جلس جهاردي محدّقًا في روميا التي جلست قبالته قائلة إن لديها ما تريد أن تقوله له. بدا أن في عينيه شيئًا من القوّة، إذ حدّق فيها بقوة وهو يلفظ كلمات بدت غير معقولة. وبينما كان يلهو بقطعة شطرنج تركها جانبًا للتسلية، أعاد عليها السؤال:
“تطلبين مني الإذن؟”
“قيل إن إقامة مصنع في العاصمة أمر غير ممكن. السيد دوين قال إنه سيساعدني في العثور على أرض لبنائه. لكن الأمر يتطلب إذن جلالتكم، أليس كذلك؟”
كان واضحًا من أين التقطت هذه المعلومة. لم تكن شيئًا يفترض بروميا بيرلوس أن تعرفه، لا شك أن دوين همس في أذنها بذلك. قبل أيام كانت تتحدث عن ضرورة التعايش مع الواقع وما إلى ذلك. هل كان هذا ما قصدته بكلامها ذاك وهي لم تنهض بعد من فراشه؟
بدت صورتها قبل مدة وجيزة، وهي تطلب منه الكثير من الجواهر والفساتين، متداخلة مع هذه اللحظة. آنذاك، كان يبدو عليها أنها لا ترغب في شيء، وتكتفي بطلب ما يتناسب مع مقامها، ببساطة وهدوء.
ومن البداية لم تكن تفكّر في سماع جوابه أصلًا. وإلا فلمَ كانت لتنهض قبل أن ينطق بكلمة؟
“هل يمكنك الإقتراب قليلاً؟”
أشارت روميا وهي تفتح درج المنضدة الصغيرة التي اعتادت استخدامها. بدا أنها صارت ألفة بهذا المكان في أيام قليلة بعدما كان غريبًا عنها تمامًا. من قبل كانت تتصرف وكأن البساط الأحمر هو كل ما سُمح لها أن تطأه.
لم يُعجب جيهاردي ضياء الشمس المرسوم على ملامح وجهها. ففي كل مرة تعود من لقاء كارلايل دوين، يكون وجهها مشرقًا كما لو أن غيمة انقشعت وفسحت المجال للشمس.
فتحدث جيهاردي بخشونة مقصودة:
“تعالي أنتِ.”
“… ساقاك أطول من ساقي. لن يستغرق الأمر وقتًا.”
“من له حاجة، هو من عليه القدوم.”
“كلامك صحيح أيضًا.”
اقتربت روميا منه بوجه متعجب، كما لو أن عناده لا يُصدّق. كانت تحمل في يدها أقمشة ملوّنة.
“ما الذي تفعلينه؟”
“في حفل التتويج كانت القاعدة أن تكون القبّعة بيضاء اللون. أردت أن أبحث عن اللون الأنسب لجلالتك.”
رفعت يدها بحذر نحو رأسه. ورغم أن قطعة القماش الرقيقة كانت تفصل بينهما، إلا أن حرارة بشرتها وصلت إليه بوضوح. لم يستطع أن يتجاهلها، فابتلع ريقه وأغمض عينيه ببطء.
“هذا كثير حقًا.”
فأيّ لون جرّبته، بدا مناسبًا له. بل كان إيجاد لون لا يليق به أسرع بكثير. وبينما كانت تقلّب الأقمشة، خرج من فمها تنهيدة إعجاب غير مقصودة.
شخص غريب، حتى حين يبدو باردًا ووجهه خالٍ من التعبير، فإن مجرد وجوده يجعل كل شيء منسجمًا معه. لأول مرة لاحظت روميا بوضوح رموشه الكثيفة وجبهته المستوية.
أمسك جيهاردي بذراعها بضيق، كأنه يطلب منها أن تكفّ عن الحركة فوق رأسه.
“لن يكون هناك داعٍ لصنع قبعة لي بعد الآن.”
رفعت روميا رأسها باستفهام، دون أن تفهم سبب انزعاجه الواضح:
“أردت أن أهديك إياها.”
“…”
“حين أصبح مشهورة جدًا لاحقًا، قد أكون مشغولة لدرجة أنك حتى لو أمرتني فلن أتمكن من صنع واحدة لك. فخذها الآن، بينما ما زال لدي وقت.”
كانت صادقة. فرغم ما تكنّه له من حقد عميق، إلا أن قبعاتها كانت دائمًا تنضح بالصدق.
على عكس جيهاردي الذي يمكنه أن يغمرها بالجواهر والفساتين الثمينة والنادرة، لم يكن لديها ما تهديه له سوى قبعة صنعتها بيديها. لكنها في تلك اللحظة، كانت القبعة هي كل عالمها.
ذلك الشيء الذي كرهته يومًا بشدة، صار اليوم أملها الوحيد.
تلاقَت نظراتهما فجأة في الهواء. وبسبب أن جيهاردي ما زال ممسكًا بذراعها، اضطرت للوقوف في وضع غريب.
مرّت لحظة ثقيلة قصيرة من الصمت. وكان أول من كسرها هو جيهاردي.
“روميا.”
“نعم.”
كان لون برتقاليّ خفيف يغمر السماء مجددًا كعادته كل مساء. أشعة الغروب التي انسابت عبر الستائر المردودة والنافذة صنعت ظلّين قاتمين لهما.
كادت روميا أن تدير رأسها لتتفادى سطوع الضوء حين قال فجأة:
“كيف أبدو لك الآن؟”
سؤال غامض. كأنه يطرح لغزًا صعبًا، رغم أنه كان يعلم أنها أكثر من يفهمه. ومع ذلك أراد أن يسمع التأكيد، مرة بعد أخرى.
أخذت نفسًا قصيرًا، وعيناها تجولان فوق وجهه بتفصيل. كانت قد شعرت منذ لحظة أن الجو تغيّر، مختلفًا عن حين خاطبها بخشونة ليأمرها أن تقترب. وبعد برهة أجابت:
“… تبدو سعيدًا.”
هل كان ذلك الجواب الصحيح؟ أرخى جيهاردي قبضته عن ذراعها، وهز رأسه ببطء شديد. وابتسم، ببطء أكبر.
“صحيح. سعيد. كل هذا… بسبب قبعة.”
شفته التي طالما ظلت منغلقة بانشداد، ارتسمت عليها انحناءة جميلة.
***
وصلت روميا إلى الحفلة الخيرية التي أقامتها السيدة ليليانا، وهذه المرة سُمح لها بالدخول، ولم تُقابل بالصد.
‘لأن الجميع صار يعلم أنني خليلة الملك…’
ذلك كان أكبر أثرًا بكثير من مجرد كون أسرة متواضعة نالت شرف صناعة قبعة التتويج.
ومثلما تضاعف الهمس من حولها، كانت له إيجابياته أيضًا. فمَن اعتادوا على السخرية منها بخدع صبيانية، كادعاء خطأ في قائمة الأسماء، لم يجرؤوا على ذلك بعد الآن.
‘مثير للسخرية… ما قيمة عطف الملك أصلًا؟’
نعم، حقدها على من أجبرها على هذه الحياة كان عميقًا، لكن ما كان يثير اشمئزازها أكثر هو أن وجودها صار قائمًا بفضل عطفه. وما زاد من ألمها أن ما يقوله الناس لم يكن باطلًا قط.
“الخائنة حضرت.”
“بالفعل. الرب سيغضب. ما أوقحها.”
لم تكن قد جاءت إلى هنا، رغم انشغالها بصناعة قبعة لشارون وبإدارة عملها مع كارلايل، من أجل سماع سيل جديد من الاحتقار والشتائم.
لم يكن هذا أول يوم تسمع فيه إهانات، لكن سماعها وجهًا لوجه أمام الجميع يختلف تمامًا عن الهمس خلف ظهرها.
كل الأنظار الحانقة كانت مسلّطة عليها، وكل كلمة تُقال كانت سهمًا موجّهًا نحوها.
وبعد انتهاء الحفل الخيري، عرضت السيدة ليليانا أن تشاركها في جلسة شاي. في البداية، شكرت روميا لطفها، لكن مع مرور الوقت تغيّر إحساسها. كان واضحًا أن هذه المائدة لم تُنصب إلا لتكون وليمة تنهش فيها الضباع فريستها.
طرقة.
وضعت روميا فنجانها على الطاولة بصوت مسموع.
كانت تلك عادة مشتركة بين بروسي، وهيرين، وجيهاردي، إذ اعتادوا أن يصنعوا صوتًا كهذا للفت الانتباه. طريقة خاصة بأهل هذا العالم الراقي للتعبير عن الغضب.
انتظرت حتى خفتت الأصوات، ثم تكلمت:
“هل تشيرون بكلامكم إليّ؟”
“على الأقل لديك بعض ضمير، آنسة بيرلوس. أتعلمين أن الأميرة فوتاميا اعتزلت الجميع بسببك؟ ألا تعلمين أن جلالته سيتزوجها قريبًا؟”
“أعرف.”
“وأنت تعلمين، ومع ذلك…!”
كانت المتكلمة داليا، الابنة الوحيدة للكونت كانيون، والمعروفة بأنها جوهرة مصونة. ارتجفت قبضتها من الغضب لدرجة الارتعاش. وكان يُشاع عنها أنها ذات حس عدالة قوي، لا تطيق السكوت على أي ظلم.
ورغم أن روميا كانت قد سمعت عن شخصيتها من إيزابيلا من قبل، إلا أن داليا لم تكن أكثر من ذلك بالنسبة لها. فهي لا تستطيع أن توجه اتهامًا مباشرًا إلى عشيقة الملك المعلنة.
الوضع الآن مختلف تمامًا عما كان قبل أشهر قليلة. كتمت روميا ابتسامة ساخرة، وفتحت فمها ببطء:
“كان لديها سبب خاص لحضورها، رغم أنها لطالما تجاهلت مثل هذه الدعوات كي لا تُجرح.”
“سأفتتح صالونًا.”
“صالون؟”
عبست داليا كانيون بوجهها.
“ومن سيحضر؟”
لكن روميا، وقد توقعت عدم ترحيبهم مسبقًا، ردّت ببرود:
“إنه صالون يقيمه جلالته بنفسه. ألن تحضري؟”
لحسن الحظ، لم يعترض جيهاردي على أن تُقحم روميا اسمه في عملها. لم يُبدِ أي علامة على الكراهية أو الضجر.
“حقًا، لا يهمّ جلالتك بأي شكل من الأشكال أن أستغلّك؟”
“قلتِ إنكِ بحاجة إلى اسمي لافتتاح الصالون.”
“…باسم «بيرلوس» لن يأتي أحد.”
“إذن، افعلي ذلك. فالأمر لا يختلف عن المجوهرات والفساتين والأحذية التي أهديتكِ إياها.”
كان ذلك تساهلًا مفرطًا منه، وهو يعلم جيدًا ثِقل اسمه.
ابتسمت روميا ابتسامة هادئة وهي تجول بنظرها في القاعة التي سادها الصمت فور أن ذكرت اسم جيهاردي. ثم تناولت معطفها، ونهضت ببطء قائلة:
“إنها دعوة. أعتزم توسيع عملي في صناعة القبعات هذه المرة، وآمل أن يحضر الكثيرون منكم.”
أخرجت من معطفها بطاقة دعوة كُتب عليها موعد ومكان افتتاح الصالون، ووضعتها فوق الطاولة بانحناءة خفيفة برأسها.
“إذن، سأغادر أولًا. فالأجواء هنا ليست بالترحيبية تجاهي، أليس كذلك؟”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 53"