أكان هذا الرّجل يقدّم لها نصائح ثمينة للحياة في القصر الإمبراطوريّ؟
أم أنّه كان ينتقدها بسخرية مبطّنة و عالية المستوى؟
الأمر الواضح هو أنّ نظرة الاستحقار التي كانت تشعر بها ، و التي تصل إلى حدّ الوقاحة ، قد خفّت حدّتها ، و لكن تُرى ما السبب؟
‘هل بَدوتُ مثيرة للشفقة عندما تظاهرتُ بالحزن؟’
لقد كان تخمينًا منطقيًّا.
ففي الرّوايات التي تملؤها الكليشيهات ، غالبًا ما يضعف أصحاب الأجساد الضخمة و الملامح الحادّة أمام المناظر المثيرة للشفقة.
علاوة على ذلك ، ماذا لو كان الطرف الآخر غافلًا ، و بريئًا ، و مع ذلك يتعلّم بسرعة و ذكاء كلّ ما يُلقن له؟
اعتقدتْ أنّ هذه هي الفرصة المناسبة لكسب جيرولد ، المقرّب من أليستو ، إلى صفّها.
و حتى لو لم يكن مقرّبًا من أليستو ، فالأمر سيّان.
رغم أنّ الرّواية الأصليّة لم تكن تركّز على صراعات القصر ، إلا أنّ في الرّوايات التي تدور أحداثها داخل القصر الإمبراطوريّ ، فإنّ بناء علاقات ودّية مع أصحاب القوّة ، سواء كانت سلطة أو ثروة ، سيكون مفيدًا بشتّى الطرق.
بما أنّها أصبحت البطلة ، تمنّت لو كانت ذكيّة و ماكرة لتتحكّم فيمن حولها ، و لكن …
كانت تدرك قدرات نفسها جيّدًا.
بما أنّه لا يمكن وصفها بالذكاء حتى من قبيل المجاملة ، فقد كان من الأفضل أن تتصرّف بلطف و براءة تصل إلى حدّ الغباء لتثير غريزة الحماية لدى الآخرين.
‘… أوه؟ هذه فكرة رائعة حقًّا؟’
بدأ الأمر و كأنّه سينجح مع أليستو ، الذي لا يظهر جانبه الدافئ إلا لامرأته ، كما أنّ التصرّف بغفلة و بساطة سيجعل حياتها القادمة أكثر راحة.
‘هل أجرّب التظاهر بعدم ملاحظة سخريته المبطّنة؟’
رغم أنّ الاعتراف بهذا يؤلم قلبها ، إلا أنّ التظاهر بعدم سماع الإساءة أو عدم فهمها هو أمر مارسته كثيرًا ، لذا لن يكون صعبًا للغاية.
قرّرت آثا المنهج الذي ستتبعه في حياتها و مواقفها القادمة ، ثمّ حرّكت شفتيها بحذر.
“امم ، إذًا …”
“نعم ، تفضّلي بالتحدّث براحة”
“شكرًا لك …؟”
في اللحظة التي قدّمت فيها آثا شكرها ، أغمض جيرولد عينيه بقوّة.
‘يا للهول ، اللعنة’
كادت شتيمة أن تخرج من فمه.
هذا المستوى لا يُعدّ طيبة ، بل يمكن تسميته غباءً.
“على ماذا تشكرينني؟”
سأل جيرولد بنبرة حادّة ، إذ لم يستطع كبح الغضب الذي تصاعد داخله ، لكنّ آثا كانت لا تزال تنظر إليه بعينيها البريئتين.
“لقد أخبرتني أن أستغلّ سموّ وليّ العهد. سأستغلّه جيّدًا في المستقبل”
بينما كانت تقول ذلك ، كانت عيناها تلمعان ببريق يوحي بالفخر ، و كأنّها تعلّمت شيئًا جديدًا في هذه الفرصة.
كانت طريقتها في الحديث تبدو و كأنّها رصينة للغاية … لدرجة أنّ من يراها دون معرفتها سيظنّ أنّها ذكيّة جدًّا.
‘سأجنّ’
في الوقت نفسه ، بدأ يشعر بالسبب الذي جعل أخاه يصفها بفتاة أحلامه.
لم تكن تحمل أيّ ضغينة تجاهه.
أثناء الحديث ، كان يشعر أنّها تتحدّث بما تشعر به تمامًا دون أيّ حسابات.
لقد كانت نوعًا من البشر لا يمكن العثور عليه أو التعامل معه في القصر الإمبراطوريّ.
بدت الآنسة آثا نقيّة و شفّافة إلى أبعد الحدود.
و في غفلة منه ، نسي جيرولد الماضي الذي لم تكن فيه آثا تعجبه ، و بدأ يقلق على المستقبل الذي ستواجهه هذه المرأة في القصر.
لزم الصمت و هو يشعر بالارتباك ، بينما ابتسمت آثا في داخلها و هي تلاحظ تراجع النظرة الحادّة في عينيّ جيرولد.
صراحةً ، في هذا العالم ، إذا كسبتْ وليّ العهد الطاغية المستقبليّ أليستو و قائد عمليّاته جيرولد إلى جانبها ، فلن يكون هناك ما تخشاه.
شعرتْ بالقوّة و كأنّها تستطيع طرد ملك الموت نفسه إذا جاء ، فارتسمت ملامح الفخر التي لم تستطع إخفاءها على وجه آثا.
‘سأتمكّن من العيش براحة تامة’
بالطبع ، كان جيرولد يشعر بضيق الصدر و هو يرى وجهها المفتخر …
و انتهى حديثهما عند هذا الحدّ.
بعد ذلك ، وصلا إلى قاعة الرّقص ، و رغم أنّ جيرولد كان يرافق آثا ، إلا أنّهما لم يتحدّثا و كأنّهما اتّفقا على ذلك.
***
كان موسم الحفلات الراقصة الإمبراطوريّة يمتدّ كلّ عام من الرّبيع حتى بداية الصيف.
خلال هذه الفترة ، يتجمّع في العاصمة عدد لا يحصى من النبلاء و الفنّانين المؤثّرين المنتشرين في كافّة أنحاء الإمبراطوريّة.
كانوا يحضرون الحفلات لبناء شبكة علاقات ، و البحث عن شريك زواج لأنفسهم أو لأبنائهم.
حضر سيدريك أيضًا الحفلة بنفس الأهداف التي يحملها بقيّة السادة.
توسيع علاقاته و البحث عن عروس جميلة.
رغم أنّ صورة الآنسة آثا الرّقيقة لا تزال تلوح أمام عينيه ، إلا أنّه لا يمكنه البقاء غارقًا في التفكير بخطيبة وليّ العهد إلى الأبد.
“بعد مرور عدّة أيّام ، بدأت تلك القطة بإحضار صغارها واحدًا تلو الآخر ، أتصدّق ذلك؟”
لم يكن سيدريك مهتمًّا على الإطلاق بقصّة القطط الصغيرة التي استوطنت حديقة الآنسة التي تقف أمامه ، لكنّه اكتفى بالابتسام و الإيماء برأسه.
“لا بدّ أنّها كانت لطيفة”
“بالطبع. هل سبق لك أن رأيت قطة بحجم كفّ اليد؟ إذا زرتَ القصر ، سأريك إيّاها”
ترك سيدريك صوتها الثرثار يمرّ عبر أذنيه و هو ينظر إلى شعرها.
الشيء الوحيد الذي تشترك فيه هذه الآنسة مع الآنسة آثا هو لون الشعر ، و حتى هذا كان لونه داكنًا جدًّا و خشن الملمس.
بمجرّد أن لمح مساعده ستيوارد ، تظاهر بظهور أمر عاجل و انسحب بسرعة.
ابتسم ستيوارد بابتسامة عريضة و هو يرى رئيسه يقترب منه.
“لقد سمعتُ أنّ حفلات العاصمة رائعة ، لكنّني لم أتخيّل أبدًا أنّها بهذا المستوى. أليس كذلك؟ بالإضافة إلى أنّ الجميع يتصرّف بودّ تجاه سيادتك”
أومأ سيدريك برأسه ببرود.
“هل التقينا بكلّ من يجب ملاقاتهم اليوم؟”
اتّسعت عينا ستيوارد بدهشة.
“إيه ، هل ستغادر بالفعل؟ لقد قلتَ إنّك ستوسّع علاقاتك و تجمع المعلومات اليوم ، ألم تقل أيضًا إنّك ستبحث عن فتاة أحلامك؟”
“يبدو أنّها ليست موجودة اليوم ، سأعود غدًا”
“حسَنًا ، كما تشاء إذًا. سأقوم أنا بتصنيف الأشخاص الذين حيّيتهم اليوم ، و أولئك الذين يتّضح أنّهم رجال وليّ العهد ، أتعرفهم؟ أولئك الذين يملكون غرفًا في قصر بلوسوم. أفكّر في إرسال الملح و الأنشوحة لهم جميعًا غدًا ، ما رأيك؟”
كان يتوقّع ردًّا يقول له ‘افعل ما تشاء’ ، و مع ذلك انتظر ستيوارد الإجابة.
‘…؟’
رغم انتظاره لفترة طويلة ، لم يأتِ الرّد ، فتوقّف ستيوارد عن المشي و استدار ليتفقّد سيدريك.
“سيادتك؟”
لم يكن موجودًا.
‘يا إلهي ، إلى أين ذهب فجأة؟’
بينما عاد ستيوارد أدراجه ليبحث عنه ، كان سيدريك يقف في مكان قريب ينظر بذهول إلى نقطة واحدة.
لقد وجد آثا.
لا يعرف كيف برزت هي وحدها من بين هذا الحشد الغفير و كأنّها تشعّ نورًا.
تتبّع حركاتها بعينيه ، و سرعان ما أدرك أنّ الشخص الذي يجب أن يكون بجانبها غير موجود.
‘أين وليّ العهد؟’
قطب سيدريك حاجبيه.
كيف يترك حبيبته وحدها في حفلة راقصة …
شعر بضيق غامض يتصاعد في صدره ، ممّا جعل قلبه يرتجف.
كان سيدريك زعيمًا يقود إقليمًا و عائلة.
كان شخصًا يغلّب العقل على العاطفة ، لكنّه عندما يرى الآنسة آثا ، كانت مشاعره تضطرب بشكل غريب.
لدرجة أنّه أصبح يشعر بالغرابة تجاه نفسه.
‘هل من الطبيعيّ أن يهتزّ قلبي هكذا بمجرّد رؤية الآنسة آثا؟’
بالطبع ، رغم شعوره بالغرابة ، لم يستطع التوقّف عن التفكير.
الابتسامة المشرقة لتلك المرأة المتألّقة هناك بَدت له حزينة ، ممّا جعل قلبه يتألّم.
يعلم أنّ الأمر لا يعنيه ، لكنّ هذه الأفكار كانت تتوارد إلى ذهنه باستمرار.
هل سيتمكّن وليّ العهد من منح الآنسة آثا الحبّ الكافي و هو يؤدّي كلّ تلك المهام المثقلة؟
دون أن تشعر بالوحدة؟
‘… لو كان الأمر كذلك ، لما أرسلها وحدها إلى حفلة الرّبيع الراقصة’
بدأ يسير باتّجاهها و هو يثبّت نظره عليها.
***
دخلت آثا قاعة الرّقص و هي لا تتوقّف عن الإعجاب بما تراه.
كانت القاعة أوسع و أفخم ممّا تخيّلت.
الثريّات الضخمة المتدلّية من السقف و كأنّها تسبح في الهواء ، و الأعمدة المنحوتة التي بدت و كأنّها تنتمي لمعبد في الجنة ، و الرسومات السقفيّة ، و الستائر الكثيفة المتعدّدة الطبقات ، و الزهور التي تمنح المكان حياةً … كلّ ذلك كان منظرًا مهيبًا.
بينما كانت آثا تصعد إلى الطابق العلويّ و تتوقّف لفترة طويلة أمام تنسيقات الزهور في المزهريات الكبيرة—
كان جيرولد يحرس خلفها بصمت ، لكنّه كان يشعر بنظرات مزعجة منذ فترة ، ممّا جعل أعصابه مشدودة.
راقب جيرولد الرّجل الموجود على شرفة الطابق الثاني ، ثمّ استدعى أحد (البوم) الذين كانوا يتجوّلون كخدم لتقديم الشمبانيا.
سأله بصوت منخفض جدًّا لدرجة لا تسمعها آثا: “ذلك الرّجل الأشقر الموجود على شرفة الطابق الثاني الآن”
خفض (البومة) صوته أيضًا تماشيًا معه: “إذا كنت تقصد صاحب ربطة العنق الذهبية و البدلة البيضاء المخطّطة ، فهو الفارس سيدريك دالبرت. يبدو أنّه تحدّث مع بعض السادة و السيدات ، لكن لم يكن هناك ما يلفت الانتباه بشكل خاص. هل أستعلم لك عن الأشخاص الذين تحدّث معهم؟”
“لا ، لا داعي لذلك. من تراه مناسبًا لمراقبته؟”
“سيكون كورتيس ، أو هيوورلد ، أو هاوزر. لفتح طريق للملاحة في البحر الجنوبيّ ، من الأفضل الاستعانة بالتجّار”
ذكر (البومة) ثلاثة أسماء ، لكنّ الخيارات كانت محدودة.
التعليقات لهذا الفصل " 17"