الفصل 126 :
لَمْ أكُنْ أتذكّر بدقّة متى أدركتُ أنّني قد تجسدتُ في هذا الجسد.
فقط، عشتُ حياتي على هذا النحو، ثمّ تبيّن لي الأمر شيئًا فَشيئًا. كنتُ أستنتج أنّه تجسيد عبر المعلومات الخارجيّة التي كان يخبرني بها الكونت فولكس.
لم يكُن لديّ أيُّ ذكرياتٍ عن العائلة.
سألتُ الكونت فولكس مرّةً عمّا إذا كان يعرف شيئًا عن والديّ. فأجابني بسرور.
يومًا قال إنّني من فرعٍ بعيد من عائلة فولكس. ويومًا آخر قال إنّني ابنةٌ غير شرعيّة لأحد الأقارب. ويومًا قال إنّه وجَدني مُشرّدةً.
كانت لهجته توحي بأنّه يسخر منّي، لكن لم يكُن لديّ وسيلةٌ أخرى لمعرفة الحقيقة، فاخترتُ أن أقبل بكلّ ما قاله. كلّ كلمة.
“والداكِ تخلّيا عنكِ.”
لذلك تخلّيتُ أنا أيضًا عن أيِّ تعلّق بالعائلة.
حتى مجرّد التساؤل: مَن يكونان؟ لم يخطر ببالي قطّ.
‘لكن أن ألتقيهما هكذا الآن.’
حدّقتُ في ظهر نيريسا وهي تغلي الماء الساخن.
منذ لحظة دخولي بقيتْ على هذا الحال، متذرّعةً بالشاي لتُدير ظهرها. ربّما ارتبكتْ بسبب ظهوري المفاجئ…… لكن بصراحة، لم يَبْدُ الأمر لطيفًا.
‘ربّما لم تكن تُريد لقائي.’
لهذا السبب جئتُ فجأةً اليوم. لو علمتْ أنّني في الجوار، لربّما هربت إلى مكان آخر.
وأنا أفكّر هكذا، بدأت المشاعر الصاخبة في داخلي تهدأ قليلًا. وأصبحت لديّ فسحةٌ لأنظر حول المنزل.
بالفعل، لم يكُن منزلاً يُقال إنّه جيّد الحال.
الأواني بدت قديمة، والسقف كان يحمل آثار ترميم في أماكن متعدّدة.
ولذلك، بدتْ تلك الإبريق الفاخر للشاي شيئًا غريبًا في هذا المكان.
وضعت نيريسا فنجان الشاي أمامي وقالت:
“البيت…… فوضويّ، أليس كذلك؟ آسفة. لو كنتُ أعلم أنّكِ ستأتين، لكنتُ رتّبتُه جيّدًا، لكن في الآونة الأخيرة كنتُ مشغولةً جدًّا.”
انتشرت في الغرفة أجواء دافئة. والرائحة التي تصاعدت بخفوت…… كانت بلا شكّ نوع الشاي الذي أحبّه.
‘لابدّ أنّ فيليون أعطاها إيّاه.’
فهو الذي كان يُلحّ عليها مرارًا أن تراني، وربّما قدّم لها بعض الأشياء. خطر ببالي مظهره المهذّب أمام نيريسا، فارتسمت على وجهي ابتسامة.
لكن نيريسا، الجالسة أمامي، ما زالت متوتّرة.
حوّلتُ بصري عن كتفيها المرتجفين قليلًا، وقلتُ:
“يبدو أنّكِ كنتِ تعيشين في العاصمة طوال الوقت.”
كان صوتي هادئًا على نحوٍ أدهشني أنا نفسي. فأومأت نيريسا برأسها.
“آه، نعم. لقد عشتُ هنا طويلًا.”
“ألم تَفِرّي؟ ألم يكن نيفن يعيثُ فسادًا بالقرب من هنا؟”
“لم يكن…… لم يكن لدي مكانٌ آخر أذهب إليه. وفي العاصمة توجد وظائف كثيرة…….”
“أيُّ عمل كنتِ تقومين به؟”
“كنتُ أعمل سابقًا في شركةٍ تجاريّة. كنتُ أسجّل البضائع الواردة وأحسب الحسابات.”
“كنتِ تعملين سابقًا…… هذا يعني.”
“المدينة التي كان فيها مقرّ تلك الشركة كانت واحدةً من المدن التي دمّرها نيفن. لذلك الآن…… من المخجل أن أقول، لكن ليس لديّ عمل. ما زلتُ أبحث…….”
“…….”
“لكن ليس الأمر سهلًا بعد، فالمدينة لم يُعَد إعمارها بالكامل. مع ذلك، أظنّ أنّني سأجد قريبًا. البارحة حصلتُ على ردّ إيجابي من مكان ما.”
ابتسمت نيريسا وهي تنظر إليّ.
“هذا بفضلكِ. كلّ الناس في العاصمة ممتنّون لكِ.”
“…… لا، ليس إلى هذا الحدّ.”
“بالطبع بفضلكِ. لو لم تكوني موجودة، لكانت العاصمة كلّها قد انهارت. شكرًا لكِ حقًّا، رايلي.”
كان ابتسامها مشرقًا إلى حدٍّ مؤلم للنظر.
يقولون إنّه لا يمكن سبّ الوجه الباسم. شعرتُ وكأنَّ حدّة مشاعري تتآكل.
قبل لحظات فقط كنتُ ممتلئةً بالغيظ منها. عجيب، أليس كذلك؟
“وبينما كنتِ بلا عمل، كيف عشتِ؟”
“كنتُ أعيش عبر المعونات التي تقدّمها الإمبراطوريّة. لقد كان من حسن الحظّ أنّ جلالة الإمبراطور الجديد يعتني بمعيشة الناس.”
ويبدو أنّ نيريسا لاحظت أنّ حالتي تغيّرت قليلًا. فتابعت تتحدّث بصوتٍ أكثر إشراقًا.
أخبرتني أنّ سكّان العاصمة استعادوا حيويّتهم، وأنَّ الجيران جميعًا لا يتحدّثون إلّا بإيجابيّة.
كانت تلك أمورًا بسيطة في حياتهم اليوميّة، لكنّي سررتُ بسماعها، وظللتُ أهزّ رأسي. بدا أنّها ليست إنسانةً سيّئة، فشعرتُ براحة غريبة.
واستمرّ حديثنا طويلًا.
“وأيضًا، إبني الأكبر لم يفقد عمله…….”
فجأةً شهقت نيريسا وأطبقت كفّها على فمها.
لم أستطع إلّا أن أبتسم بمرارة. إبني الأكبر…… إذًا.
“…… يبدو أنّه كان لديكِ أبناء غيري.”
“أجل…….”
“كم عددهم؟”
“خمسة…….”
خفضت نيريسا بصرها كأنّها مذنبة وقالت:
“أنتِ كنتِ الصغرى.”
“…… وهل كنتم تعيشون جميعًا في هذا المنزل طوال الوقت؟”
“نعم…….”
عضضتُ على داخل شفتي برفق.
“لماذا تخلّيتم عنّي؟”
“رايلي.”
“تقولين إنّ لديكِ خمسة أبناء آخرين. فلماذا أنا…….”
“رايلي.”
مدّت يدها لتقبض على يدي الموضوعة فوق الطاولة.
وبالطبع، أبعدتُها.
“فقط قولي الحقيقة. بتفصيل.”
“آه، نعم. آسفة.”
أنزلت يديها أسفل الطاولة، ثمّ قالت بصوتٍ بطيء:
“لقد كنتِ ضعيفةً منذ ولادتكِ. استشرنا أطبّاء كثر، وكلّهم قالوا إنّكِ لن تتجاوزي الثالثة.”
“…….”
“ثمّ التقينا بالكونت فولكس. آنذاك لم أكن أعلم أنّه كونت. بدا أصغر بكثير من العمر المعروف عنه. لذلك لم يخطر ببالي.”
“…….”
“قال إنّكِ قد تتحسّنين. إنّ ما لديكِ ليس مرضًا، بل أعراض ناشئة عن عدم استقرار القوّة السحريّة داخلكِ. لكن قال إنّه في هذا المكان لن تستطيعي النجاة…….”
“…….”
“قال إنّكِ لو ابتعدتِ عن هنا فقط، فستعيشين. ثمّ…….”
طال الصمت، فأسرعتُها بنظري.
“ثمّ ماذا؟”
ابتلعت ريقها بصعوبة وتابعت:
“قال إنّ قوّتكِ السحريّة عظيمةٌ لدرجة أنّه يُمكن تبنّيكِ في بيتٍ من بيوت النبلاء. وأنّكِ ستعيشين في مكانٍ جيّد، بلا شيءٍ ينقصكِ…….”
نظرتُ إليها ببرود.
“وفي المقابل أعطاكم مالًا.”
“…….”
“أعطاكم، أليس كذلك؟”
“…… سامحيني.”
كما توقّعت.
هذا البيت يبدو في حاجةٍ ماسّة لكلّ قرش. والكونت فولكس لم يكن بخيلًا، فلا بدّ أنّ المبلغ لم يكن هيّنًا. أغراهم ذلك أكثر من طفلةٍ مريضة.
‘إذًا على الأقل كان عليهم أن يعيشوا أفضل.’
أسقطتُ بصري عن وجهها. فرأيتُ أرضيّةً مرقّعة بالخشب.
إن لم يكن المبلغ قليلًا، فلماذا ما زالوا يعيشون في مكان كهذا؟
هل يوجد مقامر في البيت؟ هل تلك المرأة الجميلة في الحقيقة مهووسة بالمقامرة؟
إذًا، من يضمن أنّ كلّ ما قالته لي صدق؟ هل كنتُ حقًّا مريضة؟ اللعنة، لو كانت تكذب فلتكذب حتى النهاية، لا أن تعترف بالمال لتجعلني أكثر ارتباكًا……
“مَن هنا؟”
جاء صوتٌ غريب في تلك اللحظة.
رفعتُ رأسي، فإذا برجلٍ بلحيةٍ مهملة ينزل الدرج متثاقلًا وهو يتثاءب.
“أمّي، هل لديكِ زائر؟ كنتُ أسمع أصواتًا…….”
وفور أن التقت عيناه بعينيّ، توقّف جامدًا.
“رايلي فولكس؟”
لم أُجب. لم يكُن يستحقّ. فلا شكّ أنّه أحد إخوتي الخمسة.
هرع إلى نيريسا وهمس لها.
“لماذا، لماذا جاءت؟ ألم نتّفق أن نلتقي يوم التنصيب؟”
قالها بصوتٍ عالٍ بما يكفي ليصلني أنا أيضًا.
إذًا لهذا السبب كان فيليون يسألني يوميًّا عن موعد التنصيب.
“عن قرب، تبدو شبيهةً جدًّا بأبي…….”
ظلت نيريسا تعضّ شفتيها. تبادلت النظر بينها وبين ابنها المذعور، ثمّ وقفت.
“سأذهب الآن.”
“تذهبين؟ الآن؟”
“لم يعد لديّ ما أريد معرفته.”
أومأتُ قليلًا برأسي، ثمّ خطوتُ نحو الباب. شعرتُ أنّهم يتبعونني، لكن لم أتوقّف ولم ألتفت.
في الخارج كان فيليون بانتظاري.
ويبدو أنّه استدعى العربة بالفعل. صعدتُ إليها من دون تردّد. سمعتُ صوتهما يتحدّثان معه في الخارج، لكن تجاهلتُ.
تحرّكت العربة حالما صعد فيليون.
مضى وقتٌ طويل ونحن صامتان.
كنتُ أُثبّت بصري خارج النافذة.
راقبتُ بصمت شوارع العاصمة المزدحمة، وأسوارها، ثمّ المشاهد الريفيّة الهادئة المتّصلة بها.
ثمّ فجأة، انهمرت دموعي.
ومهما مسحتُها، ظلّت تتدفّق وتُعتم بصري. حتى حين ضمّني فيليون وأمسكني، بقيت كتفاي ترتجفان.
“لقد كان لديّ إخوةٌ غيري…….”
“…….”
“خمسة إخوة. خمسة! ظلّوا جميعًا في ذلك البيت معًا.”
شعرتُ كأنَّ أحدهم يُطبق على حلقي ويخنق أنفاسي.
“أنا الوحيدة……التي كنتُ وحدي فقط.”
وبقيتُ أبكي في حضن فيليون بلا توقّف، إلى أن وصلنا إلى برج السحرة.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
حسابي ✿《انستا: fofolata1 》
التعليقات