“أنا أُريد أن أضعه كلّ يوم، لكن يبدو أنّه يجب أن أنزعه عندما أُقاتل. لو فُقِد سيكون الأمر فظيعًا.”
“…….”
“آه، أم أنّه يكفي أن أضعه دائمًا؟ رايلي ستختار لي واحدًا جديدًا على أيّ حال. ذلك أيضًا قد يكون جيّدًا…….”
“هل هذا كلامٌ تُلقيهِ أمامي الآن؟”
ضربَ الجد مُنضدة الطاولة وقد ضاق صدره.
“هل تعرف ما الذي سمعتهُ للتوّ من تلك المرأة!”
“……ذهبتَ إلى رايلي؟”
“صادفتُها صدفة! اقسم ما رأيتُ في حياتي امرأةً أكثر وقاحةً منها!”
أخبرَ ديلاريك كلّ ما جرى بينه وبينها.
بسرعةٍ تفوق بكثيرٍ ما قاله فيليون قبل قليل، وهو يصف ملامحها وتصرفاتها واحدًا تلو الآخر بوضوحٍ شديد.
“يا ويلي، يا جدّي…….”
وكان ردّ فيليون:
“يبدو أنّ رايلي تُحبّني حقًّا.”
“وهل هذا هو المهم الآن!؟”
“هذا هو الأهم دائمًا. لا يوجد وقتٌ يكون فيه غير مهم.”
“ألم أقُل إنّها صرخت في وجهي؟!”
“أنت بدأتَ أولًا، أليس كذلك؟”
“هاه، الآن هذا…….”
“إذا بدأتَ، فعليك أن تتوقّع أن تتلقّى ردًّا أيضًا.”
عجز ديلاريك عن الردّ مرّةً أخرى.
……لماذا أشعر بأنني أخسر كثيرًا اليوم؟
“هاه……. لماذا هي بالذات؟”
“لأنها رايلي. هل يحتاج الأمر إلى سببٍ آخر؟”
فقد الجد القدرة على الردّ من جديد.
لقد وقع، ووقع بعمقٍّ أيضًا.
“رايلي مميّزة. كانت مميّزةً منذ أوّل لحظةٍ رأيتها فيها.”
“……مهما فعلت بكً تلك الفتاة.”
“هي من اقتربت منّي أولًا وقالت إنها تريد أن تصبح قريبةً منّي.”
تفاجأ دلاريك قليلًا، فهو يسمع هذا لأوّل مرة.
ولم يكن أمرًا يمكن اعتباره بسيطًا أو تافهًا.
ففي ذلك الوقت، كان ديلاريك وفولكس……
“لابد أنّها سمعت كلّ تلك الشائعات السيّئة عنّي، لكنّها جاءت وهي تبتسم. ألا تعتقد أنّها شجاعة؟”
“…….”
“تضايقتُ في البداية، وظننته احتقارًا. لكن عندما أفكر الآن، أظن أنّها كانت ترتجف من الداخل.”
تذكر ديلاريك صورة رايلي في طفولتها.
تخيّل طفلةً صغيرة ترتجف قليلًا وهي تمدّ يدها نحو فيليون.
“لا تصرخ على رايلي مجددًا.”
قال فيليون بنبرةٍ جادّة.
“لا تجرح الآخرين بذريعة أنّك تفعل ذلك ‘لأجلي’. خصوصًا إن كان الأمر يخصّ رايلي، فلن أستطيع أن أحبّك كما كنت أفعل.”
“…….”
“أنا أتجاهل شتائمك لأنني أعرف أنّكَ تُحبّني مهما قلتَ، لكن رايلي ليست مثلي.”
“…….”
“حتى لو لم تُظهر ذلك، فهي تتأذّى كثيرًا.”
لم يكن في وجهه أي أثرٍ للمرح أو المزاح، وهذا ذكّر الجد بالدوق ألفيرت القديم.
ذلك الدوق المتعجرف الذي جثا على ركبتيه أمامه متوسّلًا السماح له بالزواج من ابنته.
وبالرغم من أنّ زواجهما انتهى بالانهيار…… إلا أنّه لم يبقَ ذكرى سيّئةً فقط.
لأنّ حبّه الحقيقي لابنته كان واضحًا في ذلك الحين.
‘إذن، فيليون أصبح أخيرًا في مثل عمر ذلك الرجل.’
بعد إدراكه ذلك، بدا فيليون اليوم ناضجًا بشكلٍّ غير معتاد.
وفي الوقت نفسه، تذكّر حديثه الأخير مع ابنته قبل سفره.
― “إن قال فيليون إنه يُريد البقاء هناك، فلا تُعيده يا أبي.”
― “ألا تقلقين عليه؟”
― “وكيف لا أقلق؟ إنّه ابني.”
قالت ابنته، ميرايل، بوجهٍ يحمل مرارةً طويلة.
― “هل تتذكّر عندما تطلّقتُ؟ عندما كنتُ في أسوأ حالاتي؟”
― “يا ابنتي، في ذلك الوقت……”
― “كنتُ حينها…… أريد فيليون أن يكون منحازًا لي بالكامل. تمسّكتُ به طوال اليوم وأنا أذمّ والده. بل صرختُ عليه لأني لا أريد أن يشبه أباه.”
― “……”
― “لا زلتُ أندم كثيرًا. ما كان يجب أن أفعل ذلك……. مهما كرهتُ ذلك الرجل، فهو يبقى والد فيليون.”
وتذكّر ديلاريك فيليون في ذلك الوقت أيضًا.
لم يكن يخرج منه سوى:
ماذا تريد؟ ماذا الآن؟
وكان حديثه شبه مستحيل.
ولم يكن يعصي أمّه، لكن هناك جدارٌ بينهما، وكانت ميرايل تشعر بخيبة أمل منه.
― “قبل فترة، اعتذرت له عن ذلك. كتبتُ له رسالة. قلتُ إنني آسفة لأني جرحتُه حينها.”
― “……”
― “فكّرتُ في أن أذهب إلى القارّة الشرقية بنفسي، لكني لم أملك الشجاعة لرؤيته وجهًا لوجه، فلم أستطع سوى كتابة رسالة. أتدري ماذا ردّ عليّ؟”
― “……ماذا؟”
― “قال إنه لا يتذكّر شيئًا. لا كلامي ولا كلام خالاته. وقال إنّه لا داعي للاعتذار عن أمرٍ تافهٍ كهذا، وطلب مني أن أنساه أنا أيضًا.”
ابتسمت ابنته وسط دموعها.
― “يا أبي، فيليون سعيدٌ هناك. وإلّا فكيف تجاوز تلك الجروح بهذه السهولة؟”
― “وهو أكثر نضجًا منّي بكثير. سأثق بقراراته وأدعمه.”
― “من فضلك، دعه يفعل ما يريد.”
غاص ديلاريك في مشاعره وهو ينظر إلى فيليون.
هكذا إذن.
لقد كبِر حقًّا.
‘لقد أصبح في عمرٍ لا يحتاج أن أقلق عليه بعد الآن.’
تنهد ديلاريك مطولًا ثم قال:
“أقيما حفل الزفاف في القارّة الغربية.”
“لا أُريد.”
توقّف الجد عن التنفّس لحظة.
هذا الفتى حقًّا……
“رايلي ما زالت غير معتادةٍ على مثل هذه الأماكن. صحيح أنها تذهب إلى الكثير من الحفلات بفضل زعيم النقابة، لكنها تتضايق كثيرًا.”
“يبدو أنّ الكونت فولكس لم يُعلّمها الأساسيات.”
“الأمر ليس كذلك، هي فقط لا تُحب الأماكن المزدحمة. كانت دائمًا وحدها في برج السحر. لذا عندما تتحسّن حالتها أكثر، سأفكّر في الأمر. أريد أن يكون الحفل في مكان تُحبه، ومع أشخاص تُحبّهم.”
نظر فيليون إلى جدّه وهو يعبث بخاتمه.
“لذا، جدّي…… تصرّف جيدًا.”
“ماذا تعني؟”
“مع رايلي. ألا تُريد الحضور في حفل زفافي؟”
“أتريدني أن أخشى فولكس؟”
“إن لم ترد، فلا تأتِ.”
ثم عاد فيليون إلى التحديق في خاتمه وهو يُدندن بسرور.
أما ديلاريك فأطلق تنهيدةً جديدة، لا يعلم كم مرّة كرّرها اليوم.
***
كانت بريجيت ليفان تتنقّل في الشوارع براحةٍ تامّة.
‘القارّة الشرقية ليست سيّئة~ ربما أبقى هنا. لكن لا أريد أن أصادف ذلك الوغد.’
فكّرت في التقديم لبرنامج الدراسة، لكنها تراجعت لأنها لا تُحب الدراسة.
وقبل أن تهرب من المكان بلا هدف، صادفت رايلي أمام مدخل نقابة السحرة.
“أوه؟ رايلي!”
“بريجيت؟”
“تمامًا! كنتُ أشعر بالملل! هل لديكِ وقت؟ أتلعبين معي قليلًا؟”
“أه؟ آه، لديّ بعض الوقت…….”
كانت علاقتهما في برج السحر شبه معدومة، لكن بريجيت لم تهتم.
فهي من النوع الذي يستطيع مصادقة مئة شخصٍ لو اجتمعوا أمامها.
“رائع! لنبدأ من متجر الملابس…….”
وكان التسوق مع رايلي فولكس ممتعًا أكثر مِما توقعت.
“هذا الثوب يجعل وجهكِ يبدو أكبر.”
“أوه، تقييمكِ قاسٍ جدًا.”
“إن كان غير مريح، فلا خيار…… إذن، سأذهب الآن…….”
“لهذا السبب أعجبني أكثر! انتظري! سأجرب شيئًا آخر!”
كانت رايلي تحاول الفكاك بقسوةٍ بالغة، لكن بريجيت أعجبها ذلك لأنها كانت تقول الحقيقة على الأقل.
“هذا…… جيدٌ نوعًا ما.”
“يا إلهي، رايلي! هل كنّا توأمًا في حياة سابقة؟!”
“……تعنين أننا فكّرنا بالطريقة نفسها؟”
وعندما يئست رايلي من الهرب، أخذت تختار الملابس والمجوهرات لها بكلّ إخلاص.
وبعد انتهاء التسوق، جلستا في مقهى قريب مِن النقابة.
لمّا كانت بريجيت ثرثرة كعادتها، لامست برفق أطراف أصابع رايلي.
“هل هذا من فيليون؟”
أومأت رايلي بخجل وقد احمرّ وجهها.
“يا إلهي! دعيني أرى! يا إلهي، ما هذا الحجر الضخم؟ ألا يسقط من ثقله؟”
“لذا قلتُ إنّه غير مريح وأردتُ تغييره…….”
“هل جننتِ؟ حتى لو كان غير مريحٍ يجب أن ترتدينه! لو كنتُ مكانكِ؟ كنتُ ألصقه على جبيني!”
ضحكت رايلي وهي تتخيل بريجيت تمشي بخاتمٍ في جبينها.
“غريب. لقد كنتما تكرهان بعضكما كثيرًا.”
“وأنا أجد الأمر غريبًا أيضًا.”
“بصراحة، كنتُ أظن أن فيليون سيموت وحيدًا. شخصيته… فوق الاحتمال. حتى أنا لا أستطيع تحمّله أحيانًا…….”
“عن ماذا تتحدّثان؟”
ظهر ظلٌ أسود بينهما.
كان فيليون يبتسم وهو يقول:
“هل تغتاباني؟”
أطبقت بريجيت فمها بسرعة. فقد كان جوابها نعم.
لكن على عكسها، انفرج وجه رايلي بابتسامةٍ كاملة.
“ماذا؟ كنتَ تتنصّت ثم أتيت؟”
“ماذا قالت عني؟”
“قالت إنّكَ مُزعج.”
شهقت بريجيت، فهي متأكدة أنه سيغضب.
ففيليون سيّئ الطِباع جدًا ولن يتقبّل كلمة “مزعج”.
لكنّه لم يغضب.
بل جلس ملاصقًا لرايلي وهو يتذمّر:
“هذا قاسٍ جدًا. لكنني تغيّرتُ في الفترة الأخيرة، أليس كذلك؟”
“ألا تتذكّر عندما سمعكَ لوبوس وأنت تغتابه؟”
“كان هو المخطئ. وهل يُعاقَب المرء لأنه وُلد بوجهٍ جميل؟”
“هذا صحيحٌ نوعًا ما.”
‘هل أنا مستبعدةٌ فجأة؟’
شعرت بريجيت بذلك، لكن فضولها كان أقوى من انزعاجها.
فمشهد انسجامهما كان غريبًا جدًا عليها… لكن مُمتعًا للنظر.
ثم تنبّهت رايلي فجأةً لوجودها.
ورأت على وجهها ما تفكّر به.
“اه…… أعلم أنّ الأمر كان غريبًا عليّ أيضًا في البداية…… لذا…….”
“تغلبتِ عليه بالحب.”
“أه، أممم…… ربّما.”
أن تسمع كلمة “حب” تخرج من فم فيليون ……
‘يا إلهي.’
كادت بريجيت تغسل أذنيها.
وقبل أن ترى ما هو أسوأ، نهضت.
“سأذهب الآن. لديّ عشاءٌ مع الكونت.”
“هل ستكونين بخير؟ أظنّ أنه منزعجٌ جدًا.”
“هل حالته أسوأ من حالتي؟ خُطِيبي خانني.”
فكّر فيليون قليلًا ثم هزّ رأسه.
“لا أظن.”
“إذن ممتاز. سيحسب ألف حساب لردّة فعلي.”
السبب الحقيقي لقدومها إلى هنا مع ديلاريك الكونت كان واضحًا.
فهي لا تطيق العيش في المكان نفسه مع ذلك الرجل.
“أتيتُ فقط لأتنفس الهواء هنا. كنتُ سأجنّ من الاكتئاب، والكونت عرض عليّ رحلةً مجانية.”
صحيح أنه ألمح إلى احتمال عودتها لفيليون، لكن لم يكن لديها أي نيةٍ لذلك.
فقد مرّت عشر سنواتٍ لم ترَ فيها وجهه أصلًا.
وبينما هناك من يظل يحبّ لسنواتٍ طويلة، كانت بريجيت ترى هؤلاء أناسًا حالمين أكثر من اللازم.
فمن الأفضل إيجاد حبٍّ جديد.
“لا أشعر تجاهكَ بأي شيء بعد الآن، فيليون، لذا توقّف عن رمقي بتلك النظرات.”
“إذًا خدعتِ الجدّ؟”
“هو المخطئ. من الوقاحة أن تتحدث عن خطبةٍ جديدة أمام شخصٍ بكى بسبب تعرضه للخيانة من خطيبه. استحقّ ما حصل له، لا مفرّ.”
التعليقات لهذا الفصل " 135"