الفصل التّاسع والعشرون: المدينة، كالت
في اليوم التّالي لصدور أمر الدّوق مباشرة، انطلقت فرقة الفرسان بقيادة نيكولاس في حملة نحو كالت.
تقدّمت فرقة الخيّالة التي تحمل رايات البلوط رمز عائلة ميرمماندي جنوبًا بسرعة فائقة، ووصلت إلى الطّريق الرّئيسيّ الممتدّ جنوب شرق قبل غروب الشّمس.
عندما اقتحمت الفرقة المنطقة المحيطة بكالت فجأة، انتاب السّكّان المحلّيين وحرّاس البوّابة ذعر وجلبة.
خافوا أن تكون شرارة الحرب التي اشتعلت في الجنوب قد امتدّت إلى هنا، لكنّهم لم يتلقّوا أيّ تفسير.
قسّم نيكولاس القوّات إلى ثلاث فرق وأصدر الأوامر لأفرادها:
“لقد أبلغنا عمدة المدينة جايس بتعليمات السّيّد، لذا ابدأوا من الآن في تفتيش المدينة ليلًا ونهارًا حتّى نعثر على الأميرة.”
التفت نيكولاس بجواده نحو البوّابة، صفّر بأصابعه وصرخ:
“لا يهمّ إن لم تكن مطابقة تمامًا للشّبه، اجمعوا كلّ النساء المشابهات لها وأحضروهنّ جميعًا أمام المقرّ المركزيّ، مفهوم؟”
“نعم! سيدي الصّغير.”
صر نيكولاس بأسنانه.
لا يعلم مَن أرسل تلك الرّسالة المجهولة، لكنّ مَن يجرؤ على اللّعب بعائلة الدّوق يجب أن ينال عقابه اللّائق.
هذه المرّة بالذّات سيعيد أخته إلى البيت مهما كلّف الأمر، حتّى لو كانت جثّة باردة ميّتة.
أغمض نيكولاس عينيه لحظة عندما تخيّل أسوأ الاحتمالات، ثمّ فتحهما وقال لغريك الذي ينتظره في مقدّمة الفرقة:
“نحن سنطوّف بمنطقة نهر كالت على نطاق واسع. باقي الفرق، إذا ظهر أيّ خبر ارفعوا سهمًا ناريًّا في السّماء الغربيّة.”
تحت إشارة الصّغير الدّوق، انقسمت موجة الفرسان الحمراء إلى أربعة تيّارات، وتدفّقت دفعة واحدة داخل البوّابة المفتوحة على مصراعيها.
أغلق سكّان الأحياء القريبة من البوّابة أبواب بيوتهم وأحكموا مزالجها خوفًا من هذا المشهد المهيب.
بمجرّد عودة جيش الأمير، ستقام احتفالات النّصر في العاصمة فورًا.
وإن أرادوا تفتيش المدينة خلال يوم واحد، فحتّى أسرع الخيّالة يجب أن يسارعوا.
* * *
بعد أن ودّعنا والتر، استأجرنا غرفتين في النزل.
سنتوجّه غدًا إلى الحيّ الذي يقع فيه نزل «حارس البئر» الذي ذكره كريس.
وضع ديفون المفتاح المعدنيّ الذي يُصدر صوتًا على الرّفّ عند الباب.
في تلك اللّحظة بالذّات، دوّى صوت انفجار ألعاب نارية صاخب خارج النّافذة.
جذبتني الأضواء البرّاقة التي شقّت سماء اللّيل للحظات، فقال ديفون:
“يبدو أنّ أهل المدينة يطلقون الألعاب النّاريّة قبل المهرجان.”
“مهرجان؟”
” احتفال بعودة جيش الأمير المنتصر. الرّسل والمبشّرون يجولون في المدينة يعلنون الخبر.”
“سمعتُ أنّ نهاية الحرب باتت قريبة… لكن الألعاب النّاريّة شيء عجيب حقًّا.”
يبدو أنّني لم أرَ ألعابًا نارية من قبل في هذا العالم.
“الخيميائيّون يصنعونها بإضافة مسحوق معدنيّ إلى البارود. رأيتُ النّقابة تصنعها، وقالوا إنّ المواد باهظة الثّمن جدًّا.”
“هل يوجد نقابة خيميائيّين في المملكة أيضًا؟”
“بالطّبع، لكنّ الذين أتحدّث عنهم هم الفنّيّون التابعون لدُورن.”
كان من الممتع جدًّا سماع أخبار عن عالم لا أعرفه. عندها سألني ديفون بهدوء:
“ناتانيا، إذا لم يكن عندك مانع… هل ترغبين في الخروج قليلًا قبل النّوم؟ أفكّر أن نسير باتّجاه البوّابة الشّرقيّة.”
“آه… حسنًا جدًّا!”
قفزتُ من السّرير فرحًا بهذا الاقتراح المفاجئ.
النّاس كثر، فلا خطر كبير على الأرجح، لكنّني غطّيتُ وجهي بالعباءة احتياطًا.
نزلنا إلى الطّابق الأوّل من النزل، فكان الخارج هادئًا تمامًا كأنّ الألعاب النّاريّة التي انطلقت قبل قليل كانت كذبة.
كان هناك جوّ احتفاليّ خفيف لكنّ شيئًا ما بدا مضطربًا.
شعر ديفون بذلك أيضًا، فلم يبقَ في الشّارع طويلًا وانتقلنا إلى الأطراف.
وصلنا إلى حديقة صغيرة أسفل السّور، وجلسنا جنبًا إلى جنب على مقعد خشبيّ.
كان هواء ليلة الشّتاء باردًا، والسّماء مكسوّة بستار ظلام كثيف. عندما أظلمت المنطقة تمامًا، رفع ديفون رأسه ينظر إلى السّماء وقال:
“… جميلة.”
التفتُ إليه عندما سمعتُ همهمته الخافتة، فأضاف:
“ظننتُ أنّ مصابيح المدينة ستحجبها، لكن بسبب المطر اليوم تكثّفت النّجوم كثيرًا.”
ثمّ وصف لي السّماء اللّيليّة بدقّة.
كان يعلم أنّني لا أرى، فيحاول أن يريني إيّاها بطريقته.
في مثل هذه اللّحظات أشعر بالامتنان وأحيانًا بالحرج.
لا زلتُ لا أفهم لماذا يعتني بي بهذا القدر من الرّقّة.
غرقتُ في التّفكير وأنا أستمع إلى صوته الهادئ المنخفض.
غدًا أخيرًا سأعود إلى البيت.
ماذا سيقول أفراد العائلة عندما يرونني عائدة حيّة؟ في الحقيقة، لن يفرحوا كثيرًا على الأرجح.
بل قد يحبسونني في مكان أعمق كي لا يتكرّر الأمر. ربّما يبكي جين فقط.
ألقى ديفون نظرة خاطفة على وجهي وسأل:
“ناتانيا، هل سبق لكِ وخرجتِ خارج الأسوار هكذا؟”
هززتُ رأسي ببطء.
“في السابق كنتُ أتبع أخي الثّالث في كلّ مكان، لكن بعد الحادث لم أخرج من القصر أبدًا، ولم أحضر حتّى حفل التّقديم أو السّهرات الرّاقية.”
تذكّرتُ حياة الانعزال في الجناح المنفصل، فابتسمتُ بمرارة.
“لذلك، بصراحة… هذه الرّحلة كانت ممتعة نوعًا ما، رغم الخطر.”
نظر ديفون إلى وجنة وجهي دون كلام.
“لا بدّ أنّكِ شعرتِ بالاختناق كثيرًا.”
“…”
“يبدو أنّكِ لا تعرفين شيئًا عن العالم خارج حدود الدّوقيّة.”
انتفختُ قليلًا من هذه الجملة ورددتُ بحياء:
“لستُ جاهلة تمامًا! كان هناك مَن يخبرني بالأخبار.”
هزّ رأسه وهو يغمض عينيه نصف إغماضة:
“جرأتكِ بلا تخطيط تذكّرني بشخص ما.”
كان صوته كسولًا كمن يستعيد ذكريات بعيدة.
هل يقصد ذلك الشّخص الأعمى الذي تحدّث عنه سابقًا؟
مَن كان ذلك الشّخص حتّى يشتاق إليه هكذا؟
واصلنا الحديث السّطحيّ قليلًا، ثمّ قرّرنا العودة إلى النزل قبل أن يتعمّق اللّيل أكثر.
تركتُ عصايّ في الغرفة، فمشيتُ ممسكة بيد ديفون ببطء.
في تلك اللّحظة، لمحتُ في نهاية الزّقاق رجلًا يحيط بكتفي امرأة ويسرع بها إلى مكان ما.
‘عشيقان؟’
في كالت تقليد قديم: في اللّيالي التي يظهر فيها كوكب البجعة، يتجمّع الشّبّان في السّاحة بحثًا عن شريك.
يبدو أنّ هذا العرف لا يزال حيًّا.
توقّفتُ فجأة من الفضول، فقال ديفون:
“اليوم أطفأت المدينة أنوارها أبكر من المعتاد، فعلينا العودة الآن.”
إذن المرور بالسّاحة مستحيل أيضًا؟
أومأتُ برأسي بأسف.
“ووف! ووف!”
فجأة دوّى نباح كلاب عالٍ من مكان ما، وكان الصّوت يقترب بسرعة. بعد لحظات ظهرت مجموعة كلاب ضخمة تجري نحونا.
“كلاب… أميرة، لا تتحرّكي وابقي ساكنة.”
من حجمها وطوقها الفضّيّ، بدت وكأنّها كلاب صيد مدرّبة.
هاجمتنا بنباح عنيف، تكشّر عن أنيابها وتسيل لعابها.
لوّح ديفون بسيفه في الهواء، فتراجعت بعضعة منها وهربت وهي تعوي.
لكن في تلك اللّحظة، انحنى كلب مرقّط، جمع كفّيه الأماميّتين، ثمّ اقترب منّي بخطوات بطيطة.
كان يشمّ الأرض بأنفه.
نظر إليه ديفون بحذر، ثمّ…
“…؟”
فجأة قلب الكلب جسده، استلقى على ظهره، وكشف عن بطنه الأبيض وهكّهك، كأنّه يتودّد. الكلب الشّرس الذي يشبه كلاب التّقاتل أصبح فجأة مطيعًا تمامًا.
أدرك ديفون شيئًا ما، فأمسك بيدي لنهرب، لكن في تلك اللحظة بالذّات دوّى صوت قويّ:
“من هنا! الكلاب هنا!”
تدفّق فرسان على خيولهم حتّى ملأوا الزّقاق الضّيّق.
لو كنتُ وحدي لاستطعتُ الهروب، لكنّ الهروب معًا كان صعبًا، فوقف ديفون مكانه فجأة.
في آخر صفّ الفرسان، ظهر رجل ذو شعر أحمر مائل للبنّي يرتدي عباءة فرو.
‘ني… نيك؟!’
لم يكن سوى أخي الثّاني، نيكولاس.
التعليقات لهذا الفصل " 29"