“حين تمشي، لا تُصدري صوتًا. رتّبي نفسك أولًا حتى لا يقدر أحد على ذمّك.”
لحسن الحظ، وعلى غير توقّع روميا، سقطت يد جهاردي عنها بسرعة. غير أنّ الإحساس الغريب بالخسارة حين افترقت يده عنها أشعرها بإثمٍ محرَّم، فصارت تفرك مرارًا مؤخرة عنقها حيث لامستها يده.
حتى بعدما احمرّ جلدها إلى حدّ اللذع، ظلّت عاجزة عن إنزال يدها التي تغطي عنقها. ما شأن تلك الكلمات؟ ليست سوى نصيحة أو إرشاد يقدمه سيد إلى خادمته.
المشاعر التي لا تُصاغ بالكلمات، ما لم تُهذَّب، تندفع بعنف أكبر.
لا تدري أيّ دفء أو عطف التقطت من صوته الجاف. بدلًا من أن تجد اسمًا يليق بما شعرت به، رمقت جهاردي بنظرة ليست حانقة تمامًا وقالت متذمّرة:
“تستطيع أن تُطيل الكلام إذًا…”
“عادةً أوجز لأنه مملّ أن أُكثر الكلام.”
قال ذلك وهو يمسح سطح البندقية بقطعة قماش، وكأنه يبيّن أن كلماته نصيحة لا يُستهان بها.
“إن كنتِ، وأنتِ مَن يصنع قبّعتي، تلطّختِ بعار السرقة قبل أن تُكسبي اسمًا أو سمعة، فستقلبين تمامًا الاحتمالات التي راهنتُ عليها.”
إذًا لم يكن عطفًا ولا دفئًا.
عضّت روميا شفتها بقوة. لم يكن يقصد سوى أنه يخشى أن تُشوّه سمعة وليّ العهد بسببها، وأنها في عينيه لا تساوي سوى تابعٍ ناقص يحتاج إلى توجيه. عندما وصلت إلى هذا الاستنتاج، انقبض قلبها حزنًا.
“لأني يجب عليّ أن أنجح مهما كلّف الأمر؟”
“نعم. لأنني أنا قلتُ لكِ ذلك، فيجب أن تفعلي.”
ذلك الغرور المترسّخ بدا كشجرة شاهقة وسط غابة كثيفة، لا تنحني ولا تسقط، بل تتسامى عاليًا نحو السماء، تتلقّى الشمس والغذاء كاملاً، فلا الرياح ولا العواصف تقدر على إسقاطها.
أما هي، فبدت كورقة ضعيفة متشبّثة بغصن يابس، آيلة للسقوط معه في أية لحظة. إن لم تُؤدِّ نفعًا، فسيُلقى بها. شعرت برعب يجمّد أوصالها.
في تلك اللحظة—
“أوه! لوغال! أمسكوه!”
نُباح!
جاء صوت كلب يقترب راكضًا، ثم قفز لوغال مباشرة نحو روميا وانتزع القماش الذي كانت تحمله من يدها وفرّ به. وبما أن شدّة عضّته هائلة، وجدت روميا نفسها تُسحب خلفه راكضة.
“آه! لا، انتظر! قف مكانك!”
بينما كانت روميا تصارع لوغال مستميتة لتحافظ على قماش العينات، ابتعدت شيئًا فشيئًا. في تلك الأثناء، اقترب الضابط غلووس من جهاردي الذي ظلّ يراقب المشهد صامتًا. كان الضابط يتصبب عرقًا من كثرة الركض وراء الكلب، ينظر بتوجّس ليرى إن كان هذا التصرّف المفاجئ قد أزعج وليّ العهد. بدا عليه الانكسار من شدّة القلق.
“لم يحدث قط أن انشقّ عن التدريب، لكن اليوم… لا أدري لماذا.”
لحسن الحظ، جهاردي كان متساهلًا نسبيًا مع أخطاء الحيوانات، على عكس البشر.
“إذن سيصبح في لائحة الكلاب الاحتياطية. فالانحراف المفاجئ كهذا في تدريبٍ عسكريٍّ حقيقي قد يجرّ ضحايا أبرياء.”
“نعم… للأسف، سيكون هكذا.”
ولأن ملامح جهاردي بقيت هادئة بخلاف ما خشي، زفر غلووس بارتياح. كان يعرف أنّ وليّ العهد يتسم بالرحمة تجاه الكلاب العسكرية، ومع ذلك لو كان لوغال سبّب أذىً لوليّ العهد قبل قليل، لكان مستقبل الضابط انتهى لا محالة.
أنقذه الحظ. إذ بدا أن الكلب صرف اهتمامه إلى الآنسة التي كانت بجانب الأمير ولي العهد.
“لكن… تلك الفتاة…”
بدا على الضابط ارتباك وهو يتأمل روميا التي كانت تلاطف ذلك الحيوان الضخم بإتقان غير متوقّع.
“يبدو… أنه كان يريد اللعب.”
لم يستجب لأوامره الصارمة، لكنه اندفع فقط ليلعب مع وصيفة! ربما لصغر سنه—إذ لم يُكمل بعد عامًا واحدًا.
تنهد الضابط بعمق. في هذه الأثناء، دوّى صوت بارد معدني، تلاه شرر اشتعال سيجارة. كان جهاردي قد أنهى تنظيف سلاحه، وأشعل سيجارة وهو ينظر إلى روميا.
“يكفي… ياللعجب! أتركني، هيا! أرجوك؟”
قهقهة.
ضحكة الفتاة العذبة صدحت في ميدان الرماية الصارم، بدت غريبة وسط رائحة البارود العالقة.
وبينما التزم الضابط الصمت مقتديًا بولي العهد، لم يَعُد يُسمع في أذن جهاردي سوى نباح لوغال طالبًا اللعب، وضحكات روميا التي كانت تداعبه رغم ضخامته وكأنه مجرد جرو.
كان ذلك مزعجًا إلى حدٍّ لا يُحتمل.
في عينيه، اختلطت أمامه كراهيتُه لشيئين معًا:
الفتـاة الهشّة… والكلب.
وأيقن مجددًا: نعم، إنه حقًّا يكره الكلاب.
—
“يبدو أن الخريف قادم. أليس الجو أبرد كثيرًا؟”
قال المركيز فانيسا وهو يخلع معطفه الثقيل بصخب بينما يدخل على جهاردي. لمّا كان ولي العهد منشغلًا بأعماله، لم يلحظ تغيّر الطقس، حتى أدرك فجأة أن سماكة السجاد الذي يطأه قد تبدّلت.
وهذا معناه أنّ وقتًا طويلًا مضى منذ رحيل أوليفيا.
“هكذا هو.”
خرج صوته جافًا، مبعثرًا في الهواء.
“قابلتم الضابط غلووس مؤخرًا، أليس كذلك؟ سمعنا أنّه لم يرقْ لكم أيّ من الكلاب المرشّحة للخدمة العسكرية.”
“كلها ذكية، لكنّها تحب البشر أكثر من اللازم.”
“هاه، لكن بما أنها كلاب تعقّب، فذلك خير من أن تكون عدوانية.”
تواصل حديثه المفعم بالحيوية. أما جهاردي فلم يزد عن إبداء ردود مقتضبة متقطّعة، لكن المركيز اعتاد ذلك منه فلم يأبه.
“كان الجدول مزدحمًا للغاية بسبب التتويج، ولم يتبقّ الآن سوى أقل من شهر. آه، قهوة. أريدها شديدة السواد، بلا سكر.”
حين عرض الخدم عليه الشاي كالمعتاد، طلب فنجان قهوة مرة كما يفعل دومًا. ولما همّ الخادم بالانصراف، أوقفه:
“واصنع للأمير نفس ما صنعت لي، فنجانًا مماثلًا.”
“أمرك.”
لم يلتفت جهاردي، لكنه لم يستطع منع ابتسامة ساخرة من التسلل إلى شفتيه. فقد لاحظ المركيز أن فنجانه قد فرغ بسرعة، فأوصى بخدمة ثانية له. كعينٍ ثاقبة لبوصلة جديرة بالاعتماد.
“سمعت أن ثياب مراسم الاحتفال أُنجزت تقريبًا. لم يبقَ إلا… لِنَرَ… القبعة، أليس كذلك؟”
قالها وهو يفتح دفتره الصغير الذي لا يفارقه، يراجع به جدول ولي العهد. ثم رفع يده إلى ذقنه المجعّد يفكر.
وأعاد الدفتر إلى جيبه، متطلعًا نحو جهاردي بقلق.
“ألست واثق أكثر من اللازم؟ لا بأس باستغلال أسرة بيرلوس لقلب الرأي العام، لكن أن تعهد بقبعة التتويج إلى خيّاطة ليست من عُمال القصر… هذا أمر…”
كان جهاردي عنيدًا، لا يتراجع عمّا عزم عليه. وقد عرفه المركيز لسنوات طويلة، وأدرك أنه حين يصرّ، لا رجعة.
‘ما الذي دفعه فجأة إلى هذا…؟’
أمسٌ فقط بدا أن وصيّة الملكة الراحلة بإحضار ابنة أحد النبلاء الجدد للعمل وصيفة في القصر ما زالت حديث القوم، وأثارت كثيرًا من اللغط.
كان الناس يتناقلون اسم “بيرلوس” في كل مجلس، وبعضهم لم يتأنى عن التلميح بأن الملكة فقدت عقلها في أيامها الأخيرة.
والآن، أيضًا، سيجد البرلمان في هذه الخطوة أمرًا غير مُرضٍ.
“مولاي، أنتم لا تغيّرون ما تقرّرونه، هذا أعلمه.”
“أجل.”
“لكنها لم تُثبت أي براعة بعد. أخشى أن تعجز عن إنهاء العمل في الموعد، وهو أمر سيجلب علينا كارثة سياسية. فما السبب الذي يجعلكم تخاطرون هكذا، وتعهدون بقبعة التتويج لتلك الفتاة بيرلوس؟”
“ستُنهيها في الموعد. وإلا فلن تنجو.”
ارتجف المركيز. فقد انسكبت من ملامح جهاردي برودةٌ حادة، جعلت شعره يقف من قفاه.
وفي تلك اللحظة، دخل الخادم حاملًا صينية عليها فنجانان من القهوة كما طُلب، ثم انصرف.
لم يكُن هناك شيء أشدّ وقعًا من الصمت الثقيل الذي تبع ارتطام الأكواب على الطاولة.
‘ليت مخاوفي تكون وهمًا…’
بلع المركيز عباراته المذعورة مع رشفة من القهوة الحارّة، عاجزًا عن البوح بها.
كان جهاردي رجلًا، لكنه قبل ذلك كان ولي العهد. ولذلك فإن اهتمامه العلني بفتاة خيّاطة مثل بيرلوس لم يكن أبدًا في صالحه.
ومع ذلك، حين رأى المركيز ولي العهد يحتسي قهوته في وقار وهدوء، شعر بغصّة، فرفع فنجانه مجددًا وشرب بلا توقّف، كمن يحاول إطفاء عطش لا يهدأ.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 22"