بعد أن عادت روميا من الخارج وتناولت العشاء، رمقها جيهاردي بنظرة وهو على السرير يتمتم بكلمة مُقتضبة نحوها بينما كانت تتململ.
قبل أن يفترقا، سلّمها كارلايل قلم حبر ذهبيّ مطبوع عليه الحرف “بِـ”، قائلاً إنّه لم يعد يختلف عن بطاقة اسمها. أخفته روميا سريعًا في الجيب الداخلي، ثمّ حدّقت بهدوء في جيهاردي.
اليوم على وجه الخصوص، كان اللهيب النائم في عينيه متأجّجًا أكثر. إلى أن تناولا العشاء معًا، بدا هادئًا، فما باله وقد شحذ حِدّة نفسه مجددًا؟
مال رأسها ببطء، عاجزة عن معرفة السبب.
كان جيهاردي بارعًا في إخفاء مشاعره، حتى إنّها لم تكن تعرف هل يعاملها بانفعالٍ حقًّا أم لا. لكنّها في كلّ مرّة تُصادف مشاعره المجهولة تلك، يخنقها شعورٌ مزعج، كأن أنفاسها تتوقف.
“هل أنت منزعج؟”
“هل تتوقّعين أن أكون مسرورًا؟”
ارتسمت على ملامح روميا، وهي تحاول فهم ما أغضبه، دهشةٌ مرعوبة.
“لأنّ اليوم… هو ذلك اليوم؟”
لم تكن قد نسته، لكنّها في خضمّ انشغالها بالمشاريع مع كارلايل لم تحذر كفاية. وبما أنّه كان كما قال، من الطبيعي أن يكون في مزاج سيّئ، فهي التي كان ينبغي أن تُولي ذلك اهتمامًا أكبر.
لقد كانت مأساة وفاة وليّ عهد كاتاس وزوجته في حادث مأساةً كبيرة هزّت أرجاء كاتاس بأسرها. ورغم أنّها وقعت حين كانت روميا صغيرة جدًّا حتى لم تعد تتذكّرها، فإنّ ذكرى وفاتهما تغرق الإمبراطورية في الحزن كلّ عام، ويخيّم عليها الصمت.
ذلك اليوم، لا يجوز ركوب الدراجات على المنحدرات كالمعتاد، ولا الضحك بصوت عالٍ، ولا تبادل المزاح الخفيف.
‘لكنّني غفلت عن ذلك، لأني عدت من أوروساي.’
ذكرى وفاة والدي جيهاردي.
في هذا الجوّ الكئيب، بدا لها أنّ ملامح الصبي اليتيم تطلّ من وراء وجه الرجل الشاحب.
‘هل كان وحيدًا وحزينًا؟’
حاولت أن تتخيّله وهو يترك قناعه السميك ويتألّم خالصًا، لكنّها عجزت عن ذلك. ففقدان الوالدين مأساة أكبر من أن يحتملها طفل، وروميا رأت أنّ التفكير في ذلك بحدّ ذاته أمر يتجاوز حدودها.
عبثت بأكمام فستانها الحريري، عاجزة عن الاقتراب منه، فبقيت واقفة في حرج.
“أعتذر.”
“ولماذا تعتذرين لي؟ على أيّ ذنب؟”
كان في نبرته استفهام حقيقي، لا عتاب فيه. بدا أنّه حقًّا يتساءل.
أجابت بصوت خافت ارتفع بصعوبة:
“……لأني كنتُ وحدي مبهورة، غير مراعِيةٍ لمزاج جلالتك.”
هذا فقط.
ضاقت عيناه قليلًا. لقد نشأ كمراقب، يلتقط مشاعر الآخرين بمهارة، لكن دون أن يجد ضرورة لمراعاتها. سواء كانوا في حالة سرور أو غضب، لم يكن وليّ العهد مُلزَمًا بالتماشي معهم.
مثلما هو الحال مع روميا بيرلوس.
لكن لسببٍ ما، انقبض صدره. لم يكن ذلك هو الانزعاج الذي شعر به قبل قليل. ورغم أنّ اعتذار روميا مألوف، إلا أنّه بدا غريبًا، ثقيلًا على مسمعه. لم يشأ أن يراها منكسرة أمامه، بوجهٍ كئيب، كأنّها ارتكبت خطيئة عظمى، تعجز حتى عن رفع صوتها.
كره ذلك. كره أن تبقى روميا بيرلوس بعيدة عنه، كأنّها تهرب بعد أن ضاق الفاصل بينهما.
مدّ يده ببطء، مشيرًا إليها بالاقتراب، وقال:
“أنا لا أعرف حتى وجه والديّ الراحلين. إنّما أؤدّي أدنى ما يُمكن من واجبٍ شكلي تجاه من أنجباني.”
“لكن…… مع ذلك، هما والداك…”
رفعت روميا رأسها دهِشة من نبرته الهادئة. لم تكمل عبارتها حتى ارتجّت عيناها الخضراوتان الكبيرتان.
‘انه يكذب مرة أخرى.’
رمقته بخفية، فتهاوى قلبها. لحظةً شعرت بالراحة من صوته الرزين، ثم سرعان ما اكتشفت أنّ عينيه لا تشبهان كلماته.
كمن يجرّ حزنه إلى أعماق سحيقة ليُخفيه.
وبينما يُوارى ذلك الحزن، ظهر وجهٌ آخر. لم يكن خالصًا حزنًا، بل بدا حادًّا، مُظلمًا.
رغم أنّها كانت تراه عن قرب، لم تدرك روميا تمامًا ما يعنيه موقعه. لكنها كانت تعرف أنّ مكانه ذاك مُرهق، يثقله إلى حدّ كبير.
فحين يعود إلى غرفته بعد إنهاء جدول أعماله، كثيرًا ما يظهر خلف قناعه البارد وجهه المُتعب.
لكن جيهاردي ظلّ يخفي ذلك عنها، كعادته، مدّعيًا أنّه لا يشعر بشيء. تلك طريقته لتخفيف قلقها.
“ليس كلّ الناس مثلكِ، يا روميا بيرلوس.”
“…”
“عالمك ما زال بعيدًا، ومختلفًا، عن العالم الذي تحلمين به.”
لم يبدُ أنّه يهتم بمدى التواء تلك الطريقة. لم تجرحها ابتسامته الباردة ولا نظرته القاسية، لكن كلمة واحدة منه كانت كافية لتُوجعها.
عضّت روميا شفتها لتكتم ما في صدرها، وإن لم يُخفَ.
فبدّلت السؤال:
“إذن، أيمكنني أن أسأل لماذا أنت في مزاج سيّئ؟”
“خمني، آنسة بيرلوس. هذا ما تجيدينه أكثر من أي شيء آخر.”
كان أسلوبه ساخرًا، فانعقد حاجباها.
“أنا لستُ جلالتك.”
“صحيح، أنتِ بيرلوس.”
“لم أقصد ذلك. أعني أنّي لستُ جلالتك، لذا لا يمكنني معرفة كلّ شيء إن لم تقله.”
“لكنّك كنتِ تعلمين دائمًا ما لم يعرفه أحد، لا السيّدة دوبري مُرضعتي، ولا حتى الملكة الراحلة.”
ابتسم وهو يسند ذقنه إلى يده، يطرق بطرف الكتاب. في غرفة النوم المشرقة بضوء القمر وبوميض الموقد، بدا وجهه مُضاءً بالشرر، بينما وجهها عند النافذة ازداد شحوبًا تحت نور القمر.
وحين صمتت، أضاف:
“أنتِ تتظاهرين بالجهل، أليس كذلك.”
‘إنّه رجل شرير…….’ أخفت ذقنها وقد غاصت من شدّة ضغطها على شفتيها. منحنية الرأس، خرج صوتها هامسًا:
“……لأنّي مضطرة.”
غير أنّ الصمت الثقيل ملأ الغرفة، لا يكسره سوى طقطقة الحطب. ومع ذلك التقط جيهاردي همستها وسأل:
“لماذا؟”
هل يسأل جهلًا حقًّا؟ رفعت رأسها فجأة تحدّجه، والدموع تكاد تنهمر من عينيها الحمراء.
صرخت بنبرة لاذعة في وجه هذا الرجل القاسي الذي يستغلّ مشاعرها دائمًا:
“لأنّك الآن تبدو بالضبط مثل رجل غيور!”
كان له عادة النقر بأصابعه حين يتكدّر. وجهه لم يتغيّر، لكنّ روميا، منذ أيام، كلّما رأت أصابعه تنقر بإيقاعٍ متقطع، عضّت شفتيها.
كلّ نبضة من ذلك الإيقاع كانت تُسقط قلبها إلى أسفل.
حَنَق. طفولة. غيظ. مشاعر كثيرة كبّلَتها. لمجرد أنّها لفظت هذه الكلمة، اختنق نفسها.
أحسّت أنّها ستنفجر، وهو، هذا الرجل القاسي، لا يدري كم من الشجاعة تطلّب منها لقولها.
“إن كان ذلك حقًّا سبب مزاجي السيّئ، فربّما أغار فعلًا.”
تسارعت ضربات قلبها بحدّة حتى كادت تسمعها بأذنيها. ألا يسمعها هو؟ وضعت كفّها على صدرها، وسألت بصوتٍ مرتجف:
“……من كارلايل دوين؟”
بدت وكأنّ ضربات قلبها تبتلعها. أحسّت أنّ هذه المشاعر الطارئة تلتهم عقلها. هو الذي لم يأخذها، بل أغدق عليها الجواهر والفساتين، وهي التي استغلّته لتحقق مالًا. لم يكن بينهما مكان لمشاعر رقيقة…
“لأنّكِ دائمًا تبتسمين بعد أن تعودي من لقائه.”
إلى أيّ هاوية يُريد أن يدفعها أكثر؟
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 65"