كان صوت الخدش اليوم أعلى من المعتاد. أمسك بريشة القلم ووقّع في خانة التوقيع بخط مهيب ومرتب في آنٍ واحد، ومع ذلك، رغم أنه كان يُنهي كومة الأوراق المتراكمة، لم يكن يراها على الإطلاق.
في كل مرة كان يُقلب طبقة بعد طبقة من الأوراق التي راكمها كيلدر أو فانيسا، لم يكن هناك أثر لروميا بيرلوس على الأريكة تلك.
طَق.
انكسر رأس الريشة المحاط بالحديد. يبدو أن يده ضغطت بلا وعي أكثر من اللازم.
أرخى جِهاردي يده ناظرًا إلى الريشة المكسورة بعبثية. كان الحشد الهائل من شعب كاتاس خلف النافذة من ورائه، والأريكة الفارغة أمامه، يخنقانه من الجانبين.
‘هل اختفت حقًا؟ هل هربت مني؟’
لم يكن يريد شيئًا آخر. لو بقيت فقط بجواره، لكان جِهاردي مستعدًا لأن يضع بين يديها كل شيء.
جواهر باهظة ولامعة، فساتين، أحذية. لم يكن أي منها ليغلو عليها. ولو رغبت في طعام، لأطعمها بنفسه. ولو أرادت الذهاب إلى أي مكان، أيا كان، لرافقها.
لم يكن يكذب حين قال إن وجود روميا بجانبه يكفيه.
ومع ذلك، رحلت.
هل هو حقًا بهذا البشاعة؟ أجل…
هو من حوّل الفتات الضئيل إلى رماد. ما كان بالكاد متماسكًا اختفى بلا أثر. الألوان الزاهية التي غمرته ذهبت، ولم يبقَ سوى رماد باهت.
تبدّد، صار رمادًا، ورحل.
لم يكن حُبًا عابرًا أو نزوة مؤقتة. كان حبّه. جِهاردي كاتاس يحب روميا بيرلوس.
الجملة المكتملة أخيرًا جالت في فمه بخشونة.
في لحظة شعر بجفاف حارق في حلقه. نهض ببطء ووقف أمام خزانة العرض الزجاجية.
وكانت حركته التالية أن تناول زجاجة خمور مصطفّة بعناية على الرف.
عادة لا يلتفت إلى الخمر، لكنه هذه المرة فتح الغطاء طواعية. رنين إصطدام الزجاج صدح صافياً في الأجواء.
ظل جِهاردي يحدّق في الكأس الذي وضعه على الطاولة، ثم التقط الزجاجة من جديد.
تحركت حنجرته بجنون. يشرب فقط ويبتلع. أمام العطش الحارق الذي يزحف داخله، لم يكن هذا الألم، الذي كاد يحرق حلقه، شيئًا يُذكر.
كان يفضل أن يفقد وعيه. فربما حين يفتح عينيه مجددًا يجد روميا واقفة أمامه.
انهار جسده المستند إلى الأريكة بلا حول ولا قوة.
وبينما يشرب نصف غائب عن وعيه، وجد الزجاجة فارغة متدحرجة على الأرض. قواه تتسرب شيئًا فشيئًا.
لم يمضِ سوى يومين على رحيل روميا بيرلوس.
عندما يغلق عينيه، يطغى وجهها الصافي في خياله ويخنقه. وعندما يفتحهما، يهاجمه فراغ مكانها، ويدفعه ذلك إلى حافة الهاوية.
“إن كان الأمر كذلك، فربما من الأفضل أن يأتي ذلك الصباح الذي كانت روميا تتوق إليه…”
تمتم جِهاردي ببرود.
لعلّك، وأنتِ تتلألئين تحت شمس الصباح، تبتسمين لي.
لا… لا.
كان عليه أن يعود إلى تلك الليلة قبل رحيلها. ولو أن الليل لم ينتهِ كما تمنى، لكانت روميا بيرلوس باقية بجواره إلى الأبد.
فيما كان وعيه يتلاشى شيئًا فشيئًا، انفتح الباب فجأة.
“السيدة فوتاميا أغمي عليها. يجب أن تذهب سريعًا إلى جناح الزنابق.”
***
“ماذا نفعل الآن! يا سيدتي!”
أتباع هيرين فوتاميا احمرّت أعينهم جميعًا من البكاء.
نهض الطبيب لاندمن بصمت وأشار بهدوء إلى جِهاردي.
رغم إجراءات فسخ الخطبة، إلا أنها كانت لا تزال رسميًا خطيبة الملك.
“حالها سيئة جدًا. يبدو أنها تعاني مرضًا مزمناً منذ زمن طويل. لا أعلم كيف تحملت بجسدها هذا، لكن الأدوية لا تُجدي نفعًا.”
تحدث لاندمن بوجه متحير. مجرد النظر إلى وجه هيرين فوتاميا الأصفر الشاحب كان كافيًا لفهم ما يقصده. جِهاردي قطب جبينه من صداعٍ يزداد حدة ولوّح بيده.
إشارة منه للانسحاب.
فهم لاندمن على الفور، وأومأ للآخرين المحيطين بهيرين فوتاميا.
بعد خروج الجميع، بما فيهم السيدة ميريج، لم يبقَ في الغرفة سوى هيرين وجِهاردي. مشى مترنحًا وأخرج مقعدًا صغيرًا ثم جلس بثقل.
“افتحي عينيك. لقد رحلوا جميعًا.”
ارتجفت رموشها المغلقة بقوة. ثم انفتحت ببطء، كاشفة عن عينيها بلون الليمون، مثبتة نظرها على جِهاردي.
تغيرت نبرة الرجل الذي لطالما خاطبها باحترام كخطيبته. ورائحة الخمر تسللت بخفة لتوخز أنفها.
حرّكت هيرين شفتاها اليابستين بصعوبة وهمست:
“هل شربت؟”
لم يُجبها، لكنها ابتسمت ابتسامة مشقوقة كأنها حصلت على الجواب. ابتسامة غريبة، لا تُرى عادة على وجه مريض. لكنه حافظ على وجه خالٍ من التعابير.
كان من السهل عليه أن يفهم، من حديث الطبيب، أن هيرين فوتاميا أخفت مرضها طويلًا. ومع ذلك، لم يوجه إليها لوماً أو تساؤلاً.
وقف مكتوف الذراعين، يحدّق بصمت فيها.
وكانت هي من بادر بالكلام أولًا:
“لقد رحلت تلك الفتاة.”
“…”
“قلتُ لك من قبل. تلك الفتاة لا تعرف صدق مشاعرك. يا للأسف.”
“هيرين فوتاميا.”
زمجر جِهاردي بتحذير خافت، لكن هيرين ضحكت مرارًا بخفة.
“كنا سنصبح زوجين جيدين. بلا حب، لكن كرفيقين مدى الحياة… كأصدقاء بشكل مقبول. لأننا متشابهان رغم اختلافنا.”
“كم تبقّى لكِ؟”
“أحقًا تقلق عليّ الآن؟”
“كان من الأفضل أن تُخبري القصر لتلقي العلاج.”
“وماذا لو نُزعت مني مكانة خطيبة وليّ العهد بسبب مرضي؟”
“هذا هو خيارك؟”
“نعم. وُلدتُ لأكون امرأتك فقط، لأعيش بهدف واحد: أن أصير ملكة كاتاس. لكنك حطمت كل شيء.”
“إنه مؤسف.”
كذِب.
رفعت هيرين يدها النحيلة وغطّت وجهها براحتها.
كان وجهه وهو ينطق بكلمة “مؤسف” يخلو تمامًا من أي أثر للندم. الكلمة الجافة التي اعتبرتها قديمًا حنونة وطيبة بدت الآن سخيفة.
التقطت أنفاسها بهدوء وتابعت. لم يعد في قلبها انفعال أشد.
“إذن، هل تركت تلك الفتاة وشأنها؟”
تركها؟ هذا التعبير المزعج شقّ وجه جِهاردي. لم يتركها أبدًا، هي التي رحلت بخطواتها بعيدًا عنه.
ابتسمت هيرين ابتسامة مبتهجة، كطفلة سعيدة، برؤية تغير ملامحه.
‘إذن يمكن لهذا الرجل أن يُظهر مثل هذا الوجه.’
تجاوزت مرارتها وضحكت، ثم نطقت ببطء:
“هل تعلم؟”
“…”
“روميا جاءت إليّ. في صباح اليوم السابق لرحيلها.”
لم تُنكر هيرين أنها تفاجأت. لكنها فكرت أن ذلك يشبه روميا. لقد طابق الأمر تمامًا توقعاتها بأنها لن تستطيع الصمود حتى النهاية.
لكن ما جرح كبرياءها أكثر هو أن روميا لم تُنبذ من قِبله، بل هي من تخلّت عنه، عن الملك جِهاردي نفسه.
على أي حال، ما قالته تلك الفتاة فور حضورها لا يزال راسخًا في ذاكرتها.
“قالت لي إنها ستذهب لتعيش في عالم يليق بها. وأن ارتداء ثوب لا يناسبها أسعدها قليلًا، لكن ما تلا ذلك كان شقاءً أعظم.”
ــ ‘شكرًا لك على كل شيء.’
ــ ‘سأغادر كاتاس. قبل ذلك جئتُ لأودّعكِ، يا سيدة، فقد ساعدتني في ظهوري الأول.’
ــ ‘كنتُ سعيدة ولو قليلًا. اعتقدتُ أن حلمي القديم سيتحقق. لكنني الآن أعلم أن هذا المكان لم يكن جميلًا وبراقًا كما بدا في حلمي.’
ــ ‘لذلك تعلمت أكثر. لن أعيش كما تعيشين أنتِ.’
ــ ‘تُظهرين حُسن النية زيفًا، وتتصنعين التسامح، وتظنين أنكِ تمنحين فضلًا. إن لم يكن ذلك عن صدق، فهو نفاق.’
ــ ‘أنتِ حتمًا رحيمة، لكنكِ أيضًا قاسية.’
نظرة حادة من عينيها اخترقت هيرين، وكلماتها التي لم تتوقف خدشتها. كأن الخدش ترك دمًا يتجمع، وألمًا حارقًا أشبه بانتزاع لحم حي.
لأول مرة في حياتها، تسمع توبيخًا لاذعًا، ليس من أي شخص آخر، بل من روميا بيرلوس نفسها.
جُرح كبرياء هيرين فوتاميا آنذاك أكثر مما جُرح حين سرقت روميا رجلها جِهاردي منها.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 92"