في النهاية، تلك الطفلة وضعت بقعة سوداء خافتة على يومه المثالي. لكن تلك البقعة راحت تتمدّد بسرعة مخيفة، كما لو أنّها ستملأ الورقة البيضاء كلّها.
“آسفة، آسفة، جلالتكم، أنا آسفة… هييك!”
ارتجف صوت آنا الباكي وهي لا تستطيع التوقف عن الفواق من شدّة الخوف. بجانبها، كان ماركيز فانيسا يصرخ غاضبا على آنا التي لم تستطع الكلام كما يجب، لكن بدا وكأنّ الزمن بالنسبة إلى جيهاردي وحده يمرّ ببطء شديد.
كما في كلّ يوم، فتح عينيه، وكعادته مدّ يده ليحتضن روميا.
كان يجب أن يشعر بحرارة مألوفة عند أطراف أصابعه، لكن عندما فتح عينيه لم يجد سوى فراغ بارد وحرارة أغطية متجمّدة. جيهاردي، الذي لم يعرف طعم النوم العميق قبل أن تأتي روميا، أدرك متأخرًا أنّه كلّما غفا بجوارها كان يستسلم لنوم عميق.
إذن، فلا بد أنّه غفا غافلًا عن مغادرتها جانبه. يا له من أحمق.
ابتسامة ساخرة ممزوجة باللوم الذاتي انسكبت على وجهه بلا توقف. لم يشعر تجاه آنا، التي ساعدت روميا على الهرب، بأي غضب أو حنق. كلّ ما كان يملأ قلبه هو حقيقة واحدة: أنّ روميا بيرلوس قد تركته. وحدها هذه الحقيقة جعلته أشبه بإنسان توقّفت جميع دوائره العقلية عن العمل، غير قادر على التفكير في أيّ شيء آخر.
باختصار، كان الأمر فوق طاقته.
فقط فكرة أنّها رحلت كانت تحكم عالمه كلّه، حتى في هذا الوقت الذي كان يجب أن يتناول فيه فطورًا بسيطًا، ويشرب قهوته، وينغمس بين أكوام الوثائق.
شعر أن ساقيه قد خارتا تمامًا، حتى إنّه شكّ في قدرته على الوقوف بثبات.
وعندما رفع جيهاردي رأسه أخيرًا، بعد طول شرود، كانت آنا أمامه بالكاد قد توقفت عن البكاء. عندها ضيّق عينيه.
“تقولين إنّك لا تعرفين إلى أين ذهبت.”
“أنا… أنا حقًا، لم أفعل سوى… السماح لها بمغادرة القصر…”
لكن ما قطع تبريرات آنا المرتجفة كان جيهاردي نفسه. ابتسم ابتسامة قصيرة وهزّ رأسه نافيًا كلامها.
“لا. ليس كذلك.”
“…”
“من الأساس، كانت روميا دائمًا حرّة في الخروج.”
لم يمنعها من الخروج يومًا. ولم يحبسها في القصر الرئيسي أيضًا.
لقد كان لدى روميا الكثير من الفرص لتكون حرّة. كان يمكنها المغادرة في أي وقت، أو مغادرة القصر، دون أن يجد أحد ذلك أمرًا غريبًا. فهو لم يكن يتلقّى تقارير عن جدولها اليومي أصلًا، بل كان يعرف فقط ما تختار أن تبوح به بنفسها.
لهذا السبب شعر بالاطمئنان.
لقد كان يترك الأبواب مشرعة، لا يقيدها ولا يسجنها، ومع ذلك لم ترحل. رؤية روميا بيرلوس باقية قربه جعلته يطمئن داخليًا.
لكن مجرد فكرة أنّها لن تغادره بصمت… كم كانت في جوهرها فكرة متعجرفة، تمامًا كما كانت تكره روميا.
لو كان يعلم، لكان قيّد أطرافها حقًا وأبقاها بجانبه.
جفّ ريقه. كلّ حواسّه الأخرى بدت أكثر حدة، لكن الشيء الوحيد الذي تمنى أن يشعر به بوضوح، هو وجود روميا بيرلوس، وذلك أصبح باهتًا. تلك الحقيقة دفعت جيهاردي إلى الجنون.
***
“أما كان الحرس كثيرًا؟”
“لا أدري. كتبت اسمي في القائمة عندما خرجت، لكن لم ينتبهوا كثيرًا.”
“حقًا؟ غريب.”
سيرا قدّمت لروميا خبزًا وحليبًا لا يُعرف من أين أحضرتهما قائلة إنّها وجبة إفطار بسيطة. شكرتها روميا وتناولتهما، بينما جلست سيرا بجوارها بإهمال.
حتى فوق سطح السفينة الخشبي، حيث فستانها سيتّسخ، لم تُبدِ أي اكتراث.
وبينما كانت روميا تقضم خبزها على مضض، علّقت سيرا بنصيحة
“حتى لو لم يكن لذيذًا، عليكِ أن تملئي بطنك. في وسط البحر، من الصعب الحصول على طعام. الأفضل أن تأكلي عندما يتوفّر.”
“إيزابيلا قالت هذا؟”
“نعم، أختي. عندما غادرت، أمطرت السماء بغزارة وعانت كثيرًا. وصلت متأخرة أربعة أيام عن الموعد واضطرت أن تصوم يومين كاملين. عادة يحملون طعامًا للطوارئ يكفي يومين إضافيين، لكن…”
ولمّحت سيرا نحو المخزن. عندها، حتى روميا التي كانت تأكل بفتور قضمت لقمة أكبر. انتشر طعم الكريمة الحلوة في فمها، ولم يكن سيئًا.
“ربما تندلع الفوضى في مكانٍ ما الآن، أليس كذلك؟”
“……تظنّين؟”
سيرا، وهي تمضغ، رمت بالسؤال عرضًا. لم تذكر أين ولا من المقصود، لكن روميا فهمت فورًا، وارتسمت ابتسامة مرّة على شفتيها.
لا بد أنّ الشمس أشرقت الآن، وهذا يعني أنّ جيهاردي قد استيقظ بالتأكيد. هل يبحث عنها؟ أغمضت روميا عينيها، مستمتعة بأشعة الصباح الدافئة وسط البرد القارس.
لم تكن متأكدة أنّه سيفعل. صحيح أنّها أدركت أن ما اعتقدته يأسًا كان في الحقيقة حبًا، لكن في النهاية، هي التي رحلت عن الرجل الذي منحها حبّه.
ومهما يكن، حتى لو كان الأمر مأساة سببها سوء الفهم، فقد يشعر جيهاردي بخيانة وغضب هائلين منها، بقدر ما شعرت هي تمامًا.
كانت تعرف أنّ حياته لن تنتهي لمجرد أنّه انهار بنفس القدر الذي انهارت فيه هي. ومع ذلك، حين وصلت بفكرها إلى عبارة “بقدر ما شعرت أنا”، شعرت براحة غريبة، كأنّ قلبها المثقل قد تحرّر.
أوجعها ذلك، لكن كلّ هذا لم يكن سوى نتيجة اختياراته.
“لقد كان جلالته مشهورًا منذ أن كان وليًّا للعهد. وأوّل فضيحة فجّرها بعد أن صار ملكًا… كانت أنتِ.”
قالت سيرا وهي تمضغ الخبز، مشيرة إلى روميا.
“كما يقولون: الرياح المتأخرة أشدّ هبوبًا… الرجال هكذا. إن لم يكن في قلبهم مشاعر، فلن يحاولوا حتى إبقاءك إلى جانبهم.”
التقت عيناها بعيني روميا، ثم رفعت كتفيها بلا مبالاة وتابعت. كانت تتحدّث وكأنّ جيهاردي أبقى روميا كعشيقة لأنّه يحبّها فعلًا. بينما الجميع يثرثر بأنّ الأمر كان مجرد نزوة جسدية، سيرا رودج وحدها كانت مختلفة.
كانت تؤمن إيمانًا راسخًا بأنّ جيهاردي يحب روميا.
ولأنّ روميا لم تجد فائدة في تصحيح اعتقادها، اكتفت بابتسامة باهتة.
“بالطبع، ما تبقّى هو نصيب من رحلت عنه.”
قالت سيرا بلباقة مغيّرة الموضوع بعدما لاحظت أنّ روميا لا تريد الاسترسال.
“على أي حال، كيف وصلتِ إلى هنا؟ في تلك الساعة المبكرة، لم يكن هناك أي سائق عربات ينتظر في المحطة.”
آه.
لم يكن من السهل على روميا أيضًا أن تصل هنا في الفجر الباكر. جيهاردي كان خفيف النوم، يستيقظ على أي حركة صغيرة، والخروج من القصر الرئيسي ثم من القلعة كان يعني مواجهة عدد كبير من الخدم والحرس.
‘لكن لم يشكّ أحد طالما أنّني كنت مع آنا…’
رافقتها آنا حتى بوابة القلعة. وكانت تبكي متوسلة أن تحذر وتكون سعيدة. وما كان بوسع روميا أن تعطيها سوى قبعة قش صنعتها في أوقات الفراغ.
ـ “لن يمكنك ارتداؤها إلا في الصيف، لكن هذا كلّ ما أستطيع منحه.”
ـ “إنّها جميلة جدًّا. شكرًا لكِ، سيدتي.”
ومحاولة الفتاة كبح دموعها أثارت عطف روميا حتى إنّها مسحت على شعرها، لينقلب الحال وتغدو عيناها هي المبللتين بالدموع. بفضل آنا، خرجت روميا من القلعة بلا صعوبة.
لم يشكّ فيها أحد، حتى الحراس عند البوابة لم يسألوها لماذا تغادر في وقتٍ مبكر كهذا. كلّ ما فعلوه هو إعطاؤها ورقة وقلم لتكتب اسمها في القائمة، وهم يتثاءبون ويفركون أعينهم من النعاس.
كان الأمر أسهل بكثير مما توقعت، حتى شعرت بخواء غريب وهي تغادر. لم يعتبرها أحد مشبوهة.
وما كان بانتظارها سوى عربة عائلة دُوين، الممهورة بشعار بارز لا يُرى عادة إلا في محطّة دُوين.
“صديق ساعدني.”
“صديق؟”
ابتسمت روميا برفق وهي تفكّر بكارلايل، وأومأت.
“نعم. صديق طيب. كان بانتظاري خارج القلعة بالموعد، وأوصلني بعربة عائلته إلى هنا.”
ـ “شكرًا لكِ على استعدادك للمساعدة.”
ـ “أنا فقط أفي بكلمتي. وعدتُ أن أوصلكِ إلى مكانٍ بلا شتاء.”
حتى على رسالتها القصيرة التي سألت فيها إن كان يستطيع إيصالها إلى ميناء ويلتون، أجابها بالموافقة على الفور. على الأغلب، كان يعرف أنّ ذلك اليوم هو يوم رحيلها.
“صديق يستحق الشكر حقًا.”
علّقت سيرا ببرود، وكأنّها تدرك شدّة تأكيد روميا على وصف “الصديق الطيب”. ثم نهضت أوّلًا، نفضت فتات الخبز، وقالت:
“سأذهب إلى غرفتي لأرتاح. أفكّر أن أنام أربعة أيام متواصلة، فلا شيء أفعله. وأنتِ يا روميا؟”
“أنا أيضًا… أُوه!”
“هل أنتِ بخير؟”
بينما حاولت روميا أن تنهض، ترنّح جسدها فجأة، لكن سيرا أمسكت بها بسرعة قبل أن تقع. راقبتها بقلق وهي ترى لون وجهها يزداد شحوبًا.
“يا إلهي. يبدو أنّك تعانين دوار البحر.”
“إنّها أوّل مرة أركب سفينة…”
“أوه، إذن ستعانين أربعة أيام قاسية. تعالي، لنجلس ونرتح قليلًا. إذا استلقيتِ قد تتحسن حالتك.”
هزت سيرا رأسها قليلًا متهكمة، لكنها في الحقيقة كانت قلقة، فمدّت ذراعها لتساعد روميا.
قبلت روميا يد العون، لكن وجهها بدا أكثر انزعاجًا. استندت إلى سيرا بذراع، وبالذراع الأخرى ظلّت تفرك بطنها تارة بعد أخرى… حتى وصلت يدها تلقائيًا إلى أسفل بطنها، تمسده ببطء.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 91"