لم تُتح لسيدريك فرصة استعراض مهاراته في العاصمة ، لكنه كان مبارزًا فذًا استحق لقب فارس الشمس. لذا ، لم يكن اختطاف عربة تحمل شعار بلوسوم و هي في طريقها للقصر الإمبراطوري سوى مهمة يسيرة بالنسبة له.
استخدم القطعة الأثرية ليغير شعره الأشقر المتلألئ إلى لون كستنائي داكن ، و عينيه الزرقاوين الصافيتين إلى لون بني شائع.
في الحقيقة ، لم يكن تغيير لون الشعر و العينين كافيًا لإخفاء ملامح وجه سيدريك الوسيمة بشكل لافت ، لكن لحسن الحظ ، لم تكن قيمة هذه القطعة الأثرية تكمن في تغيير المظهر فحسب ، بل كانت وظيفتها الحقيقية هي بث شعور بالألفة في نفوس من يراه ، و كأنه شخص يعرفونه منذ زمن.
بفضل ذلك ، استطاع سيدريك الاندماج بشكل طبيعي في مخزن العربات. التقى بأربعة سائقين حتى الآن ، و لم يشك فيه أحد.
“مهلاً ، ما كان اسمك ثانية؟”
حتى عندما اقترب أحدهم و سأله فجأة ، أجاب سيدريك بابتسامة سمحة: “اسمي روبرت. كنت أعمل في الإسطبل ، و قيل لي أن أتعلم صيانة العربات أيضًا ، لذا انتقلت إلى هنا. أتمنى أن ننسجم معًا”
يقولون إن المرء لا يستطيع البصق في وجه مبتسم. لم يتجنب سيدريك أحدًا ، بل تعمد أن يكون أكثر ودًا و لباقة.
و بالفعل ، أومأ السائق في منتصف العمر برأسه دون أدنى شك: “حقًا؟ من النادر الانتقال من الإسطبل إلى هنا … حسنًا ، أمثالنا يذهبون حيثما يأمرهم الأسياد”
نظر السائق إلى سيدريك و فكر: ‘وجه غريب ، لكنه يبدو مألوفًا ، لابد أنني رأيته بضع مرات في الإسطبل أثناء ذهابي و إيابي’ و هذا بالضبط ما خطط له سيدريك.
***
أخرجت آثا جميع الخادمات و أغلقت باب غرفة آلموند.
كانت تفكر في طريقة تجعل أمها تعود بهدوء ولا تفكر في المجيء ثانية. و في تلك اللحظة ، ركعت السيدة الفيكونتيسة فريديس هيرمان على ركبتيها.
اهتزت نظرات آثا و هي ترى أمها تنهار أرضًا كقلعة رملية تتداعى ببطء.
“ماذا تفعلين؟”
أطرقت الفيكونتيسة هيرمان برأسها و أغمضت عينيها ببطء.
اختفت تلك المرأة التي كانت تصرخ في وجه الحراس قبل قليل ، و حل مكانها وجه يبدو حزينًا ، بل و ربما يثير الشفقة.
و عندما فتحت عينيها ثانية ، لم يكن في نظرتها لآثا سوى قلق صريح.
“آثا. السبب الذي جعلني أفعل كل هذا لأراكِ هو رغبتي في الاعتذار منكِ”
شعرت آثا بالارتباك أمام هذا التحول المفاجئ في الأجواء.
“اعتذار؟”
هل يعقل أن تأتي هكذا فجأة لتقول هذا؟ لم تكن كلمات الفيكونتيسة هيرمان لتدخل قلب آثا بسلام ؛ فلطالما اعتذرت سابقًا عن كل شيء ، من مراقبة طعامها إلى إجبارها على أعمال المنزل ، واضعة دائمًا عبارة “كل هذا من أجلكِ” خلف اعتذارها.
‘أنا آسفة ، لكن كل هذا من أجل مصلحتكِ’
تُرى ما الذي تخطط له هذه المرة؟ أليست علاقتهما قد وصلت لمرحلة لا يحتاجان فيها لتبادل الاعتذارات؟ إذا خمنت سبب مجيئها ، فسيكون المال بلا شك.
مالٌ للبقاء في العاصمة؟ أم فستان جديد؟
ارتسمت ابتسامة مريرة على وجه آثا ، لكن يبدو أن الفيكونتيسة لم تلحظها ، بل بدأت في التوسل و هي تمسك يديها: “نعم يا آثا ، يا ابنتي. أعلم أنني أخطأتُ كثيرًا. منذ أن رحلتِ في ذلك اليوم … أدركتُ كم كنتُ قاسية معكِ. أريد الاعتذار عن أخطائي السابقة. أنا آسفة يا ابنتي”
بدا صوتها المتهدج بالبكاء صادقًا جدًا ، لدرجة أن آثا عجزت عن الكلام للحظة.
“…”
خلال الأشهر الستة التي عاشتها مع الفيكونتيسة هيرمان ، لم تكن تشعر بالكراهية فقط.
فبعد رحيلها قالت: ‘آه، لم يكونوا العائلة التي تخيلتها’ ، لكنها أثناء العيش معهم كانت سعيدة و متحمسة. لقد كانت في غاية السعادة حين أعماها اسم “العائلة”.
لكن الآن ، حتى و إن استمعت لاعتذارها المليء بالدموع ، ما الذي سيتغير؟ حتى لو ركعت و اعتذرت مئة مرة ، لا تعتقد آثا أنها ستعود لتكون جزءًا من عائلة هيرمان مجددًا. لأنها الآن تملك إيسيس ، الذي يمكنها تسميته بعائلتها الحقيقية.
نظرت آثا بصمت للفيكونتيسة فريديس هيرمان ، ثم تحدثت بنبرة كانت ألين من البداية: “سأقبل اعتذاركِ. هل لديكِ شيء آخر لتقوليه؟”
كانت تقصد: ‘إذا كان لديكِ هدف فقوليه بسرعة ، سواء كان مالاً أو غيره’.
رفعت الفيكونتيسة هيرمان رأسها و التقت عيناها بعيني آثا ، لكنها لم تستطع الكلام بسهولة ، فساعدتها آثا على البدء: “هل تحتاجين لشيء ما؟”
ظنت آثا أن الجواب سيكون “المال” ، لكن نظراتها اهتزت مرة أخرى حين سمعت ما قالته الفيكونتيسة: “لا أحتاج للمال. ألم تقولي في المرة السابقة إنكِ سددتِ ثمن تربيتكِ في ذلك اليوم؟ أنا أيضًا أظن ذلك”
عندما هزت رأسها بهدوء و رفضت المال ، اجتاح قلب آثا شعور يصعب وصفه.
هل هي رغبة في أن تكون الأمور قد سارت بشكل جيد بينهما منذ البداية؟ أم هو أمل في أن علاقتهما قد تتغير قليلاً في المستقبل؟ أم هو لوم للذات لأنها توشك على الانخداع بـهذا المظهر الدافئ مرة أخرى؟
ربما هي الحماقة التي تجعلها ترغب في تصديق هذا الاعتذار الصادق لمرة واحدة ، لأن السيدة فريديس هيرمان لم تكن تعاملها بـأي صدق سابقًا بل كانت تسعى دائمًا لمصالحها.
قررت آثا ألا تتخذ أي قرار في هذه اللحظة. رأت أنه لا بأس في الحفاظ على علاقة ليست بـقريبة جدًا ولا تصل لحد قبولها كأُم تمامًا.
التقطت الفيكونتيسة هيرمان تردد آثا و فكرت في سرها: ‘بالطبع ، كيف لكِ أن تقطعي علاقتكِ بي بـهذه السهولة؟’
فبالنسبة لها ، آثا هي الابنة التي عاشت طوال حياتها تتوق لـعاطفتها فقط. رغم أنها غضبت و قالت لن نلتقي ثانية ، فكيف لقلب آثا الطيب أن يتخلى عن عاطفة أمه؟ لقاؤها الآن و حديثها معها و قبولها للاعتذار هو أكبر دليل على ذلك.
ابتسمت الفيكونتيسة بـداخلها ، بينما واصلت إظهار الندم في الخارج. و عندما رأت أن الوقت قد حان ، قالت: “في الحقيقة … جئتُ لأن هناك كلامًا يجب أن أنقله إليكِ”
أمسكت يدي آثا بقوة ، و تابعت بصوت مرتجف: “لقد رأيتُ المستقبل بـقدرة القديسة”
اتسعت عينا آثا بصدمة. مسحت الفيكونتيسة على وجنة آثا بحزن مصطنع أو شفقة زائفة ، و لم تنسَ طبعًا أن تذرف الدموع:
“عليكِ الهرب”
و عندما تشوه وجه ابنتها بـالارتباك ، همست بسرعة و صوت خفيض ، و هي تلتفت حولها و كأنها تخشى أن يسمعها أحد في الغرفة التي لا يوجد فيها سواهما: “لقد رأيتُ مستقبلاً تفشل فيه التجارة البحرية ، و يقوم ولي العهد بـقتلكِ”
من المؤكد أن السيدة فريديس هيرمان كانت أيضًا ممن ولدوا بـقوة القديسة ؛ القدرة على رؤية مستقبل واحد فقط.
لكن يا أمي ، أليست تلك القدرة مرتبطة بـشرط ألا يتم مشاركتها مع الآخرين؟
فكرت آثا في هذا التساؤل بدلاً من طرحه ، و كأن الكونتيسة قرأت أفكار ابنتها فأضافت: “بالطبع ، المستقبل الذي يُرى بـقوة القديسة لا يمكن مشاركته مع الآخرين. لكن لحسن الحظ ، يمكنني مشاركته معكِ”
أمسكت يد آثا ، و أغمضت عينيها ثم فتحتهما ، و قالت بصوت واثق: “لأنكِ قديسة أيضًا”
كان تمثيل الكونتيسة هيرمان يزداد إتقانًا كلما تكلمت ، لدرجة أنها كادت تصدق هي نفسها أن آثا ابنتها الحبيبة.
“إذن ، أنتِ تقولين إن كوني قديسة يجعلني مستثناة من … قيود قدرتكِ تلك؟”
أومأت الكونتيسة هيرمان بـرأسها برصانة: “نعم يا ابنتي”
تذكرت فريديس هيرمان الرسالة التي تلقتها الليلة الماضية من كبير خدم الكونت هانسرودي ديرك: [‘اذهبي إلى الآنسة آثا و قولي لها إنها ستُقتل على يد ولي العهد ، و اذكري أن السبب هو فشل التجارة البحرية. قولي إن ولي العهد الذي فشل في التجارة سيقتلكِ لاستخدام قدرتكِ. و إذا طلبت منكِ القديسة مساعدتها في الهروب من القصر ، فاجعليها تفكر جيدًا في شخص قريب يمكنه مساعدتها … حتى يُذكر اسم “الماركيز سيدريك دالبيرت”.’]
لم يذكر الكونت ديرك في الرسالة تفاصيل حول ما هي قدرة القديسة ، لأن الكونتيسة هيرمان لم تكن تعرفها بعد. في الحقيقة ، لم تكن بحاجة لمعرفتها و لم ترغب في ذلك أصلاً.
كل ما كان يهمها هو المال و سلامتها الشخصية. لو علمت أن الكونت ديرك قد فارق الحياة الليلة الماضية ، لما جاءت إلى هنا أبدًا ، بل لربما فرت بعيدًا خشية التورط معه.
على أية حال ، فريديس هيرمان التي لا تعرف شيئًا عن مصير الكونت ديرك فعلت ما أُمرت به تمامًا ، دون أن تعرف حتى ماهية قدرة ابنتها بدقة.
“التجارة البحرية ستفشل قريبًا. هناك خائن في الداخل. هل تعرفين كم بذل ولي العهد من جهد في هذه التجارة؟ عندما ينهار كل ذلك في ليلة و ضحاها ، سيقوم بـ … قتلكِ ، لاستغلال قدرتكِ”
التعليقات لهذا الفصل " 111"