9
الفصل 9
“لقد جننت…”
ما الذي فعلتُه بحق نفسي؟!
غطيت رأسي بالبطانية وأغمضت عينيّ بإحكام. لم أستطع طرد ذكرى تلك القبلة من رأسي—القبلة التي تبادلتها مع سيدريك قبل رحيله. لم تكن سوى قبلة عابرة… قبلة لا تحمل شيئًا أكثر من وداعٍ بسيط. ومع ذلك…
(لماذا أردتُ… المزيد؟)
لامستُ شفتيّ بيدي المرتجفة، ثم دفعت البطانية بقدمي بعصبية، أتمتم بين أنفاسي بخزيٍ وغضبٍ مكتوم. كيف يمكن لامرأةٍ صمّمت على الطلاق، وصرخت به مرارًا، أن تستسلم لتلك اللحظة بهذه السهولة؟!
يجب أن أستعيد صوابي. هذه هي فرصتي الوحيدة—رحيله يعني أن أمامي طريقًا للهرب. لكن ما إن استحضرت نظراته الباردة الحادة، تلك التي تشبه عيون الوحوش، حتى تسلل البرد إلى أطرافي.
“يا دوقة، هل لي بالدخول؟”
كان صوت ليان من خلف الباب. ما إن أذنت لها حتى دخلت بخطواتٍ هادئة وبدأت بمساعدتي على ارتداء ملابسي. تركتُ جسدي بين يديها للحظات، إلى أن أفقت من شرودي فجأة.
“يجب أن أودّعه قبل أن يغادر.”
ارتديت معطفًا سميكًا وغادرت الغرفة بخطواتٍ سريعة نحو مدخل القصر. كان سيدريك قد أكمل استعداداته، جالسًا على صهوة جواده الأسود. نظرت إليه مطولًا، كأنني أحاول أن أودّعه في سري قبل أن أفعل ذلك بلساني.
“سيدتي، سأعود قريبًا.”
انحنى قليلاً وهو على ظهر جواده ومدّ يده نحوي. ترددتُ، ثم وضعتُ كفي في يده الدافئة، فما كان منه إلا أن رفعها إلى شفتيه وقبّلها قبلةً خفيفة.
“لن أتأخر.”
كان صوته هادئًا بشكلٍ يثير القلق. بدا كمن اعتاد الذهاب إلى الحرب حتى صارت بالنسبة له أمرًا روتينيًا. ومع ذلك، وأنا أنظر إلى ظهره وهو يبتعد مع فرسانه عبر بوابة القصر، شعرت بشيءٍ يؤلم صدري دون أن أعرف سببه.
وحين غاب عن الأنظار تمامًا، تهاوى جسدي على الأرض بإنهاكٍ وارتياحٍ في آنٍ واحد.
(أخيرًا… أستطيع أن أتنفس.)
أدركت لحظتها كم كنت متوترة في وجوده. لكنّ فكرة أنني ارتحت لغيابه جعلتني أختنق بالذنب.
(يا إلهي، ما بي؟ كيف أفرح برحيل رجلٍ ذاهب إلى الحرب؟)
وخزني ضميري بشدة. حاولت طرده بهزّ رأسي بعنف.
أثناء الطعام، وجدت نفسي أقاوم إحساسًا غريبًا بالفراغ. لم نتشارك سوى بضع وجباتٍ عابرة، ومع ذلك كان غيابه يترك فراغًا في المائدة… وفي قلبي أيضًا. هل ألقى عليّ نوعًا من السحر؟ أم أنني ببساطة فقدت السيطرة على نفسي؟
(لا، يجب أن أركّز. عليّ أن أجد الشجرة أولاً.)
خرجت بهدوء إلى الحديقة، أتفقد الطريق المؤدي إلى الغابة. تمددتُ قليلًا لأتنفس الهواء النقي، ثم بدأت أسير بخفةٍ متجنبة أنظار الخادمات.
“زقزق!” (كلير! لدينا ضيف جديد!)
“ضيف جديد؟”
تتبعت أصوات العصافير التي كانت تطير حولي بحماس، حتى وصلت إلى عمق الحديقة حيث غطّت الأعشاب العالية الأرض. هناك سمعت أنينًا ضعيفًا.
“مم؟ من أين يأتي هذا الصوت؟”
أزحت الأعشاب بحذر، لأجد ذئبًا ممددًا على الأرض، جسده مغطى بالدماء، وجراحه عميقة إلى حدٍ مؤلم.
“يا إلهي… ماذا حدث لك؟”
نظرت حولي بسرعة، ثم سحبته بصعوبة إلى ظل الأشجار، وأطلقت قدرتي العلاجية دون تردد. سرعان ما بدأ العرق يتصبب من جبيني مع كل ثانية تمرّ.
“غرووو…” (يؤلمني… يؤلمني…)
“اصبر قليلًا، سأنتهي قريبًا.”
ثبتُّ جسده بقدمي حتى لا يتحرك، وتابعت العلاج رغم صراخه. الطريقة بدت قاسية، لكنها الوحيدة التي تجدي نفعًا.
وبعد دقائق طويلة، بدأ تنفسه يهدأ، وتلاشى الأنين. عندها فقط سحبت يديّ ببطء.
“حسنًا… يبدو أنك ستكون بخير الآن.”
اقتربت أستمع لأنفاسه، فلم أسمع سوى صوتٍ ثابتٍ هادئ.
تنفست الصعداء، ثم ألقيت نفسي على الأرض بجانبه وقد أنهكني التعب. استخدام هذه القدرة كان يستنزفني دومًا.
“سأنهار يومًا بسبب هذا… آه، يا للسماء.”
أغمضت عينيّ للحظةٍ وأنا أحدق في السماء الزرقاء الصافية. كان الجو جميلًا على نحوٍ مزعج، إلى درجة أن ملامح سيدريك خطرت في بالي بلا إذن. سارعت إلى هزّ رأسي وصفعت وجنتيّ براحتَيّ يديّ.
“استفيقي يا كلير! كيف ستواجهين العالم وأنتِ تذوبين أمام ملامحه؟!”
لقد دللني أكثر مما يجب، حتى صرت أضعف أمامه. والآن، عليّ أن أستغل هذه الفرصة جيدًا. ربما تكون فرصتي الأخيرة للطلاق… وللحرية.
لكن قبل ذلك، عليّ أن أتعامل مع المشكلة التي أمامي الآن.
“هممم… وماذا سأفعل بك أنت؟”
نظرت إلى الذئب الذي كان حجمه يفوق جسدي مرتين على الأقل، فزفرت بإحباط. لم يكن هناك أي وسيلة لأحمله وحدي.
❖ ❖ ❖
مرّ أسبوع.
ومع ذلك، لم يغادر الذئب الحديقة. ظلّ ممددًا في نفس المكان وكأنه قرر الإقامة هناك. والأسوأ من ذلك… أنني ما زلت هنا أنا أيضًا، عالقة في هذا القصر اللعين.
(لماذا الحراسة مشددة إلى هذا الحد؟!)
لا شك أن سيدريك ترك أوامره قبل رحيله. وإلا، كيف يمكن تفسير هذه المراقبة الدقيقة؟
حين كان في القصر، لم يكن هناك هذا الكم من الحراس، ولا من يتبعني في نزهاتي. كنت أتنقل بحرية نسبية، أتنفس، أختلي بنفسي. أما الآن، فحتى السير إلى الحديقة بات يشبه محاولة فرار من حصنٍ محاصر.
(جبان… رحل وترك وراءه شبكة من العيون تحاصرني!)
وما زاد الطين بلّة أنه كلّف الليدي أريتا بمرافقتي “كحارسة شخصية”، لكنها في الحقيقة لم تكن سوى رقيبةٍ عليّ. قالت إنها هنا لحمايتي، لكني لم أصدّق كلمة.
ورغم كل ذلك، لم تكن أريتا أكثر ما يزعجني في هذه اللحظة…
بل هذا الذئب الماكر أمامي.
“أنتَ… لماذا لا تعود إلى الغابة وقد شُفيت تمامًا؟ ما الذي تبقى لتفعله هنا؟”
“آآآووو.” (ما زلت مريضًا…)
كان الذئب قد عرّف نفسه باسم “زينو”. اسمٌ بدا غير ملائمٍ لحجمه الضخم ومهابته، لكنه بدا لطيفًا على اللسان مع تكرار مناداته به—أشبه باسم جرو مدلل أكثر منه وحشًا بريًا.
“زينو، لماذا لا تعود إلى الغابة؟ بقاؤك هنا يسبب لي المتاعب.”
إن لم يرحل، فلن أستطيع وضع أي خطة للهروب. لا يمكنني أن أهرب على ظهر ذئب… أو ربما يمكن؟ لا، لا، هذا جنون. رغم ذلك، ربما أمكنني المحاولة؟ يبدو أن يأس الهروب بدأ يدفعني إلى التفكير في أكثر الأمور حماقة.
“زينو، حين تتعافى تمامًا، يجب أن تعود إلى الغابة، مفهوم؟”
“غروو، آآآوووو.” (أتطردين مريضًا يحتضر؟ يا لقسوتك…)
“لكنّك تبدو في تمام العافية!”
ضيّقت عينيّ أراقبه بشك، بينما تمدّد زينو أمامي بتكاسل ولف ذيله حول جسده، ثم أغلق عينيه ببراءة مصطنعة.
“يا صاحبة السمو، هذا مرعب حقًا!”
كان صوت ليان يرتجف وهي تلتصق بالحائط بعيدًا عن الذئب، بينما وقفت أريتا بثبات، دون أن يرفّ لها جفن.
“لا تقلقي، يا صاحبة السمو. ما دمت هنا، فلن يؤذيك.”
كلماتها الهادئة كانت كافية لطمأنتي بعض الشيء، لكنّ ملامحها ظلت جامدة، خالية من أي تعاطف.
حتى كبير الخدم، الذي نادرًا ما يتدخل في أموري، قرر أخيرًا أن ينطق.
“مع كامل احترامي، يا سيدتي، لكن إبقاء ذئبٍ في الغرفة أمر في غاية الخطورة.”
ليان تؤيد، وكبير الخدم يعارض، وأنا في المنتصف. تنهدت ورفعت كتفيّ بلامبالاة.
(أوه… نسيت أن هذا ليس بيتي، بل بيت الدوق. لو علم سيدريك بهذا، ربما سيعتبره تعدّيًا على ممتلكاته.)
التفتُّ إلى كبير الخدم وسألته ببرودٍ ظاهري:
“همم، هل تعتقد أن الدوق سيغضب لو علم؟”
تردد الرجل لحظة قبل أن يجيب بخفوت:
“قد… يغضب، نعم.”
ابتسمت بخبث. “حسنًا، هذا يعني أن عليّ أن أفعل ذلك بالضبط.”
ارتبك كبير الخدم، بينما اتقدت عيناي بعزمٍ مشاغب.
“تأكد من أن تُبلّغ الدوق بكل شيء. لا تنسَ أي تفصيل، فهمت؟”
“ماذا…؟”
“أريد أن يعرف تمامًا أنني قررت الاحتفاظ بهذا الذئب كحيوانٍ أليف.”
تبدّل وجه الرجل إلى لون الطحين من شدة الصدمة.
“غرووو.” (وستندمين إن حاولتِ طردي.)
عند سماعي لغرغرته الغامضة، انحنيت نحوه بعينين متقدتين. كان واضحًا أنه يخفي شيئًا.
“زينو، ما الذي تعرفه؟ ما الذي تخفيه عني؟”
“آآآو.” (لا أفهم عمّ تتحدثين.)
“زينو، أخبرني الآن، وإلا سأطردك فورًا من هنا!”
“غرووو، غوووف!” (هذا ابتزاز، ألا تعتقدين؟!)
“هكذا تسير الأمور في الحياة يا زينو. الآن تكلّم.”
صمت لحظة، ثم أطلق أنينًا خافتًا.
“كيييي…” (في الغابة… هناك شيء…)
اقتربتُ منه أكثر، أرهفت السمع حتى كدت ألمس خطمه.
“آآآووو!” (هناك شجرة… تمتلك طاقة مقدسة. وأنا أعرف مكانها.)
“ماذا؟!”
قفزت من مكاني، فاغرة الفم بدهشةٍ عارمة.
❖ ❖ ❖
“غريب… لماذا لا أستطيع إخراجها من رأسي؟”
اتكأ سيدريك على ظهر كرسيه وأغمض عينيه المثقلتين بالتعب. كانت الحرب تتقدم بسرعة، والميلان في الكفة أصبح واضحًا لصالحه. ومع ذلك، لم يشعر بطعم الانتصار قط. في ساحة المعركة ينتصر دومًا، أما في معركته مع كلير… فكان الخاسر بلا ريب.
تأمل وجهه في المرآة المقابلة له. عيونٌ زرقاء كليلٍ متجمّد، وشعرٌ أسود حالك ينسدل كظلٍّ كثيف.
(كانت تنظر إليّ بتوترٍ كلما التقت أعيننا…)
الجميع في القصر كان يتفاداه، يهاب نظرته، وحتى من يحادثه يخفض بصره. لم يفكر في الزواج قط، إذ كانت مسؤوليات شمال الإمبراطورية تكفيه. لم يتخيل يومًا أن الزواج سيغير شيئًا في حياته… لكنه غيّره.
بعد زواجه من كلير، بدأ يبتسم دون أن يدري. حاول أن يكون زوجًا صالحًا، أن يمنحها بعض الدفء كي لا تشعر بالوحدة.
رفع رسالةً من على مكتبه وحدّق بها، نظراته تتلبد بالقلق. كانت رسالةً من كبير خدمه.
فتحها بتوجس، وما إن قرأ أول سطر حتى انعقد جبينه.
(ذئب…؟!)
انتشر توترٌ حادّ في الغرفة. قبض الرسالة بيده بقوة ثم ألقاها في سلة المهملات، وأسند رأسه للخلف مطلقًا زفرةً ثقيلة.
“هاه…”
حتى تنهيدته كانت مشوبةً بغيظٍ مكتوم. حاول طرد أفكاره، لكن وجه كلير ظل يطفو أمام عينيه بلا رحمة. تذكّر تلك القبلة التي فاجأها بها قبل رحيله—قصيرة، لكنها بقيت محفورة في ذاكرته كجرحٍ ساخن.
“يا صاحب السمو، هل حدث ما يقلقكم؟”
كان كافن يراقبه بقلقٍ ظاهر. رفع سيدريك رأسه ببطء وقال:
“علينا إنهاء هذه المعركة بأسرع وقت. ثلاثة أيام كافية.”
“ثلاثة… أيام؟ ولكن، يا مولاي، هذه المهمة—”
“كفى.”
قطع كلامه بصوتٍ حاسم. “هناك ضيف غير مرغوب فيه في قصر الدوق، ويجب أن أعود فورًا.”
عبس كافن للحظة، مترددًا في السؤال. لكنه كان يعرف سيده جيدًا. حين يقول إنه سيعود، فلن يمنعه أحد.
كانت غريزة سيدريك نادرًا ما تخطئ، وهو الآن يشعر بأن شيئًا ما في القصر يسير على نحوٍ غير مألوف.
(غريب… لماذا الصمت يخيّم هناك؟)
تذكّر كيف كانت كلير تكرر كلمة “الطلاق” كأنها سيفٌ ترفعه في وجهه كل مرة. الآن، وهي وحدها في القصر، هل تفكر في الهرب؟
مجرد الفكرة جعلت صدره يضيق. تخيّلها وهي ترتجف بين ذراعيه ليلة رحيله، فاشتعل بداخله شوقٌ غاضب.
لم يكن رجلًا يسمح لما يخصّه أن يفلت من قبضته. وكلير… لم تكن استثناءً.
“كافن.”
“نعم، يا مولاي.”
“سنعود إلى القصر غدًا مع طلوع الفجر.”
“ماذا؟ أعدتُ الاستماع جيدًا؟”
“قراري نهائي. لا جدال.”
اتسعت عينا كافن، فقد فهم تمامًا ما تعنيه تلك الجملة: سيدريك سيقضي الليل بطوله يعمل بلا راحة حتى ينهي كل شيء.
“لا يوجد في قاموسي شيء اسمه مستحيل.”
قالها سيدريك بهدوءٍ قاتل، فابتلع كافن ريقه وأجاب بخضوع:
“أمركم مطاع، يا مولاي…”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 9"