جلس النبلاء المدعوّون من قبل المركيز غيرويك حول المائدة، يتوسّطهم جميعًا جيهاردي. أما روميا فقد جلست في مقعدها البعيد قليلًا عنه. دوّى صوت خفيف لأجراس صغيرة فوق الطاولة، وسرعان ما بدأ تقديم المقبلات.
خلال دخول الأطباق المرتّبة بعناية على صينية فضية، لم ينبس أحد ببنت شفة. كانت قاعة الولائم الكبرى تقع على بعد خطوات قليلة من قاعة الطعام، غير أنّ الأجواء هناك كانت مختلفة تمامًا. فهنا ساد الهدوء والرهبة والوقار.
لم يكن بمقدور روميا أن تمنع نفسها من التوتّر، إذ إنّ أهم الشخصيات قد اجتمعت في هذا المكان.
ألقى جيهاردي نظرة على المائدة الطويلة والعريضة الممتلئة، ثم التفت إلى غيرويك الجالس إلى يمينه وقال:
“أشكرك على دعوتك.”
كان ذلك بداية بروتوكول مجاملته لمن دعاه، ومع تلك الكلمات أخذت أجواء العشاء الهادئ تبعث الحياة شيئًا فشيئًا. ففي مملكة كاتاس، جرى العرف أن يبدأ الملك الحديث مع من يجلس إلى يمينه. ابتسم غيرويك كمن كان ينتظر، وأجاب بانسيابية.
روميا لم ترَ تفاصيل الحوار، لكنها أنصتت بانتباه إلى القواعد الضمنية التي تسير بها الأمور. كل حركة من حركات جيهاردي كانت دقيقة لا يشوبها شائبة. تناول الطعام كان يجري وفق القواعد الرسمية المتعارف عليها، خطوة بخطوة. والأعجب أنه ما إن وضع الملعقة جانبًا حتى جِيء مباشرة بالطبق الرئيسي.
وحين قُدِّم الطبق الرئيسي، انطلقت الأحاديث على نحو جديّ؛ الرجال في معظمهم تبادلوا النقاش حول السياسة والعسكرية والدبلوماسية، بينما انشغلت زوجاتهم بأحاديث عن الأولاد أو الهوايات الجديدة أو النشاطات الدينية. وحدها روميا بقيت غريبة عن الطرفين، تتابع وجبتها في جو مثقل بالحرج.
مع ذلك، ارتاحت قليلًا لفكرة أنّ هذا أوّل جدول رسمي لها ولم يكن ضخمًا كما ظنّت. تمنّت في سرّها أن ينتهي كل شيء بهدوء.
“آنسة بيرلوس. من الأفضل أن تُظهري تركيزًا. هذه جلسة للتعارف لا لمجرّد ملء البطون، أليس كذلك؟”
كانت المتحدّثة سيّدة في منتصف العمر تجلس قبالتها، يلفت الأنظار صليب يزيّن عنقها بدلًا من المجوهرات الفاخرة، مما أوحى بأنها مؤمنة متديّنة. توقّفت روميا عن تقطيع اللحم بالسكين وحدّقت أمامها عند هذا التعليق المفاجئ.
“إن وجدتِ الأمر صعبًا، فهزّي رأسك بين حين وآخر وكأنكِ تُصغين. لا أحد سيتجرّأ على تجاهلك وأنتِ برفقة جلالته.”
بابتسامة رقيقة قدّمت ميلوسي سالوت هذه النصيحة لروميا التي لم تستطع أن تندمج. وعلى الرغم من أن كلماتها قد تحمل شوكة خفيّة، بقيت روميا متحفّزة، لكن ميلوسي اكتفت بابتسامة ثانية وعادت إلى طعامها بصمت.
وضعت ميلوسي أدوات الطعام، ومسحت فمها بمنديل بخفة. راقبتها روميا باهتمام، إذ لم تعتد بعد على تنوّع أدوات المائدة. لكنها استطاعت أن تقلّد حركات ميلوسي بشكل مقارب.
ولعل ميلوسي لاحظت أنّ روميا تتعلّم منها، فخفضت من سرعتها قليلًا.
بعيدًا عن النوايا، سواء أكانت حسنة أم سيئة، ساعد هذا روميا على التركيز في طعامها، بل حتى تمكّنت من الإيماء وكأنها تُصغي إلى حديث الجمع.
شعرت وكأنها شيئًا فشيئًا تنغمس في عالم جيهاردي. صحيح أنّ التقليد لا يجعلها مثله، لكن مجرّد الادّعاء بذلك منحها عزاءً كبيرًا.
***
“قلتِ إنكِ تحبين الزينة المبهرة؟”
“نعم. قالت لي أن أعتني بالأمر جيدًا لأنه سيُستخدم في مناسبة مهمّة. وطلبت أن يكون اللون فاتحًا إن أمكن.”
تحقّقت روميا من المدفأة التي لم تعد تُشعل جيدًا، وحملت ذراعًا ممتلئًا من الحطب. البرد قد اشتدّ، وأصبح من المستحيل احتمال برودة المكان بلا نار. حتى داخل القاعة كان الجو قارسًا، فما بالك بطريق العودة؟
بصفتها شريكة جيهاردي وكونها محظية الملك، أصبحت أماكنه الخاصّة بمثابة مناسبات رسميّة لها. صحيح أن البداية كانت فوضوية بسبب لانت بيدل، لكن مأدبة غيرويك مرّت بهدوء نسبياً.
والآن، بعد عودتها، انهمكت روميا في إعداد القبّعة التي طلبتها منها الأميرة شارون. ساعدتها السيّدة ريتشيتو، فصار العمل أيسر بكثير مما كان.
اقتربت ريتشيتو منها وألقت بردة على كتفيها المرتجفين وسألتها:
“أي مناسبة هذه؟”
“لم تُخبرني الأميرة.”
“يا للعجب، هذا مُربك.”
شددت روميا على الرداء الذي أعطتها إياه ريتشيتو، وأومأت بخفوت.
“لا بد أن تعرفي طبيعة المناسبة لتلتزمي بما يلزم من لياقة.”
كلمات ريتشيتو جعلتها تومئ مرة بعد أخرى. هذا بالضبط ما منعها من البدء في تنفيذ التصميم رغم اكتماله. فمعرفة الذوق أمر، لكن معرفة المناسبة شرط أساسي.
ومنذ أن أيقنت أنّ هذا العالم لا يرحمها، صارت روميا أكثر حذرًا. حتى لو كان الطلب من أميرة مثل شارون. فهؤلاء جميعًا يخفون سكاكينهم في الكلمات، ويحيدون وراء ابتساماتهم الرقيقة وجوهًا أكثر قسوة. ولم تكن سيّدتها السابقة هيرين فوتاميا استثناءً.
الذنب شيء، والحقيقة شيء آخر: ما تراه ليس كل ما هو موجود. وأوضح الأمثلة: جيهاردي نفسه، المشهور بالملك الفاضل.
ارتسم القلق على وجه ريتشيتو. فحتى لو بدأتا غدًا، سيكون من الصعب إكمال القبعة في الموعد المحدّد، والموكلة لم تفصح عن أهم معلومة.
كان بإمكانها على الأقل أن تهمس لها سرًّا لو كان الأمر بهذه الأهمية.
أم تراها……؟
نظرت ريتشيتو إلى روميا التي تمد يديها نحو النار. وجهها، وقد تجاوز بالكاد ملامح الطفولة، يتناوب عليه ظلّ أحمر يظهر ويختفي. فقدت وجنتاها الممتلئتان بعضًا من نضارتهما، وبرزت ملامحها بوضوح: خط الفك، العنق، والصدر حتى الخصر.
لم تعد تلك الفتاة التي تتدحرج بين الورود أو تضحك بصوت عال وهي تقرأ روايات رومانسية في المكتبة. باتت امرأة بجبين مستقيم وأنف شامخ، وعينين ما زالتا صافيتيْن رغم فقدان بريق الطفولة.
تنفّست ريتشيتو بعمق في سرّها.
بدأت تفهم لِمَ لم تُفصح الأميرة شارون عن شيء.
‘الطريق من كل جانب مليء بالأشواك.’
وكادت الكلمات تفلت من فمها، لكنها تمالكت نفسها.
***
رفع المركيز فانيسا بصره عن ساعته حين قطع الصوت الهادئ صمت المكان حوله.
“خشيت أن أكون قد أهملتُ منك لانشغالك بخدمة ابن أخي.”
“……هكذا إذن.”
كان الموقف بحدّ ذاته ساخرًا ومثيرًا للدهشة. لم يجد فانيسا ما يجيب به سوى مجاراة متأخرة لينجو من الموقف.
تصاعد البخار من فنجان الشاي الساخن أمامه، وكان من نوعه المفضّل الذي اعتاد شربه كثيرًا.
ما إن مال بعينيه نحو الكوب حتى انطلقت ضحكة قصيرة من الجهة المقابلة.
كلماتها بدت متفهّمة، لكنها في العمق كانت تحمل إصرارًا خفيًّا. فثبّت فانيسا نظراته على شارون، بعدما كان يتفلّت منها.
لا شكّ أنّ لدعوة شخص مقرب من الملك مثله سببًا وجيهًا.
“بالطبع. مجرد وجودي هنا هو الجواب يا صاحبة السمو الأميرة شارون.”
الجميع كان يعلم أنّ العلاقة بين الأميرة شارون ووليّ العهد جيهاردي متوتّرة. بل إن البعض مازح بأنّها تحمل في قلبها غيرة بعدما أزاحها عن حق وراثة العرش. غير أن فانيسا، أكثر من أي شخص آخر، كان يعرف أنّ ذلك لم يكن مجرد دعابة.
منذ وصيّة الملكة أوليفيا وحتى اعتلاء جيهاردي العرش، التزمت شارون الصمت، الأمر الذي أثار الريبة. فقد كانت صاحبة شخصية قوية استطاعت فرض زواجها رغماً عن معارضة الملكة نفسها.
“ماركيز فانيسا. زواج جيهاردي الملكي بات وشيكًا، وهذا يقلقني كثيرًا.”
تظاهرَتْ بالأسى وهي تتحدث عن قلقها عليه. لكن تمثيلها لم يجد صدىً لدى فانيسا.
“لا داعي للقلق. إنه يعرف كيف يدير أموره جيدًا.”
‘كيف استطاعت أوليفيا أن تُخضع رئيس الوزراء والمستشار معًا؟ وإلا فكيف صارا سيفًا ودرعًا لجيهاردي؟’
لم تُجدِ تمثيليتها نفعًا. لكن شارون لم تكن تنوي التراجع.
“وكيف لا أقلق، خاصة وقد تزامن أمر الزواج مع تلك الفضيحة الأخيرة؟”
ارتاب فانيسا من مراوغتها الواضحة، وأخذ يتأمل ملامحها المزيّفة بعينين متصلّبتين، قبل أن يجيب بنبرة قاطعة:
“إنه رجل لم تخطئ الملكة الراحلة حين وضعت ثقتها به. سيُدبّر أمره كما يجب. أما الفضيحة، فليست سوى شأن شخصي، وجلالته نفسه على علم بها. لا بدّ أن نحفظ له خصوصيته، فهي في النهاية صورة من صور العائلة المالكة.”
“هممم…….”
تظاهرت شارون بالتفكير وهي تجرّب كسب الوقت. كلمات فانيسا كانت واضحة لا تحتاج إلى تفسير: لا شأن لك بجيهاردي، فضيحته شأن ملكي داخلي، وأحيانًا علينا التستّر على سلوكيات أبنائنا.
رسالة لم تستسغها شارون، لكنها تظاهرت بالغباء وتابعت لعبتها.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 58"