الفصل 7 :
كان يُظهر التعبير نفسه المعتاد.
عَيْنان أرجوانيتان غارقتان، لا يُمكن قراءة ما يدور في ذهنه من خلالهما.
لكن دايل لم يستطع إخفاء توتّره. لم يكُن الكلب الأسود قد أظهر مِن قبل اهتمامًا بأيِّ شخصٍ غيره.
ماذا لو… كانت تلك المرأة حقًا السبب في استعادة ذاكرته؟
‘ما الذي سيحدُث لي إذًا؟’
قد يُضرب حتى الموت. لا يعرف ماضيه بالضبط، لكن ما كان متأكّدًا منه هو أنَّ الكلب الأسود لم يكُن شخصًا عاديًّا.
حتى لو نجا، فالمشكلة ستكون فيما بعد.
كان دايل يعلم جيدًا أنَّ مستواه ليس عاليًا. وجوده في هَذهِ المهمّة لم يكُن مُمكنًا لولا فضل الكلب الأسود.
قد يقول أحدهم: “لِمَ لا تُعامله بشكلٍ جيّد إذًا؟”
لكن هَذا جهلٌ محض. لأنّه لم يكُن شخصًا عاديًّا، كان لا بدّ مِن إخضاعه. لا بدّ مِن رسم حدودٍ واضحة للعلاقة حتى لا يتجرّأ على التمادي.
لكن إنْ استعاد ذاكرته، فإنِّ كلّ ما بناه دايل حتى الآن سيتلاشى كأنه لَمْ يكن. وكان دايل يشعر بذلك بحدسه.
قبض على يده ونظر إلى الكلب الأسود.
“ه… هيه، أيها الكلب الأسود.”
“نعم.”
“تتذكّر اليوم الذي التقينا فيه، أليس كذلك؟”
منذ ذَلك اليوم تغيّرت نظرة الناس إلى المرتزق دايل نويان. ولهَذا لم يستطع دايل التخلي عنه.
مستحيلٌ أنْ يتركه.
“لقد توسّلتَ إليّ أنْ آخذك معي. قلت إنّكَ ستخدمني كمالك، وستُطيع أيَّ أمرٍ أُعطيه لك.”
“…أتذكّرُ ذلك.”
“قلتَ أيضًا إنّكَ ستُصدّق كلّ ما أقوله.”
هزّ الكلب الأسود رأسه بالإيجاب مُباشرة، مِما منح دايل مزيدًا مِن الثقة.
“في رأيي… تلكَ المرأة مُحتالَة.”
أتوسّل، صدّق هَذا، أتوسّل…
“حسب كلام بريدين، تلكِ المرأة وُلدت في القارّة الشرقيّة، وهَذهِ أوّل مرّةٍ تزور فيها الغربيّة. مِن المستحيل أنْ تكون قد قابلتكَ مِن قبل.”
لو مرّت الأمور بسلاسة الآن، فسأُعاملُك بشكلٍ أفضل لاحقًا…!
“تعرف لماذا جاءت للقارة الغربية؟ لتسدّ دَينًا. ومَن يحتاج المال سيفعل أيَّ شيء، حتى لو تخلّى عن ضميره.”
قال دايل بصوتٍ واثق.
“إنها تُخطّط لبيعك.”
“……”
“تدّعي أنّها تعرفكَ، وتقتربُ منكَ تدريجيًّا، ثم تأخذكَ إلى القارّة الشرقيّة. سمعتُ أنَّ هناك دولًا لا تزال فيها العبودية قائمة. ستأخذكَ إلى هناك.”
“……”
“ولِن تنتبه إلى ذَلك حتى اللحظة الأخيرة. لأنّكَ لا تفهم لغتهم. ستكتشف الحقيقة فقط عندما يُوضع طوق العبودية حول عنقك. حينها ستُدرك أنّكَ خُدعت.”
دايل نظر إليه بعينَين لطيفتين، كما لو كان يُهدّئ طفلًا صغيرًا.
“لا تُصدّق تلكَ المرأة. إنّها محتالَة. والمحتالون أشخاصٌ سيئون، لذا…”
ثم همس بصوت منخفض.
“اقتلها.”
“……”
“ادّعِ أنّكَ استعدت ذاكرتك، واقترب منها. ثم… تظاهر بأنكَ هوجمتَ مِن قِبل وحش، وبهَذهِ الطريقة، سسس―.”
مرّر دايل كفّه على رقبته بطريقةِ تمثّل الذبح.
“فهمتَ قصدي، أليس كذلك؟”
هزّ الكلب الأسود رأسه بالإيجاب.
“مفهوم.”
وبنفس ذَلك التعبير المعتاد، دوّن أيِّ تغيير.
***
بدأت مهمّة الصيد الحقيقيّة في مساء اليوم التالي.
بعد تناول وجبةٍ مشبعة، ركبنا العربة وتوجّهنا نحو غابةٍ بعيدة نوعًا ما عن القرية.
لم يكُن مِن الصعب العثور على موقع معركة إيريون والشيطان. كان يكفي أنْ نبحث عن أشجارٍ مكسورة أو أرضٍ محفورة.
ولَمْ يمض وقتٌ طويل حتى وجدنا ساحةً مُدمّرة بالكامل.
تلفّت هيميل حوله وهمس.
“أظن أنْ هَذا هو المكان.”
“لكن يجب أنْ نتأكّد. دايل، هل يُمكنك التحقّق؟”
ردًا على طلب بريدين، أخرج دايل حجرًا سحريًّا صغيرًا مِن جيبه.
قيل إنْ هَذا الحجر يتغيّر لونه إلى الأسود عندما يستشعر طاقة شيطانيّة. وقد تم توزيعه على المرتزقة مِن قبل النقابة لتجنّب الشياطين.
“أجل، يبدو أنْ هَذا هو المكان.”
هناك أيضًا علامةٌ أخرى يمكن مِن خلالها التحقّق مِن وجود طاقةٍ شيطانيّة…
“لا حاجة للمزيد مِن التحقيق. هَذا الضباب الكثيف كافٍ.”
قال هيميل وهو يُنزل سيفه مِن على ظهره.
“عندما يموت شيطان، يترك طاقته خلفه مع ضبابٍ كثيف. ليس كلّ الشياطين كذَلك، لكنّه أمرٌ يحدث أحيانًا، ونستخدمه كمرجع.”
“واو… فهمت. شكرًا لإعلامي.”
شخصٌ لطيف على عكس انطباعي الأوّل عنه… لكنّني لَمْ أستطع أنْ أبتسم براحة.
‘اللعنة. يبدو أنّهم اكتشفوا الأمر بالفعل.’
لقد صنعتُ ثلاثين شيطانًا وهميًّا في موقع الآثار.
لكن لماذا لَمْ أُنشئ أيِّ شيطانٍ يُنتج ضبابًا؟ لو كان أحدهم ذكيًّا كفاية، فلا بدّ أنه قد ارتاب.
‘لكنهم أقاموا تمثالًا تذكاريًّا، لعلّي تجاوزتُ الأزمة على أيِّ حال…’
بينما كنتُ غارقةً في أفكاري، كان رفاقي يستعدّون.
هيميل استلّ سيفه واستعدّ للقتال، دايل ركّز قواه السحريّة، وبريدين بدأت تنثر دماء الحيوانات التي أحضرتها هنا وهناك.
“حسنًا، فلنذهب جميعًا إلى مواقعنا.”
الوحوش حسّاسة لرائحة الدم، لذا فإنَّ هَذهِ الطريقة تزيد مِن احتمالية ظهورها.
هَذا التمثيل يُشبه إلى حدٍّ ما ما فعلتُه عندما تظاهرتُ بالموت في موقع الآثار… لذا شعرتُ ببعض الاضطراب، لكنّني طردتُ أفكاري وذهبتُ إلى موقعي.
مُهمّتي اليوم هي الدعم مِن الخلف. سأُساند هيميل وبريدين في معاركهم القريبة، وأُراقب تحرّكات الوحوش الأخرى.
كان دايل في الجهة المقابلة لي.
هو أيضًا ضمن الدعم الخلفي، لكنّه ليس قويًّا، لذا فإنَّ دوره الفعلي هو التخفّي الجيّد لا أكثر.
وفيليون كان مِن المفترض أنْ يكون أمامه مباشرة…
لكنه لم يكُن هناك.
“مـ… ما هذا؟”
لقد اقترب مِن ناحيتي.
“مكانكَ هناك، أليس كذلك؟”
“لا يزال هناك وقتٌ قبل أنْ تظهر الوحوش. وأردتُ أنْ أطرح عليكِ بعض الأسئلة خلال هَذا الوقت.”
“الآن؟”
“لقد حصلتُ على إذن بريدين والسيد أيضًا.”
حتى دايل سمح له؟
‘ظننتُ أنه سيشعر بعدم الأمان إذا ابتعد فيليون عنه لأنه ضعيف.’
على أيِّ حال، طالما أنَّ بريدين وافقت أيضًا…
“ما الذي تُريد أنْ تسأل عنه؟”
ما الذي قد يودّ سؤالي عنه؟ نظرتُ إليه بتوتّرٍ خفيف، وكان هو الآخر يُحدّق بي بصمت.
وبعد برهة…
“اسمكِ. لا أظُن أنني سمعته مِن قبل.”
“…ريكس إيميل. فقط نادِني ريكس.”
“ريكس…” همس فيليون بصوتٍ لا يُسمَع.
بدى وكأنّه يُحاول استرجاع ذكريات ما، فأحسستُ بقليل من تأنيب الضمير… لكن لا يُمكنني أنْ أقول له الآن إنني “رايلي فولكس”.
ذاك الاسم هو أحد أشهر الأسماء في الإمبراطورية. وفوق ذَلك، هي شخصٌ ميّت الآن.
سيظنّونني مجنونة فورًا.
“وأنتَ؟”
“الكلب الأسود.”
“…أعني اسمكَ الحقيقي، قبل أنْ تفقد ذاكرتك.”
“لا أعلمه.”
أجاب فيليون بإيجاز.
“لكن… وجهكِ مألوفٌ لي.”
“هل تذكّرتَ شيئًا؟”
“…هل يُمكنني النظر إليكِ عن قربٍ أكثر؟”
بعد تردّد، أومأتُ برأسي، فتقدّم فيليون خطوةً نحوي.
بينما كانت عيناه تمسحان تفاصيل وجهي، كنتُ أنا الأخرى أراقبه.
إنّه فيليون إلفيرت، لا شكّ في ذَلك. رغم أنَّ الهالة والسلوك تغيّرا، إلا أنّني لَن أنسى هَذا الوجه أبدًا.
“هل… وجهكَ بخير؟”
رغم أنَّ وقتًا قد مرّ منذ أنْ ضُرب، لم أستطع تجاهل الأمر وسألتُه بقلق.
هزّ فيليون رأسه دون أن يُظهر أيَّ تعبير، لكنّ عيناه بقيتا معلّقتين عليّ، وكأنّه واقع تحت سحرٍ ما.
بدأتُ أشعر بالضغط.
“إذًا… هل تذكّرتَ شيئًا؟”
“…ليس حقًا.”
كما توقّعت. ابتسمتُ بمرارة.
ألم يُقال في القصة الأصليّة إنَّ رايلي فولكس لم تكن تعني شيئًا لفيليون إلفيرت؟ كانت مجرّد حجرٍ على الطريق بالنسبة له. ومَن يتذكّر حجرًا في الطريق؟
وفوق ذلك، ذلك الحجر انسحب مِن القصة قبل خمس سنوات.
لا تهتمّي. أدرتُ وجهي بعيدًا عنه. لا داعي لأن أُشغل نفسي به. إيريون ستتولّى الأمر.
“لكن… ريكس، أنتِ تعرفني، أليس كذلك؟”
يجب أنْ أُتظاهر بأنني لا أعرفه. يجب…
يجب أنْ أُتظاهر…
“…أجل. أعرفكَ.”
الأمر كان صعبًا للغاية.
عدتُ ونظرتُ إليه.
بالضبط، إلى وجنته اليسرى حيث صفعه دايل.
“لماذا تتّبع أوامر هَذا الرجل؟ الشخص الذي أعرفه لَمْ يكُن يومًا هَكذا.”
“لا أعلم. فقط… ما إنْ قابلتُه، شعرت بأنّه يجب أنْ أفعل ذَلك.”
وأضاف وكأنّه يتذكّر شيئًا.
“وأيضًا… شعرتُ أنّني إنْ تركته، فسأندم طوال حياتي.”
“هل هَذا… بسبب مظهره؟”
“نعم؟”
“أعني، هل كنتَ ستتبعه لو لَمْ يكُن ذو شعرٍ أحمر ويرتدي نظّارات؟”
“لا أعلم.”
كيف لا تعلم؟ هَذا هو أهم سؤال!
‘ربّما لأنّ دايل يُشبهني، ظنّ أنّه أنا.’
قد يكون نسي اسمي وشكلي، لكنّ ملامحي العامة بقيت في ذاكرته. وأيضًا… ما قاله قديمًا.
― سنعرف مع الوقت.
ربّما كان يعني بذَلك: سأتغيّر.
قد يكون ذلك العزم قد ترسّخ في عقله الباطن، ودفعه إلى اتّباع شخصٍ يُشبهني.
…وكلّ هَذهِ الافتراضات لا تُصبح منطقيةً إلا بشرطٍ واحد.
‘أنْ يكون فيليون قد أحبّني حقًا.’
اللعنة. مجرّد التفكير بذَلك يُشعرني بالقشعريرة.
كنا نتشاجر دائمًا حتى قبل أنْ أغادر برج السحر. وبعد قدوم إيريون كتلميذ، لَمْ أرَه تقريبًا طيلة ثلاثة أشهر.
لكن لتفسير ما يحدُث الآن، لا بد مِن قبول هَذا الاحتمال.
ألم أسمع أكثر من مرّة منذُ وصولي إلى هَذهِ القارّة الغربية… أنَّ فيليون كان يُحبّني؟
‘هل حقًا… أراد إنقاذي؟’
إذن، فهَذا الفتى… بسبب ما فعلتُه، أصبح مُلاحقًا.
بسبب كلماتي، أصبح عبدًا، وبسبب شبهه بي، اتّبع دايل كـ سيّد.
بل وحتى تلقّى صفعةً بالأمس!
“كيف كانت علاقتنا؟”
سألني فيليون وهو يُحدّق بي بثبات. تردّدتُ قليلًا، ثمّ…
“لم نكُن مقرّبَين. فقط كنّا نعرف بعضنا مِن بعيد، نوعًا ما.”
تهرّبتُ مِن الإجابة في النهاية. ما الفائدة إنْ كان قد أحبّني؟
هو لا يتذكّرني أصلًا.
“إذًا، الشخص الذي تعرفينه أنتِ، كيف كان؟”
لكن… لكن، رغم كلّ ذَلك…
أليس مِن الأفضل مساعدته قليلًا؟
أنا لستُ بريئةً تمامًا مِما حصل له.
“أخبرني، أرجوك.”
حسنًا، سأساعده.
بمُجرّد أن اتّخذت قراري، بحثتُ داخل جيب معطفي.
وفي النهاية، أخرجتُ شيئًا.
“هَذا… أنت.”
كانت ورقةٌ مطويّة، وهي منشور مطلوبٍ بخصوصه.
“فيليون إلفيرت.”
***
أضاق الكلب الأسود عينيه تلقائيًا.
‘هَذا أنا؟’
ذقنٌ حادّ كالرفش، عيونٌ مائلة للأسفل كعلامة الفاصلة، ولا يوجد أيُّ شبهٍ بينه وبين الصورة سوى لون الشعر الأسود.
“قد يبدو غريبًا، لكنّه أنتَ حقًا.”
حينها فكّر الكلب الأسود.
‘محتالة.’
وكان ذَلك في اللحظة التي جعّد فيها المنشور قليلًا بين يديه.
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 7"