بدا أنّه زار ذلك المنزل بضع مرّاتٍ إضافيّة، لكنّني لم أُعقّب ولم أسأله. حتى حين تحدّثنا عن حفل التنصيب لم يذكرهم.
فإنْ كان فيليون يملك ذرّةً من الفِطنة فلن يُحضِرهم أمامي.
‘لا أريد أن ألتقي بهم.’
ذلك كان التفكير الوحيد الذي راودني بعد أن رتّبتُ مشاعري بصعوبةٍ في ذلك اليوم.
لم أعُدْ أريد رؤيتهم بعد الآن.
‘فلأنسَ الأمر. لقد عشتُ حتى الآن بخيرٍ من دون عائلة.’
لكنّ هذا لا يعني أنّني ألقيت اللوم على فيليون.
فَـ هم في النهاية من دمي، وكان لا بدّ أن نلتقي مرّة في الحياة على الأقل.
بل ربّما كان من الأفضل أنّنا التقينا الآن. إذ ليس في حياتي اليوم ما يُعَدّ مشكلةً حقيقيّة سوى تلك القضيّة.
ماذا؟ شؤون برج السحر؟ تلك لا تُعَدّ مشكلةً أصلًا. فالسحرة هناك يساعدونني بإخلاص.
لكنّ مسألة العائلة كان عليّ أن أُرتّبها وحدي. فالموضوع يخصّ قلبي أنا.
‘بل ربّما الانشغال المستمرّ أفضل.’
هكذا قرّرتُ أن أنسى أمرهم.
ولم يكن قرارًا صعبًا. فقد كان أمامي من العمل ما يكفي، كما قلت.
“أريد أن يتّخذ البرج الجديد صورة مؤسّسةٍ تعليميّة. أشبه بجامعةٍ تبحث في علوم السحر.”
“إذن فلن يختلف كثيرًا عن السابق، أليس كذلك؟”
“صحيح. لكن أريد له أن يتّخذ هيكلًا أكمل كمؤسّسة تعليمية. أن يقدّم منحًا دراسيّة، وأن يكون انتقاء الأساتذة أكثر دقّة. أمّا اختيار المتدرّبين فسوف يُجرى بالامتحان والمقابلة لا بالتوصيات.”
“وماذا عن القيّمين على الكتاب المحرّم؟”
“سيتحوّلون إلى مُنفّذين، مهمّتهم معاقبة السحرة الذين يخالفون قوانين البرج. وبما أنّ الكتاب المحرّم اختفى فلا بدّ من تعديل القوانين أيضًا. كم عدد الشيوخ المطلوب لمثل هذا التعديل؟”
“نحتاج إلى موافقة عشرة.”
“إذن علينا التفكير بكيفيّة ملء مقاعد الشيوخ أيضًا.”
“هاه، لا نهاية لهذه الأعمال. عقبةٌ خلف عقبة.”
وحين كانت الاجتماعات تمتدّ، يحلّ وقت العشاء، ثمّ أعود بعده إلى كومةٍ من الأوراق لأفرغ منها.
إلى أن بدأ عبء العمل يخفّ تدريجيًا.
ففي الصيف صار لديّ متّسعٌ لأنهي مهامي باكرًا وأزور العاصمة.
‘سألتقي إيريون بعد طول غياب، وأخرج للعشاء مع فيليون.’
جلستُ على مقعد في زاويةٍ من ردهة نقابة المرتزقة أترقّب مرور الوقت.
ففي هذه الأيّام كان فيليون يعمل ضمن النقابة. أمّا إيريون فكانت مشغولةً بترتيب نظامها الداخلي، لذلك تولّى فيليون مهمّة القضاء على الشياطين بدلًا عنها.
‘يبدو أنّنا لم نقضِ معًا وقتًا كافيًا. هذه العطلة سأرتاح فيها كلّها.’
وبينما كنتُ أرسم في ذهني خطط العطلة، ظهر في إحدى زوايا الرّدهة نحو عشرة أطفال.
لم يبدُ أنّهم جاءوا في زيارةٍ مدرسيّة، وبما أنّ الموظّفين لم يمنعوهم فالظاهر أنّهم أبناء العاملين في النقابة. ربّما سمحت لهم إيريون بالتجوّل.
‘حقًّا، بعد أن دمّر نيفن أجزاء كثيرة من المدينة، فالبقاء في النقابة أكثر أمانًا.’
ولمّا لم يكن لديّ عمل آخر، بدأتُ أراقبهم بهدوء. كانوا صغارًا، في سنّ المرحلة الابتدائيّة أو أصغر، حتى أطفال كرياض الأطفال.
ثمّ لم يلبثوا أن لمحوني.
وفجأة هرعوا جميعًا إليّ.
تقدّم الطفل الأول وسأل بعينين متسعتين.
“هل أنتِ حقًّا رايلي فولكس؟”
لا بدّ أنّ أحد الموظفين أخبرهم لتوّه.
أومأتُ برأسي ببطء، فإذا بهم يصرخون معًا بدهشة: وااه!
“أنتِ لا تُشبهين التمثال أبدًا!”
“لماذا أزلتِه؟ كان رائعًا!”
“وهذا بجانبكِ ما هو؟ يؤكل؟”
“آه، ذاك…”
وأدركتُ متأخّرةً أنّني لا أُجيد التحدّث مع الأطفال.
فبرج السحر لم يكن فيه صغارٌ هكذا. وحتى في أيّام المرتزقة لم أصادفهم.
“أرينا سحرًا! أرينا سحرًا!”
فلم يكن عندي أيُّ حكمةٍ للتصرّف في الموقف. نظرتُ حولي أبحث عمّن يعينني.
“آه! فيليون!”
ولحسن الحظ، جاءني المنقذ.
ركض الأطفال نحوه فورًا، وتمسّكوا به وكأنّهم يلتقون أبًا لهم.
حتى إنّه حمل أصغرهم بذراعَيه مبتسمًا. منظرٌ جعله يبدو فعلًا كأب.
“شعبيّتك عالية…”
“فيليون يلعب معنا كل أسبوع.”
حينها فقط لاحظتُ صبيًّا واحدًا بقي إلى جانبي. أدرك نظرتي فانحنى بأدب تحيّةً لي. لكنّ عينيه ظلّتا معلّقتين على الصندوق أمامي.
فتحتُه وقدّمتُ له قطعة بسكويت.
“شكرًا جزيلاً!”
كما توقّعت. كان هذا ما يريده.
“إنّها من مخبز الحيّ الثالث، أليس كذلك؟”
“آه… نعم. لكن كيف عرفتَ من أول قضمة؟”
“فيليون اشترى لي منها الأسبوع الماضي.”
إذن فقد كان يرعى الأطفال هنا أيضًا. تذكّرت أنّه قال إنّ لديه كثيرًا من أبناء العمومة، لذلك هو معتاد على الصغار.
“ألن تذهب أنتَ أيضًا؟”
“هممم، اليوم لدى فيليون يدان فارغتان.”
“…أنتَ تحبّ الأكل كثيرًا، أليس كذلك؟”
“بل أوفّر. إن ركضتُ إلى هناك دون تعويضٍ للسعرات فسوف يفرغ بطني فقط.”
“آه… ذكيّ.”
“اسمع هذا كثيرًا.”
كلماته جعلتني أبتسم بلا وعيّ. طفلٌ لطيف فعلًا.
“أنا رايلي فولكس. وأنتَ؟”
“لويد دوسون.”
مدّ يده بوقار، فصافحته.
“هل ستأتين غدًا أيضًا يا فولكس؟”
“لا أعلم… ولماذا تسأل؟”
“إن كنتِ ستأتين، أودّ أن نتابع حديثنا.”
“وإن لم أتي؟”
“كذلك. فالكلام أيضًا يستهلك سعراتٍ حراريّة.”
“إذن… يبدو أنّك تحبّ التوفير فعلًا.”
“الوضع الراهن كما ترين. علينا أن نوفر.”
“اسمح لي… كم عمرك؟”
“تسع سنوات!”
يا إلهي… تسع سنوات ويستخدم كلمات مثل ‘الوضع الراهن’.
“أبي قال إنّه علينا أن نتعوّد على التوفير، فقد تنقطع المؤن بسبب نيفن في أيّ وقت.”
“لكن نيفن انتهى أمره الآن.”
“صحيح، لكن عودة التجّار تحتاج وقتًا. فلا مجال للتبذير. على كلّ حال، هذا قراري أنا!”
“ذكيٌّ فعلًا…”
“أسمع هذا كثيرًا.”
ضحكتُ وأنا أفتح الصندوق من جديد.
“خذ، مكافأةً على درسك.”
لم يرفض لويد البسكويت بل التهمه فورًا. كانت شفتاه الصغيرتان وهما تمضغان لطيفتَين للغاية.
ثمّ هممتُ أن أسأله أكثر عن فيليون هنا، لكنّ صوتًا دوّى:
“لويد!”
فرفعنا رأسينا أنا وهو معًا.
هناك على السلّم البعيد ظهر رجلٌ ضخم الجسد.
“أبي!”
كان رجلاً شَعرُه أشعثٌ ذهبيّ، أعرف وجهه. كما أنّه تعرّف إليّ.
“رايلي فولكس؟”
أيعقل أن تكون الوظيفة التي لم يخسرها الابن الأكبر هي هذه؟
“آه، أنا أعمل هنا. لستُ مرتزقًا بل في الإدارة.”
“…..”
“كنتُ في الماضي مرتزقًا، لكنني أصبتُ في ساقي.”
“هل تعرفان بعضكما؟”
نعرف بعضنا…
لو لم يتم بيعي، لربّما كنتُ أناديه ‘أخي’ الآن.
“فولكس؟”
“آه، لا. لا شيء.”
لم أرد أن أخوض في ذلك. أمسكتُ بالصندوق ونهضت.
“إلى اللقاء يا لويد. كان الحديث ممتعًا.”
وعندما التفتّ، لمحتُ فيليون يراقبني. أما الأطفال الآخرون فقد اختفوا. خطوتُ نحوه، لكن…
“لحظة.”
قبض والد لويد على ذراعي.
“هل… تتحدثين معي قليلًا؟”
***
سرتُ معه إلى الساحة الخلفية للنقابة.
بصراحة لم أرغب في الحديث، لكنّ عيني لويد كانتا تُثقلان عليّ. لم أرد أن أُحرجه أمام أبيه.
“اسمي غايل. غايل دوسون.”
“…رايلي.”
تبادلنا مصافحةً خفيفة، ثمّ وقفنا جنبًا إلى جنب مستندَين إلى جدارٍ المبنى.
كان الوقت متأخّرًا، لذلك بدت الساحة ساكنة جدًّا.
سادت أجواء غاية في الحرج.
“أنا أكبر منكِ بعشر سنوات. تكلّمي معي ببساطة. هذا يريحني أيضًا.”
“…حسنًا.”
سقط الصمت من جديد.
أخرج غايل سيجارةً بعادةٍ مألوفة، ثم أعادها إلى جيبه.
أطلقتُ نقرة لسان صغيرة خيبةً، فقد كنتُ أنوي التذرّع بكراهية الدخان للانسحاب.
ومضى الوقت ونحن صامتان حتى قال فجأة:
“أمّكِ بكت حين رحلتِ.”
تشنّج وجهي.
“وما شأني؟ أنا أيضًا بكيت.”
“حقًّا؟”
“ولِمَ هذه النظرة المستغربة؟ هل كنتَ تعرفني أصلًا؟”
“عندما رحلتِ كان وجهكِ باردًا جدًّا. حسبتُك لم تتأثّري أبدًا.”
“أيُّ أحدٍ سيبكي لو علم أنّ عائلته تعيش معًا بدونه. حتى أشدّ الناس قسوة.”
“…صحيح.”
“ثمّ سمعتُ أنّكم كنتم ستّةً من غيري.”
أطرق غايل رأسه وأومأ. أجل، كنّا ستّة… لكن:
“الثاني والثالث ماتا.”
قبضتُ على طرف ردائي حتى لا أرتعش.
“…متى؟”
“الثاني مات بعد رحيلكِ بفترةٍ قصيرة. كان مريضًا. والثالث بعده بثلاث سنواتٍ تقريبًا. مات بالطاعون.”
“…..”
“أما الرابعة فتزوّجت ولحقت بزوجها إلى الغرب. والخامس لحق بهم لأن زوج أختنا وفّر له عملًا.”
“أيُّ عمل؟”
“بناء البيوت. كان هناك زلزالٌ كبير في الغرب، فذهبوا بحثًا عن العمل ثم استقرّوا هناك.”
“…..”
“أوه، وأضيف أنّ أبي أيضًا مات. في زمنٍ قريب من موت الثالث. بالطاعون نفسه.”
إنْ كان ذلك زمن الوباء الذي ضرب العاصمة، فهذا منذ زمن بعيد.
معناه أنّ نيريسا ربّت ثلاثة أولادٍ وحدها طويلًا من دون زوج.
…لا بدّ أنّ الأمر كان شاقًا جدًا عليها.
“أتدرين ما كانت وصيّة أبي؟”
“كيف لي أن أعرف؟ لم أرَه قطّ.”
“إن أردتِ أن تعرفي فانظري في المرآة. شبهُه بكِ كبيرٌ جدًا.”
“لا رغبة لي.”
أدرتُ وجهي بعيدًا. خطأ أنني جئتُ إلى هنا. كلّما نظرتُ في المرآة الآن سيعتريني قلقٌ فارغ.
لكن غايل لم يكفّ عن الابتسام.
“قال: لا تتركوا العاصمة.”
اضطررتُ إلى النظر إليه.
“ماذا تعني؟”
“كانت وصيّته. لا تغادروا العاصمة. هذا كلّ شيء.”
أطرق برهة إلى الأرض ثم واصل:
“كي تصلَه أخباركِ.”
“…..”
“لقد بحث عنكِ طويلًا.”
“هاه، باعني بالمال ثمّ يبحث؟”
“لم ينفق فلسًا واحدًا. ردّ المال كلّه.”
تجمّدتُ.
“…ردّه؟”
“نعم. صحيح أنّ والديْنا سلّماكِ للكونت. صدّقا أنّه سيمنحكِ حياةً أفضل. والكونت أعطى مالًا وقال: اشتَروا للطفلة طعامًا. كنتِ وقتها هزيلةً، أذكر ذلك. لكن والديْنا لم يستطيعا استخدامه. أخذانا إلى السوق ومعهما المال، لكنّهما لم يُقدما على صرفه. كنتُ شاهدًا. ثمّ عادا مباشرة إلى الكونت وأعادا المال. قالا له: لا نستطيع أن نقبل، فهذا يجعلنا نشعر وكأننا بعنا ابنتنا. ثم توسّلا إليه أن يعيدكِ.”
“…..”
“فابتسم الكونت وقال: حسنًا. وأخذ المال، ووعد بأنَّ يُرجعكِ ما إن تنتهي من العلاج.”
ابتسم غايل بمرارةٍ وهو ينظر إليّ.
“وأبي ظلّ يصدّق ذلك الوعد حتى لحظة وفاته.”
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
حسابي ✿《انستا: fofolata1 》
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 127"