لم تكن مشاعرها الداخلية وديعة ولا هادئة على الإطلاق.
و بشكل أدق ، لم تكن هادئة يومًا.
كل ما في الأمر أن طبيعتها كانت تميل للعقلانية أكثر من العاطفية ، و كان عليها أن تتحمل في كثير من المواقف تبعًا للظروف فحسب.
آه ، بالطبع هذا لا يعني أنها لا تشعر بالعواطف أو أن مشاعرها جافة.
فأحيانًا كانت تنجرف خلف مشاعر عارمة و تتخذ خيارات حمقاء ، لكن حدوث ذلك كان نادرًا.
نظرت آثا إلى وجه هيلا الذي تصلب تمامًا ، و ظنت أن مظهرها الآن أصبح “مقبولًا” للمشاهدة.
أين ذهب ذلك الوجه الذي كان يبتسم ببلاهة دون مراعاة لمشاعر الآخرين؟ رؤيتها و هي تلهث من الغيظ جعلت الضيق الذي في صدر آثا يتلاشى قليلًا.
لقد شعرت بهذا أيضًا خلال حديثها السابق مع جيرولد ؛ هل لأن آثا هيرمان هي البطلة في هذا العالم؟
بدا أن الجميع يراها طيبة بمجرد أن تظهر بوجه لا يعرف شيئًا و تتحدث بنبرة غبية قليلًا.
‘اممم. حقًا “دعم البطلة” هو الأفضل. لقد أعجبني الأمر’
لا داعي للتحمل و تجاوز مثل هذه المواقف.
حسنًا ، سيكون الأمر محرجًا لو كانت متهورة تمامًا دون أي منطق ، لكن هذا القدر لا بأس به … صح؟
أليس كذلك؟
أم أنه من المفترض أن أتعرض للتوبيخ و أبكي في مثل هذه اللحظات؟
ابتلعت تنهيدة و هي تنظر إلى هيلا التي تحدق بها بحدة ، و التي كانت بالتأكيد “الآنسة الشريرة”.
‘الحديث مع جيرولد الذي يمارس الوقاحة كما يتنفس ، أهون بكثير من هذه التي تتظاهر بالأدب و هي قمة في سوء الأدب’
أوه؟ بالحديث عن ذلك ، ألم يقل جيرولد ذاك الكلام؟
‘في مثل هذه المواقف ، ادّعي أن أخي هو من يتشبث بكِ لمواعدتكِ ، و ألقي بالمسؤولية عليه. بما أن أخي هو ملاذكِ الوحيد ، فعليكِ استغلاله جيدًا’
بطلة تطبق ما تعلمته بالحرف ، يا له من تسلسل منطقي مثالي!
اممم ، كالعادة أنا أبلي بلاءً حسنًا.
ارتشفت آثا جرعة من الشاي براحة الآن.
من المحزن حقًا ألا أتمكن من شرب شاي منعش و عطري كهذا و هو ساخن.
“و لكن لماذا أنتِ فضولية حيال مشاعر سمو ولي العهد يا آنسة هيلا؟”
وجهت آثا الهجوم الثاني ، دون أن تنسى تعبيرها البريء و صوتها الذي يبدو مفعمًا بالإخلاص.
فمن الجو العام ، بدا أن التظاهر بالبلاهة و البراءة سيؤتي ثماره.
أي أنها التزمت بنفس الأسلوب الذي استخدمته مع جيرولد.
‘العيون تلاحقني من كل جانب ، فما الفائدة التي سأجنيها من الظهور بمظهر حاد؟’
سواء كان هذا داخل كتاب أو في الواقع ، فإن فن التعامل مع الآخرين ضروري في كل مكان. أجل ، أجل.
لكن إلى متى يجب أن أتظاهر بالبلاهة؟
لقد عشتُ طوال حياتي و أنا أراقب تعابير الناس ، لذا بصيرتي حادة جدًا.
و بالطبع ، لاحظتُ أن هيلا تحب ولي العهد.
فبمجرد أن تفتح فمها تقول “سموه ، سموه”
اسم “سموه” لا يفارق لسانها ، فكيف لي ألا أعرف؟
كان هناك شيء آخر تجيده آثا تمامًا: استفزاز الآخرين بهدوء مع التظاهر بعكس ذلك.
لا تستهينوا بقارئة نهمة لروايات الرومانسية و الفنتازيا.
أتعلمون كم مرة رأيتُ آنسات يتبادلن الإهانات بابتسامات مغلفة؟
ربما شعرت هيلا أن آثا ليست “لطيفة” تمامًا كما تبدو.
أجابت هيلا بنبرة منكسرة قليلًا و هي تتهرب من الإجابة: “… بما أن سمو ولي العهد المعروف ببروده مهتم بشخص ما … فمن الطبيعي أن أشعر بالفضول”
بمجرد ظهور الكلمة التي أرادتها ، اتسعت عينا آثا و كأنها متفاجئة تمامًا.
“أن يكون سموه باردًا؟ هذا سوء فهم كبير حقًا. إنه شخص حنون للغاية”
حينها بدأت الهمسات تتعالى في الأرجاء.
لم تهتم آثا بتلك الضجة المؤقتة ، فقد كان رد فعل متوقعًا تمامًا.
كما ذكرتُ مرارًا ، كان أليستو “طاغية واعدًا” مشهورًا.
لذا ، كم سيكون الأمر صادمًا عندما تظهر امرأة فجأة و تدافع عنه قائلة إنه حنون جدًا؟
بدأت آثا تثرثر بحماس لـهيلا ، قائلة لها إن عليها أن تسأل سموه عن كل ما يدور في ذهنها عندما تلتقي به ، مؤكدة أنه سيجيبها بلطف.
و بما أن الهدف كان إغاظة هذه المرأة التي تفتقر للبصيرة ، فقد أضافت آثا القليل من المبالغة كعلاوة.
“آه! هل تعلمين كم هو لطيف أيضًا؟ منذ أيام في المأدبة ، قمتُ بإطعامه اللحم بنفسي. عندما فتح فمه و قال ‘آه’ ، بدا و كأنه طائر صغير ، كان لطيفًا جدًا. سموه يملك أسنانًا منتظمة و لسانًا مستديرًا. آه! هل كان ذلك أول أمس؟ في العربة ، سألني فجأة بكل رقة و وقار إن كان بإمكانه الإمساك بيدي. كم هو حنون و مهذب! و كيف كان عطوفًا بالأمس أيضًا؟ عندما فقدتُ شهيتي بسبب أمر أحزنني و تخطيتُ الوجبات ، جاء لزيارتي فورًا و —”
بدأت آثا تصب كل ما تعلمته من الروايات ، و تفيض بأساليب حديث الآنسات دون توقف.
و فجأة—
توقف حديث آثا عندما لاحظت أن نظرات هيلا المثبتة عليها بدأت ترتفع ببطء حتى استقرت خلف ظهرها.
من تعبير وجهها ، يبدو أن هناك شخصًا خلف ظهري لا ينبغي أن يكون هناك.
“……”
أطبقت آثا فمها تمامًا ، و بالتأكيد—
سمعت من خلف ظهرها الصوت الذي لم تكن تود سماعه في هذه اللحظة.
“جاء لزيارتكِ فورًا و —؟”
صوت رخيم و منخفض.
لم يكن سوى صوت أليستو بكل تأكيد.
ابتلعت ريقها بصعوبة.
أن يظهر صاحب الشأن بينما تتحدثين عنه من خلف ظهره ؛ يا له من موقف محرج للغاية!
‘أين أجد جحرًا لأختبئ فيه؟’
كانت تشعر بالخجل من مواجهة أليستو ، و أيضًا من تظاهرها بأنها محبوبة بهذا الشكل.
بدأ وجهها يحمرّ لدرجة الانفجار ، بينما نهضت هيلا من مكانها و انحنت برقة كأنها سيدة مهذبة تعرف الأصول.
“لي الشرف بلقاء الشخصية الموقرة”
أومأ أليستو برأسه دون أن يكلف نفسه عناء النظر إليها حتى.
بدا و كأن كل تركيزه منصبّ على آثا ، و كأنه لا يملك ذرة اهتمام بأي شيء آخر.
***
نظر أليستو إلى القدّيسة و هي تجلس مع آنسة من عمرها على نفس الطاولة و فكر: ‘هل جئتُ دون داعٍ؟’
رغم أن كاستر قال بعض الكلام المثير للقلق ، إلا أن احتمال تعرض القدّيسة لموقف غير لائق في حفلة شاي والدته كان شبه معدوم.
فمن يملك الجرأة لمهاجمة امرأة غير متزوجة مدعوة لعشاء الإمبراطورة و عشيقة ولي العهد في مكان عام ، سأقوم بتوظيفه كـ “بومة” فورًا.
و مع ذلك ، فإن السبب الذي جعله يأتي هو ذلك الاحتمال الضئيل بأن ينجرح قلبها لسبب ما.
و لكن يا للمفاجأة!
كانت القدّيسة تستمتع بوقتها تمامًا و كأنها كونت صداقة جديدة في القاعة.
كانت هذه المرة الأولى حسب علمه.
ففي المأدبة السابقة ، قيل له إنها لم تتحدث مع أحد سوى جيرولد و أليستو.
هذا هو أول حوار لها مع آنسة في عمرها منذ دخول القصر.
لم يكن يريد إزعاجها ، لكنه لم يستطع العودة أدراجه أيضًا.
بما أنه وصل إلى هنا ، فلو عاد دون رؤية وجهها ، سيبدأ الثرثارون بالنميمة من خلفه.
‘لا يهمني أمري ، لكن القدّيسة خائفة قليلًا و ضعيفة … لا أدري’
باختصار ، تبدو رقيقة و كأنها ستنجرح بسهولة.
أطلق تنهيدة قصيرة و بدأ يخطو مجددًا.
مقررًا أنه سيرى وجهها فقط ثم يغادر.
كانت القدّيسة تثرثر بشيء ما دون توقف ، لكن عندما كان بعيدًا ، تشتت الصوت و لم يستطع فهم ما تقوله.
خفف أليستو من وطأة خطواته بمجرد أن بدأ صوت القدّيسة يصبح مسموعًا بوضوح.
و بطبيعة الحال ، كلما اقترب منها ، أصبحت كلماتها أكثر جلاءً.
كانت تثرثر دون توقف كعصفور وجد مخزنًا للقمح.
“بدا و كأنه طائر صغير ، كان لطيفًا جدًا. سموه يملك أسنانًا منتظمة و لسانًا مستديرًا. آه! هل كان ذلك أول أمس؟ في العربة ، سألني إن كان بإمكانه الإمساك بيدي. كم هو حنون و مهذب!”
كانت تتفاخر بحبيبها.
كانت تتحدث بحماس شديد لدرجة أن وجهه هو بدأ يسخن خجلًا.
“و كيف كان عطوفًا بالأمس أيضًا؟ عندما فقدتُ شهيتي بسبب أمر أحزنني و تخطيتُ الوجبات ، جاء لزيارتي فورًا و—”
كان ينوي الاستماع أكثر ليرى إلى أين سيصل حديثها ، لكن القصة انقطعت فجأة لأن الآنسة التي تجلس مقابل القدّيسة فشلت في التحكم بتعابير وجهها.
‘يبدو أنها تفتقر للبصيرة تمامًا’
لو كانت “بومة” ، لتوخت الحذر حتى لا تلاحظ القدّيسة وجوده.
حثّها أليستو على إكمال حديثها متسائلاً: “جاء لزيارتكِ فورًا و—؟”
و عندها وقعت عيناه على أذني القدّيسة اللتين احمرتا بشدة.
كان منظرهما وهما على وشك الانفجار مضحكًا لدرجة أن ضحكته أفلتت منه دون مقاومة.
هل سمعت القدّيسة صوت ضحكته؟
ارتجفت أذناها الحمراوان الصغيرتان ، ثم نهضت فجأة و هي تحني رأسها بشدة.
“مـ متى جئت؟”
عندما رأى المرأة بوجهها المحتقن خجلًا ، اختفت فكرة عدم إزعاجها تمامًا من رأسه.
أجابها أليستو بصدق على سؤالها: “بدا و كأنه طائر صغير ، و كان لطيفًا جدًا”
“أوااااه”
لم يكن يقصد السخرية منها ، لكن عندما أصدرت القدّيسة ذلك الصوت الغريب المتلاشي ، عاودته الضحكة مجددًا.
مدّ يده إليها و سألها: “هل ستبقين هنا أكثر؟”
حينها أمسكت بيده بسرعة و هزت رأسها نفيًا.
“كلا ، كنتُ على وشك المغادرة ، فلنذهب بسرعة”
أرادت آثا الهروب من هذا المكان بأسرع ما يمكن.
أمسكت بيد أليستو و كأنها حبل نجاة هبط إليها من السماء ، و غادرت قاعة حفلة الشاي مسرعة.
التعليقات لهذا الفصل " 30"