ولم يكن ذلك مجرّد كلامٍ عابر، بل شعرتُ أنّ قلبي لن يحتمل لو استمرّ أكثر. لقد كان قلبي المذعور من المفاجأة ما يزال ينبض بقوّةٍ بسبب ذلك الطَّرْق المفاجئ.
“رايلي، أنا أحبُّكِ.”
وكأنَّ فيليون عزم على جعل ارتجافي يتضاعف.
مظهره وهو ينظر إليّ بدا أكثر سرورًا حتّى من لحظة نصحتُه فيها ألّا يتّخذ إيريون تلميذةً.
هذا الرجل… هل يجهل معنى الخجل أصلًا؟
‘مع ذلك… ابتسامتُه جميلة.’
لم أتمالك نفسي من لمس شعره، لكن أصواتٌ أخرى سُمعت من خلف الباب، ويبدو أنّهم كانوا البحّارة من جديد.
“أيّها الساحر! أأنتَ لستَ هنا حقًّا؟”
“اذهب. يبدو أنّ الأمر عاجل.”
“ها…”
أطلق فيليون تنهيدةً عميقة، ثمّ أخيرًا أفلتني. وبعد أن ارتدى معطفه المرمى بإهمال، عاد خطوةً نحوي.
“هيا نتناول الغداء معًا. سأتي لأخذك.”
“… حسنًا.”
ومنذ صعودنا إلى السفينة ونحن نتشارك كلّ وجبة، ومع ذلك ابتسم فيليون وكأنّ موافقتي هذه المرّة تسعده من جديد.
رافقتُه إلى الباب، ثم انزلقتُ جالسةً على الأرض متّكئة عليه. أطرافي كلّها كانت بلا قوّة. وما دام قد ضمّني بتلك الطريقة الطويلة، فليس غريبًا أن أُنهك هكذا.
‘أنا… مع فيليون…’
لقد تخيّلتُ ذلك عدّة مرّاتٍ منذ غادرنا معًا، لكنّ الواقع كان أشدّ إحراجًا بكثير.
‘ولم أشعر بنفورٍ تقريبًا.’
كان وجهي ما يزال محتقنًا بالحرارة.
‘… هل أجبتُه بطريقةٍ غامضة أكثر من اللازم؟’
لكنّ ذلك كان بالفعل شعوري الصادق. نعم، مشاعري نحوه تغيّرت، غير أنّ رواسب الماضي في برج السحر لم تمحَ تمامًا.
كما أنّني تساءلت كثيرًا: أهي مشاعر شفقةٍ ليس إلّا؟ فصورة ماضيه التي رأيتها عبر ذكريات الوهم كانت كافية لإثارة الشفقة.
إذن، لماذا عرضتُ عليه أن نذهب معًا إلى القارّة الشرقيّة؟ ذلك لأنّني لم أشأ أن أتركه هناك وحيدًا.
لذلك ظننتُ أنّ الأمر أقرب إلى المودّة، لكنّه كان يحافظ دائمًا على المسافة بيننا.
هل لعلّه، بعدما انفصل عن عائلته وصار وحده معي، تبدّل قلبه فجأة؟ تلك الفكرة لم تفارقني وأربكتني كثيرًا.
ولهذا السبب شعرتُ بالحيرة والضيق.
والآن…
‘أظنّ أنّ المودّة… قد تعمّقت أكثر إلى الحبّ.’
ضغطتُ خدّي مرّاتٍ عدّة براحة يدي، ثم نهضتُ واقفة. لا، لا بدّ أن أهدّئ نفسي بقراءة كتاب.
‘لكن، تُرى ماذا كان يجري في الخارج؟’
***
تبيّن لاحقًا أنّه لم يكن ثمّة أمرٌ خاص.
كان الأمر عاجلًا للقبطان فحسب؛ فقد تفرّقت دماء الوحوش في البحر، ومن المؤكّد أنّ وحوشًا أخرى ستنجذب إليها، لكنّ الريح لم تتحرّك.
فطلب القبطان من فيليون أن يستعمل سحر الريح، وبفضله تجاوزنا المنطقة بسلام.
حتى الغداء تناولناه في موعده المعتاد.
غير أنّ أحاديثنا ظلّت شبه معدومة. وإن كانت الغرابة أقلّ حِدّة، إلّا أنّ فيليون ظلّ يثبت ناظريه عليّ طوال الوقت منذ اعترافه، وذلك هو المزعج.
رفعتُ كأس الماء إلى شفتيّ وأنا أسأله.
“لِمَ؟”
“لأنّكِ جميلة.”
وكدتُ أن أبصق الماء، لكنّه واصل كلامه بثباتٍ حين تحقّق أنّني بخير.
“لطالما أردتُ أن أقولها، لكنّي كنتُ أصبر دائمًا.”
“ماذا… لا، لماذا؟”
“لأنّي لا أريدُ أن تكرهيني.”
قال ذلك وهو يصبّ الماء في كأسي من جديد.
“قد لا يعجبكِ ما أقول. وقد أقع في الخطأ مرّةً أخرى.”
… إذن، كان يتردّد في البوح. أتفهّم ذلك، لكنّي أفضّل مواجهة الخلاف على أن يسود بيننا الصمت.
“لا داعي لأن تحتاط هكذا كثيرًا. إن بالغتَ في الحذر سأرتبك أكثر. يكفي أن تعاملني كما في السابق.”
“كما في السابق، حين كنتُ أعيش كـ الكلب الأسود؟”
لم أكُن أشرب حينها، لكنّي كدتُ أشرق وسعلت. سألته متعجّبة:
“أكنتَ تغار إذن؟”
“نعم.”
“ولماذا؟”
“لأنّكِ كنتِ تصطحبينه دائمًا.”
“…..”
“على ما قاله هيميل، كنتِ حتى في مطاردة وليّ العهد تصطحبينه معكِ. لهذا أغار. لأنّي لم أستطع أن أفعل مثل ذلك.”
كان صوته يحمل شيئًا من الخفوت والانزعاج.
نظرتُ إليه مليًّا، ثمّ قلت:
“أتعلم؟ لستَ مختلفًا عنه كثيرًا.”
رفع نظره إليّ بدهشة.
“أوّل لقاء لنا كان جافًّا أيضًا… صحيحٌ أنّ كلامكَ وأنتَ في الخامسة عشرة كان أكثر إزعاجًا، لكن لقائي بالكلب الأسود لم يكن جيّدًا بدوره. كانت نظرته الحادّة مثل نظرتك.”
“..…”
“الفرق أنّك كنتَ تخاطبني باحترام، وكنتَ تُظهر بعض القلق عليّ. ماذا أيضًا؟ لا أذكر… الكلب الأسود لم يكن يطيعني كثيرًا. أتذكُر حين سرق بحثك؟ لقد أربكني حقًّا.”
توقّفتُ عن الخوض أكثر لأنّ ذلك كان يثير غضبه بالتأكيد.
“في النهاية صار أكثر طاعة، لكن حتى ذلك كان شبيهًا بأجوائك الآن. ظننتُ أنّني أفرّق بينكما، لكن…”
طبعًا باستثناء تلك الفترة التي كنتُ أتعامل معكَ فيها ببرودٍ متعمّد.
‘لقد خطرتِ لي آنذاك فكرة أن أمدّ قدمي لأعرقلك في الممرّ.’
تساءلتُ للحظة: ماذا كان سيحدث لو فعلت؟ لكنّي لم أُعمّق الفكرة، لأنّ النتيجة على أيّ حال كانت ستؤول إلى أن نظلّ معًا كما الآن.
ابتسمتُ وأنا أرفع الكأس.
“أليس كذلك؟”
كاد الماء يخرج من فمي مرّةً أخرى. لِمَ يُصرّ على قول كلامٍ كهذا وأنا أشرب؟ يشبه تمامًا أيّامه كـ الكلب الأسود.
“… لِمَ هذا الاحترام المفاجئ؟”
“ألَم تقولي إنّكِ أعجبتِ بكلامي المهذّب آنذاك؟”
“لم يكن مهذّبًا تمامًا. بعد أن استعدتَ نصف ذاكرتك، صرتَ تخلط بين الاحترام والكلام العادي.”
“وماذا أيضًا؟”
شربتُ بهدوء هذه المرّة بينما اتذكر تلك الأيام.
“لقد قلتَ… إنّك ستبقى دومًا إلى جانبي.”
عندها ابتسم فيليون ابتسامةً دافئة.
“هذا جيّد. لأنّه الشيء الذي أستطيع أن أفعله حتّى الآن.”
كان وجهه مفعمًا بالارتياح، فشعرتُ بألمٍ غريب في صدري.
***
شعر فيليون بحرارة الشمس تخترق جفنيه ففتح عينيه.
فتح ستائر المقصورة فظهر له صفاء السماء وسكون البحر. بدا أنّ الرحلة اليوم ستكون هادئة.
لكن نظراته نحو النافذة لم تكن رائقة. جلس على حافة السرير، يمرّر يديه على جانبي جبينه.
لأنّه في الحلم…
‘كنتُ مع رايلي.’
منذ أن استعان بالهومنكولوس واستعاد كلّ ذكرياته، انشغل فيليون – بالتوازي مع إعاقة وليّ العهد – بمحاولة اختراق البياض الفارغ الذي حجب ذكرياته كـ الكلب الأسود.
لا يوجد سحرٌ يُعيد الذكريات. لذلك بذل كلّ جهدهِ ليوقظها بنفسه. قابل أطبّاء، جرّب عقاقير غامضة قيل إنّها تُحسّن الذاكرة، لكن لم يتذكّر شيئًا.
‘هل لأنّي مع رايلي؟ مؤخّرًا بدأتُ أستعيدها شيئًا فشيئًا.’
بدأ ذلك مع بداية هذه الرحلة، حين صرنا معًا بمفردنا.
ربّما الموقف بذاته أثار لا وعيّه بقوّة.
قبل يومين، وأمس أيضًا، حلم بذلك الماضي.
أما حلم اليوم، فقد بدأ في نُزلٍ قديم.
كان ثملًا ممدّدًا على السرير، ورايلي بجواره، تربّت على شعره. ثمّ قال لها:
– “لا تُكثري من الابتسام لذاك الرجل…”
لو كان الأمر في الماضي لَقطّب جبينه مستهزئًا من تفاهة العبارة، لكن فيليون قرّر أن يحفظها هذه المرّة.
لأنّه قالها بدافع الغيرة، وهذا ما جعله يشعر أنّها تهتمّ لأمره.
‘سأستخدمها لاحقًا.’
فكّر بابتسامةٍ مريبة، ثم دخل الحمّام. وبعد أن ارتدى ثيابه وخرج إلى الممرّ، التقى بالمُرتزقة صدفة.
“أه، فيل! ذاهبٌ لتناول الفطور؟ ما رأيك أن نذهب معًا؟”
“… سأستأذن من لينا أوّلًا.”
صرفهم فيليون نحو قاعة الطعام، ثمّ توجّه إلى غرفة رايلي. كان ينوي أن يرفض ويقترح الخروج للهواء الطلق، لكن…
“هم؟ لا بأس عندي. لِنذهب معًا!”
وافقت رايلي بابتسامةٍ مشرقةٍ جدًّا.
وحين وصلوا إلى المطعم، بادرت هي بتحيّة أولئك الرجال. فلم يجد فيليون مفرًّا من مشاركتهم المائدة.
“هل زال عنك الصداع؟ سمعتُ أنّكِ كنتِ متعبةً البارحة.”
“نعم، تحسّنتُ كثيرًا. لن أشرب ثانيةً أبدًا.”
“هاها، لم أرَ أحدًا يقول هذا وينجح في ترك الشراب.”
على عكس حذرها في السابق، بدت رايلي اليوم في غاية السعادة، وانسجمت معهم بسهولة.
بل وأجابت بلباقة على كلمات بايون.
“ألم نلتقِ من قبل؟”
“لا. هذا لقاؤنا الأوّل تمامًا.”
“أحقًّا؟ غريب… أشعر أنّني رأيتُكِ من قبل.”
“لستَ مصابًا بخرفٍ يأتي بعد الشرب، أليس كذلك؟”
خرف؟ هاه.
‘هو فقط مهتمٌّ بكِ.’
ذلك الرجل المسمّى بايون لم يُخفِ اهتمامه منذ اصطدامه برايلي. لو سُئل لصرّح بثقة أنّه كان “حبًّا من النظرة الأولى”، وكان فيليون واثقًا أنّه سيقولها خلال ثلاث محادثاتٍ بالكثير.
ولو أنّها لم ترتدِ نظّارة حجب الإدراك في برج السحر، لكان مثل هذا الموقف تكرّر مرارًا.
لكن رايلي لم تلتفت لذلك أصلًا.
فيليون، بينما يُصغي ببرود إلى كلامهم، كان يطعن السلطة بالشوكة بعصبيّة.
لم يكن في الأمر شيءٌ خطيرٌ حقًّا. الحديث كان عاديًّا. ومع ذلك، ظلّ مزاجه ينخفض أكثر.
عندها التفت بايون إليه.
“فيل، وجهكَ ليس بخير. هل أنتَ على ما يُرام؟”
وبين ملامحه المبتسمة، تداخلت صورةٌ أخرى… شعر أحمر.
إيان سيرفيل.
ذلك الرجل قال له الشيء نفسه بالضبط آنذاك.
‘لهذا لجأتُ إلى الشرب حينها.’
يومها غمره الاشمئزاز من نفسه وهو مطارد، فيما كان إيان يبتسم بانتشاء.
‘صحيح أنّه لم يكن بوسعي غير ذلك آنذاك…’
لكن هذه المرّة، لم يكن لينوي الوقوف موقف المتفرّج.
ارتسمت على وجه فيليون ابتسامةٌ غامضة وهو يمدّ يده نحو رايلي.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
حسابي ✿《انستا: fofolata1 》
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 120"