُعن أحد الأشخاص عند مدخل المبنى، ولم يكلّف أحد نفسه عناء تنظيف السجادة جيدًا لإزالة آثار الدم.
ذلك كان نوع المكان الذي أعيش فيه.
وبعد طابقين، كانت هناك بقعة بول، حيث قرر أحدهم بالغًا بلا شك أن يتبوّل على السجادة، ولم يُنظَّف ذلك أيضًا.
كان غريبًا كيف أن الشقق الرخيصة للغاية والمنازل الفخمة الفاخرة يمكن أن تكون قريبة من بعضها إلى هذا الحد، لكن هذه هي إدمونتون مدينة التناقضات.
في لحظة، تكون واقفًا أمام ناطحة سحاب تعكس السماء كمرآة مائية، وفي اللحظة التالية تمرّ أمام مسرح متهالك للعروض الإباحية.
كان الأمر ذاته في المناطق السكنية, دقيقة واحدة تمرّ بجانب أرخص شقق المدينة، وفي الدقيقة التالية تكون أمام بيت تجاوز سعره المليون دولار لمجرد أن يطل على وادي النهر الساحر.
الشقة التي كنت أعيش فيها مع أمي كانت بغرفة نوم واحدة.
كنا ننام على سريرين بطابقين في الغرفة نفسها، وقد علّقنا بطانيات حول الأسرّة السفلية لتبدو كأنها ستائر صغيرة توفر بعض الخصوصية.
ولماذا أسِرّة بطابقين؟ لأن لدي أختين أكبر مني كانتا تعيشان في مكان آخر، لكن أمي أرادت أن تحتفظ لهما بمكان للنوم إن عادتا لزيارتنا يومًا ما.
أما عن والدي؟ فلا أحد يعلم.
كانت أمي قد خاضت تجربة المواعدة في السنوات التي أنجبت فيها بناتها بما يكفي لتملّها تمامًا.
لم تدخل رجلا إلى بيتنا منذ أن كنت في السابعة من عمري.
لذا، ما لم تظهر إحدى شقيقتي فجأة، كنا أنا وأمي فقط… نحن الاثنتين ضد العالم.
قلتُ من قبل إن غرفة المعيشة في بيت إيفاندر كانت تجعلني أشعر بعدم استحقاقي له، لأنّها كانت مختلفة تمامًا عن غرفة المعيشة في شقتي.
كانت صور عائلتنا على الجدران عبارة عن صور مدرسية صغيرة الحجم.
لم تكن أمي تملك ما يكفي من المال لالتقاط صور جديدة كل عام، لذا كانت جميع الصور حتى تلك التي التقطت لي وأنا في الصف الثاني معلقة على الجدار.
كنت أبدو فيها مشعثة، لم يهتم أحد بتمشيط شعري أو تنظيف وجهي.
ولم أكن الوحيدة؛ أختاي كانتا تبدوان بالمثل.
أما عن أختي الكبرى، رايتشل، فقد غادرت المنزل عندما كانت في السابعة عشرة.
منذ ذلك الحين، صارت تعمل في مطعم مبالغ في أسعاره ومنخفض المستوى في الوقت نفسه مكان يُلبس فيه النادلات ملابس فاضحة تناسب زبائنه من عمال النفط.
كنت أزدريها لأنها لم تطمح لأفضل من ذلك، لكنها كانت تجني مبالغ كبيرة من الإكراميات. وكان لديها سرّ.
في الحقيقة، كانت حليقة الرأس وترتدي شعراً مستعاراً أشقر جميلاً أثناء العمل.
بالنسبة لي، كان ذلك دليلاً على أن في داخلها شرارة تمرد صغيرة، وكنت مؤمنة بأنها ستكسب يومًا ما ما يكفي من المال لتبدأ حياة جديدة أفضل.
أما أختي الأخرى، كارلي، فقد هربت من المنزل قبل ستة أشهر.
أصرّت أمي على أن تتعامل الشرطة مع اختفائها كقضية شخص مفقود، لكنني كنت أعلم في أعماقي أنها هربت باختيارها، وأننا لن نجدها إلا عندما تقرر العودة بنفسها.
ربما كانت تعتبر ذلك نوعًا من المزاح القاسي لتجعلنا جميعًا نفقد صوابنا، أو ربما كانت تكرهنا بالفعل.
من يستطيع أن يعرف ما كان يدور في رأسها؟
عند تلك النقطة من مقارنتي المؤلمة وغير الضرورية بين غرفة معيشتنا وغرفة معيشة آل تشيني، لم أعد متحمسة لقراءة كتاب إيفاندر كما كنت.
تركته في حقيبتي المدرسية وغسلت أسناني بدلاً من ذلك، محاولةً أن أطرد كل تلك الأفكار التي كانت تجعلني أشعر بصِغر حجمي أمام عالمه اللامع.
_________________🎀
إذا حوصرت بالأوهام والوساوس والقلق والمخاوف، فاجعل لسانك رطباً بذكر الله.
________________🎀
لا تنسوا متابعتي على الانستغرام ليصلكم كل اخبار جديد الروايات وتنزيل الفصول 🍒
@luna.aj7
ولا تنسوا تعليقاتكم وتفاعلاتكم لتشجيعي على الاستمرار 🎐
دمتم فرعاية الله وحفظه 🦋
Chapters
Comments
- 2 - سيد الجديين منذ يوم واحد
- 1 - الفتى الذي يسكن بجوارنا منذ يوم واحد
- 0 - مقدمة منذ يوم واحد
التعليقات لهذا الفصل " 1"