جسدها تذكر كل شيء ، لكن عقلي لم يفعل .
…..
بعد أن تناولت نيملوث وجبة الفطر المشوي مع الملك، اعتذر الأخير منها ورحل ليؤدي واجباته الملكية.
ظلت جالسة في غرفتها، وهي تتذكر مذاق الثمار التي تذوقتها، ولم تستطع منع نفسها من الابتسام. عندما دخلت نوريفين إلى الغرفة، لاحظت حالة الفتاة الشقراء الجالسة أمامها، ولم تتمالك نفسها عن التعليق قائلة:
“تبدين بمزاجٍ جيد اليوم.”
اقتربت منها وسألتها”هل حدث شيء ما؟”
أومأت نيملوث وأجابتها”أجل، لقد تناولت الفطر المشوي مع ثراندويل.”
تسللت الدهشة إلى ملامح نوريفين، وانفرج فمها تلقائيًا، وسألت متشككة”الملك بنفسه؟!”
هزّت نيملوث رأسها مؤكدة، مما زاد من حيرة الفتاة ذات الشعر الداكن ودهشتها. لقد كانت تعلم أن هناك ارتباطًا قديمًا بين الملك وهذه المرأة، لكنها لم تتوقع أن ملكها البارد، ذو الوجه المتجهم والكبرياء العالي، سيسمح لأي شخص آخر بمناداته باسمه دون ألقاب، وفوق كل هذا، يشارك وجبته مع شخص أقل منه مكانة.
زفرت بهدوء وحاولت تجاهل هذا الحدث غير المتوقع، ثم قالت:
“حسنًا، دعينا من هذا الآن.”
أشارت لها بالجلوس عند طاولة الكتابة وأضافت “سنرى اليوم ما إذا كنتِ تتذكرين أي شيء يتعلق بالقراءة والكتابة.”
ترددت نيملوث للحظات، لكنها أطاعت كلامها وجلست على الكرسي، تحدق في الورقة البيضاء الموضوعة أمامها. وضعت نوريفين المحبرة والريشة ثم قالت
“حاولي أن تكتبي أي شيء يخطر في بالك.”
ظلت نيملوث تجول بنظرها بين الورقة ونوريفين، وشعرت أن رأسها بدأ يؤلمها، وعجزت عن التفكير في أي شيء، مما جعلها تكره نفسها وترغب في البكاء.
نظرت ناحية نوريفين وقالت بصوتٍ متهدج”أنا… أنا لا أستطيع.”
تنهدت نوريفين، ثم وضعت يدها على كتف نيملوث “اهدئي، لا داعي للقلق… خذي وقتك، ربما تتذكرين كيفية الكتابة. أعلم أن الأمر قد يكون مرهقًا، لكن لا مانع من التجربة.”
ظل الصمت يخيّم على الغرفة، ولم يكن يُسمع سوى صوت أنفاس نيملوث المضطربة. حدّقت في الريشة بين أصابعها، ثم أغمضت عينيها للحظة، تحاول استجماع أي ذكرى قد تعيد إليها مهارة الكتابة التي تشعر بأنها ضائعة منها.
مرت ثوانٍ طويلة قبل أن تأخذ نفسًا عميقًا، ثم لمست الريشة سطح الورقة بتردد. حاولت رسم أول حرف خطر في بالها، لكن الخطوط خرجت متعرجة، مهزوزة، وكأن يدها قد نسيت كيف تمسك الريشة بثبات.
شيئًا فشيئًا، استطاعت أن تكتب جملة كاملة بخط واضح و بسيط مما جعل نوريفين سعيدة ؛ لأنها ستتجنب تعليمها القراءة و الكتابة من الصفر.
صفقت لها قائلةً” هذا ممتاز ، ان عقلك يتذكر كيفية الكتابة ، الآن لنرى ما الذي كتبتيه ” اقتربت نوريفين من عندها و اتسعت عيناها ؛ بمجرد أن رأت ما هو مكتوب على الورقة .
“خاتم واحد ليحكمهم جميعًا، خاتم واحد ليعثر عليهم،
خاتم واحد ليجمعهم جميعًا، وفي الظلام يربطهم .”
كتبت نيملوث هذه الجملة على الورقة بخطٍ بسيط متعرج قليلًا، لكنها واضحة .
حاولت ان تواري الصدمة التي تفشت داخلها، لكنها قد فشلت . لأن نيملوث لاحظتها ، و نظرت اليها بعينيها المتسائلتين مثل أعين الأطفال و سألت الأخيرة قائلة
” هل أخطأت؟”
هزت نوريفين رأسها نافية و ردت ” كلا ، لكنني مندهشة قليلًا بسبب هذه الجملة . هل قال لك الملك أي شيء عنها؟”
” كلا، لقد فعلت ما طلبته مني و كتبت هذه الجملة عندما ظهرت في رأسي ، بدت و كأنها أمام عيناي تمامًا” نظرت إلى الورقة ثم أعادت نظرها إلى نوريفين وسألتها”هل لهذه الجملة أي معنى؟”
سحبت نوريفين كرسيًا حتى تجلس بالقرب من نيملوث وقالت: “حسنًا، سوف أقص عليكِ حكاية هذه الجملة، لكن يجب أن تهدئي أولاً وتتناولي نفسًا عميقًا.”
امتثلت نيملوث لأمرها، وبدأت تحكي قائلة: “في العصور القديمة من عالم الأرض الوسطى، قام الجان بقيادة الحداد الأعظم كيلبريمبور بصناعة عشرين خاتمًا سحريًا تُعرف باسم خواتم القوة. بمساعدة شخصية غامضة تدعى أناتار، لكن الأخير لم يكن سوى شخص كاذب يدعى ساورون.
تم تقسيم الخواتم إلى ثلاث أقسام: ثلاثة خواتم للجان، وهم الأكثر حكمة وقوة في الأرض الوسطى، سبعة خواتم للأقزام (لإغرائهم بالذهب والثروات)، وتسعة خواتم للبشر (الذين كانوا الأكثر طموحًا وضعفًا أمام الإغراء).
لكن في الخفاء، صنع ساورون خاتمًا خاصًا لنفسه، الخاتم الأوحد، عند نيران جبل الهلاك في موردور. ألقى فيه جزءًا من قوته وجعل وظيفته الأساسية السيطرة على بقية الخواتم. وقد نُقش عليه بالكلمات التالية بلغة موردور: “خاتم واحد ليحكمهم جميعًا، خاتم واحد ليعثر عليهم، خاتم واحد ليجمعهم جميعًا، وفي الظلام يوثقهم.”
سألتها نيملوث: “من هذا ساورون ولماذا فعل هذا؟”
أجابتها نوريفين: “مخلوق قوي كان في الأصل خادمًا للآلهة، لكنه انحرف نحو الظلام وأصبح سيد الشر بعد سقوط سيده الأول مورغوث. حاول السيطرة على الأرض الوسطى عبر الخاتم الأوحد، لكن في معركته الأخيرة مع جيش الرجال والجان فُقِد خاتمه، ثم اختفى هو بدوره. لكنه ينتظر اليوم الذي يعود فيه الخاتم إلى عنده حتى يسيطر على العالم… حصل إيسليدور على الخاتم ورفض تدميره، و خلال سنوات ضاع.”
شعرت نيملوث بصداع طفيف ينتابها وقالت: “سماع كل هذه المعلومات دفعة واحدة جعل رأسي يؤلمني.”
ظهرت على وجه نوريفين ابتسامة طفيفة بعد أن رأت رد فعل نيملوث على كل هذا الحديث عن التاريخ القديم. بدت ظريفة إلى حد ما، مثل طفل يتذمر من دراسته. كان لا يزال لديها المزيد لتقوله، لكنها اكتفت بهذا الحد اليوم.
“حسنًا، طالما أنكِ لا تزالين تتذكرين الكتابة، فلننهي هذه الدروس الآن ونخرج في جولة، لعلها تنعش ذاكرتك أكثر.”
أومأت نيملوث موافقة، وقد ارتسمت البهجة على ملامحها. فبعد تجوالها في قاعات القصر، ازدادت رغبتها في استكشاف ما يكمن وراء هذا الجمال، علّها تكتشف شيئًا يعيد إليها ولو جزءًا من هويتها المفقودة.
بمجرد أن خرجتا من باب الغرفة، ظهر تورغون أمامهما، وكانت الابتسامة لا تفارق محياه. اقترب من ابنته وقال: “تبدين بحالٍ أفضل اليوم.”
نظرت نيملوث إليه، لاحت على وجهها ابتسامة خاطفة، لكنها سرعان ما تلاشت. كانت ترغب في أن تتذكر أي شيء يتعلق بهذا الرجل، بعدما عرفت مدى قرابته بها، لكنها لم تشعر تجاهه بشيء. كان وجودها معه أشبه بوردة اقتُلعت من جذورها وزُرعت في أرض غريبة عنها.
حدّقت نوريفين به ثم اقترحت: “كنا على وشك الخروج والتجول في الغابة، ما رأيك يا سيدي أن تذهب معها بدلاً مني؟”
هزّ تورغون رأسه موافقًا وقال: “بالطبع، لا يوجد في هذا العالم ما هو أثمن من قضاء الوقت مع ابنتي.” مد يده حتى تأخذها . بعد أن ترددت للحظات أمسكت بها و سارت معه متوجهة إلى الخارج .
وسط ظلال الغابة العتيقة، حيث تتشابك أغصان الأشجار العملاقة وتحجب ضوء الشمس، برز مخرج قلعة ثراندويل كسرّ دفين داخل قلب الجبل. كانت البوابة منحوتة بعناية فائقة في الصخر الرمادي، تتداخل على سطحها نقوش رشيقة تصور أغصان الأشجار المتشابكة، وكأنها تنبض بالحياة بسحر الجان الخالد.
أمام المدخل، امتد جسر حجري أنيق فوق جدول مائي صافي، تعكس مياهه ضوء المشاعل الخافتة المتراقصة على الجدران الداخلية. كان الهواء مشبعًا برائحة الأرض الرطبة والصمغ العطري المنبعث من الأشجار القديمة، وكأن الطبيعة ذاتها تحرس هذا المكان .
شعرت نيملوث وكأنها قد دخلت إلى عالمٍ آخر، بعيدٍ كل البعد عما تبدو عليه القاعات الداخلية. ظلت متمسكةً بيد والدها وهي تسير معه، ثم تشبثت به أكثر عندما أدركت أنها تسير على جسر. تسلل الخوف إلى قلبها خشية أن تقع.
شعر تورغون بتوتر ابنته، فمال نحوها وهمس قائلًا: “لا تقلقي، لن أدعك تسقطين.” ثم وضع يده الأخرى على كتفها الأيمن من الخلف بينما يمسك بيدها اليسرى، وأضاف: “أتذكر كيف كنتِ تخافين من هذا الجسر في البداية. لكنكِ تأقلمتِ مع الأمر.”
رفع نظره قليلًا وكأنه يستعيد ذكرى قديمة، ثم قال: “في ذلك الوقت، كان الملك ثراندويل مجرد أمير صغير يعشق المغامرات. وعندما صرتما صديقين، أصبحتِ مثله.” قهقه وهو ينهي جملته، فبادلته نيملوث الضحكة.
“نظرت حولها وشعرت وكأن المكان كيان واحد، الأشجار المتشابكة، وصوت المياه الجارية في النهر، وأصوات تغاريد الطيور جعلتها تشعر وكأن كل شيء في هذه الغابة يعمل ويتحرك من أجل الآخر.
عندما بدأت تسير على الأرض، وشعرت بالحشائش تلامس قدميها، نظرت إلى الأسفل محدقة في الأزهار الصغيرة.
وقع نظرها على زهرة تتميز بمظهر بسيط وأنيق، ذات بتلات بيضاء رقيقة تحيط بمركز أصفر دائري، انحنت إليها وقطفت واحدة.
ظلت تنظر إلى الزهرة الصغيرة و قد جعلها هذا المنظر ذو الجمال البسيط سعيدة . شعرت أن تورغون يقترب منها ، و عندما وقف بجانبها نظرت إليه و قالت” هذه الزهرة جميلة ، هل لها اسم ؟”
اومأ تورغون و اجابها ” أجل، هذه زهرة الاقحوان. و هي من الزهور الجميلة التي تتميز بألوانها المتنوعة، مثل الأبيض والأصفر والبرتقالي. تعتبر رمزًا للحب النقي، والجمال البسيط، وتستخدم في العديد من الثقافات كرمز للسلام. في بعض الأحيان، ترتبط أيضًا بالتفاؤل والفرح. ”
لمست نيملوث بتلاتها الرقيقة بلُطفٍ شديد و خطر في بالها فكرة ” أود أن أحتفظ بها ، ربما في دفتر..” توقفت عن الكلام للحظات و اكملت كلامها ” أجل، أريد دفتر أُلصِقُ به هذه الوردة و اكتب بعض الكلمات بجانبها ”
عقد تورغون حاجبيه و قال” يبدو الأمر غريب إلى حدٍ ما ، لكن سأوفر لك دفترًا مناسب لهذه ”
استأنفت نيملوث نزهتها مع والدها، وظلت تتوقف في كل مرة ترى فيها ورقة أو زهرة مثيرة للاهتمام. حمل والدها بعض الأوراق نيابة عنها.
توقفت عندما لاحظت شجرة عنب حديثة النمو ملتفة حول أغصان شجيرة غير مثمرة. حدقت في شكل الورقة، وبينما كانت تلمسها، شعرت ببعض الدوار وبدأت النقاط السوداء تظهر في محيطها.
ابتعدت قليلاً، وقد بدا عليها الإرهاق والتعب. نظرت إلى تورغون الذي استولى القلق على قلبه، وقبل أن تنطق بأي شيء، غزا السواد محيطها، فغرقت في ظلام اللاوعي.
♤♤♤♤
التعليقات لهذا الفصل "6"