فتح جيهاردي عينيه على الفور عند سماع الصوت الباكي المرتجف. كان صوتًا اشتاق إليه، وفي الوقت نفسه كابوسًا مرعبًا.
― هذا ليس أجرًا، بل يأسًا.
لماذا لم يدرك أن تلك النظرات المليئة باللوم، التي كانت دائمًا ترفعها نحوه، كانت في الحقيقة تبكي؟
ممَّ كان خائفًا لدرجة أنه لم يجرؤ على مواجهتها مباشرة؟ وممَّ ارتعد حتى لم يملك شجاعة التعمق في عينيها؟
“جبان”، “منافق”. تلك كانت الكلمات التي اعتادت روميا أن تهمس بها باكية كلما ضاقت بها. ولا يوجد ما يلائمه أكثر منها.
كانت تعرفه أكثر مما يعرف نفسه. نعم، حين يتذكر الآن، هكذا كان الأمر. روميا بيرلوس كانت تقرأ بيسر مشاعره الكاملة التي لم يعرفها الآخرون، وتكشف ما أراد أن يظل مخفيًّا.
ربما كان هذا هو ما جرح كبرياءه.
― هل تحبني؟
كانت في كابوسه تهمس بإصرار وكأنها لن ترتاح حتى تسمع الإجابة. كان صوتها يلح بجانب أذنه، وكأنها ستقتلع منه اعترافًا لا محالة.
― هل تحبني حقًا؟
رغم أنه كان يعلم أن الصوت الذي يسأله بصوت روميا مجرد كابوس، إلا أن جيهاردي، وهو يضع يده على صدره الممزق، لم يكن لديه سوى جواب واحد.
أحبك. أحبك، أحبك يا روميا.
منذ البداية وأنا أحبك، واليأس الذي كنتِ تتحدثين عنه قد حل بي الآن.
لم يكن الأمر أني لم أرغب في الاعتراف حتى الموت. بل فقط… لم أكن أعلم أني أحببتك.
وإذا كان هذا الشعور الذي لم أدركه إلا بعد أن فات الأوان وخسرتك لا يُسمى إلا حبًا،
فأنا أحب روميا بيرلوس.
وكانت هذه هي الكلمات التي لم يستطع جيهاردي أن ينطق بها لها أبدًا. الكلمات التي لم يوصلها قط، والتي تسببت في خسارته لها في النهاية.
***
كان نظره ضعيفًا. على السقف الأبيض برزت ألوان زاهية. كلما نظر إليها، دار رأسه بشدة، حتى اضطر جيهاردي إلى إغماض عينيه مجددًا. وعندما أغلق عينيه وركز على حواسه، لم يُسمع سوى صمت مطبق.
الصمت الذي كان يثقل جسده لم يبدُ وكأنه سيزول. فهل هذا يعني أنه مات؟
حتى عندما حاول أن يحرك أصابعه، لم تتحرك إلا نهاياتها بصعوبة. صار بذل القوة أمرًا غير مألوف. ومع شد الأوتار جاء الألم جليًّا.
‘إذن لم أمت…’
فتح جيهاردي عينيه من جديد ونظر إلى أطراف أصابعه. رأى ذراعه المستقرة على جبيرة موضوعة بعناية.
‘أنا حي.’
كانت آثار العلاج الواضحة دليلًا على أن شخص ما قد عالجه بعناية، وبرهانًا على أنه ما زال على قيد الحياة.
لا يعرف السبب، لكن ضحكة خفيفة ويائسة خرجت منه.
كان هذا نتيجة غروره واستهانته حين اعتقد أن كل شيء قد انتهى. كانت قوات لوماهوي محاصرة من الأمام والخلف، تضيق عليهم كتائب المدفعية شيئًا فشيئًا. لقد حطموا دفاعاتهم الصلبة. كانت خطوط العدو تسقط واحدة تلو الأخرى، ونهاية الحرب تلوح في الأفق.
لكن الجنرال إيفولنيا، القائد الشهير في لوماهوي، ظهر بنفسه يقود دبابة. والقذيفة التي أطلقها أصابت بدقة الطائرة A-1012 التي كان جيهاردي على متنها. لم يكن هناك وقت حتى لاشتعال النيران. تلاها انفجار هائل، وسقطت الطائرة. وذلك كان آخر ما يتذكره.
ربما كان قد سمع على عجل صوت الماركيز فانيسا عبر جهاز اللاسلكي وهو يصرخ بقلق على حياته…
حتى عندما دوّت الانفجارات في أذنيه وكسرت طبلتها، وحتى عندما أصابت القذيفة جناح المروحية فجعلتها تدور بعنف قبل سقوطها، لم يكن في عقل جيهاردي سوى روميا، في مكان ما على هذه الأرض.
حتى وهو يسقط بجناح محطم، أمسك بعجلة القيادة بكل قوته، وجذبها بقوة لينقذ أكبر عدد ممكن من الناس، يبحث بعينيه في الأرض عن مكان خالٍ.
وعندما رأى أرضًا واسعة مقفرة، أرخى قبضته أخيرًا. وكان ذلك آخر ما تذكره.
‘هل انتهت الحرب؟’
استدار رأس جيهاردي نحو النافذة تلقائيًا. مثل الغرفة التي غمرها السكون، كان الطقس في الخارج هادئًا. من بعيد، خلف الخط المائل للنافذة، ظهرت كثبان رملية ممتدة بلا نهاية.
رفع نصف جسده ونظر مرتبكًا إلى الخارج مرارًا. لا يعرف كم من الوقت مضى، ولا ما الذي حدث في غيابه. لم يستطع أن يتوقع شيئًا.
وبينما كان يستوعب الوضع ببطء، سمع خطوات تقترب شيئًا فشيئًا من الممر. استدار نحو الباب الذي أوشك أن يُفتح.
“انتظر لحظة، لقد نسيت قبعتك يا صغيري.”
“آه!”
“نعم، نعم. أريس، سنأخذ القبعة ونخرج بسرعة. السيدة الكبيرة بانتظارنا…….”
لم يستطع أن يصدق أن الصوت الذي كان يعذبه في أحلامه صار مسموعًا أمامه الآن.
“……جلالتك؟”
المرأة التي كانت تحتضن طفلًا بين ذراعيها وتبتسم له ابتسامة مشرقة، تجمدت فور أن رأت جيهاردي المستيقظ.
بل إن ذراعيها الممسكتين بالطفل شدتا قبضتهما أكثر، وعيناها رمشتا ببطء بعدم تصديق، قبل أن تبقى واقفة بوجه مذهول لوقت طويل.
حتى عندما تحرك الطفل الملفوف ببطانية في حضنها محركًا يديه الصغيرتين، لم تتحرك.
سقطت قفاز الطفل من يده الصغيرة على الأرض. عندما أمسكت الأصابع الممتلئة بخصلات شعر روميا المنسدل، تحركت هي أخيرًا بخطوات مرتجفة.
“جلالتك، حقًا أنت؟”
“روميا.”
كم اشتاقت إلى ذلك الصوت. احمرّت عينا روميا، وامتلأ أنفها بحرقة وهي تحبس دموعها.
احتضنت طفلها أكثر بذراع، وبالأخرى مسحت دموعها التي فاضت.
لقد انتظرته طويلًا ليصحو، لكنها، بشكل غريب، لم تستوعب جيهاردي المستيقظ أمامها الآن. بدا الأمر غير واقعي.
كما لو لم يتغير شيء. جيهاردي كاتاس، بعد ثلاثة أشهر، استعاد وعيه. ليس فقط وعيه، بل جلس معتدلًا، ينظر إليها مباشرة كما كان يفعل دائمًا.
تمامًا كما كان الرجل الذي أحبته.
نسيت أمر القبعة، ونسيت أن السيدة الكبيرة تنتظرها بالخارج. مدت يدها ببطء حتى لامست خده بحذر.
كان خشنًا، لكن وجهه الشاحب قد بدأ يستعيد حمرته، وكان دافئًا.
وهكذا، جثت روميا على ركبتيها وأطلقت العنان لدموعها، متخلية عن كل ما كابدته في الأشهر الثلاثة الماضية.
لقد ندمت لأنها غادرته ببرود دون أن تترك حتى أثرًا. لو كانت تعلم أنه سيعود إليها بهذا الشكل البائس، لكانت اعترفت له ولو مرة واحدة.
أنها أحبته. أحبتْه كثيرًا. منذ البداية.
لقد كانت تخشى أن يُختزل حبها في مجرد شهوة رجل لامرأة، لذلك كانت تخفيه وتدفنه وتستسلم لليأس.
لكنها لم تكن صادقة، وهو أيضًا لم يكن صادقًا.
الآن وقد استيقظ وواجهها، تدفقت مشاعرها المكبوتة كالسيل. ارتجف ظهرها وهي تبكي بحرقة.
وحين بدأت يدها المرتعشة، التي لامست خده، تهوي بتعب، أمسكها فجأة وأعادها إلى وجهه.
لم يرد ليدها أن تبتعد. ظل يحدق في روميا، كأنه لن يتأكد إن كان هذا حلمًا أم حقيقة إلا إذا رآها تبكي أمامه.
حتى جيهاردي نفسه لم يصدق ما يحدث. صاحبة الصوت الذي عذبه في كوابيسه، كانت الآن أمامه.
كما كانت دائمًا، ملامحها لم تتغير. ربما فقدت بعض الوزن، لكن عينيها اللتين نظرت بهما إليه، لم تتغيرا.
ثم انتقلت عيناه الهادئتان نحو الطفل بين ذراعيها. لم يستطع أن يرى وجهه جيدًا، لكنه أدرك غريزيًا.
‘طفلي.’
لم يكن هناك من يستطيع أن يجعل بطنها ينتفخ سواه.
لقد كان هو من امتلكها، هو من غمرها بلا رحمة. وإذا كان الطفل ابن روميا بيرلوس، فلا بد أنه مستقبل آخر لعائلة كاتاس.
وقبل ذلك كله، حقيقة أن ذلك الطفل ابنه هو كانت واضحة كالشمس.
اتسعت عيناه قليلًا، ثم عادت كما كانت، لكن العمق الجديد فيهما كشف أنه أدرك أن ما يحدث ليس حلمًا. فتح شفتيه ببطء.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات