الفصل الثّامن والعشرون: عندما تقع شخصية إضافية بحب شخصية إضافية
*****************
مشيتُ خلف ديفون ممسكة بيده، أتبعه كالصّغيرة منذ عدّة دقائق.
دخلنا زقاقًا جانبيًّا بجوار مخبزٍ قريب من السّاحة، ثمّ سرنا تحت سياج مغطّى بالكروم.
بخلاف شارع السّوق، كانت المنطقة هادئة جدًّا لأنّ البيوت تملأ المكان بكثافة.
نظر ديفون إلى لوحة إرشاد مطليّة بالأصفر، مال برأسه قليلًا، ثمّ واصل السّير.
وبعد خطوات، توقّفنا أمام مبنى من طابقين بسقف أزرق، لافتته المعلّقة على الباب الأماميّ مائلة تقريبًا على وشك السّقوط.
دخل بهدوء وثقة كأنّه في بيته، وجرّني معه إلى الدّاخل.
“متجر والتر لكلّ شيء”… هكذا كتب على اللّافتة.
يبدو أنّ المكان يُستخدم للسّكن أيضًا.
كانت هناك حديقة صغيرة مُعتنى بها جيّدًا، مزروعة بالعشب والنّباتات الزّينة، ومغطّاة بالتبن وأوراق الشّجر المتساقطة.
تحت المظلّة، كان هناك طاولة عرض مليئة بأشياء متنوّعة لا تنتهي.
رغم دخولنا إلى الحديقة، ظلّ المكان صامتًا. هل غاب صاحبه؟
تجول ديفون أمام الباب قليلًا، ثمّ التفت إليّ وقال:
“بالمناسبة، ديوكي… هنا نادني باسمي المستعار.”
أصبحت ملامح وجهه واضحة تحت ضوء الشّمس.
سمعتُ أنّ مَن يرى وجهه عادة يموت، فقلقتُ على صاحب المتجر اللّطيف إن رآه.
لكن لم أستطع أن أسأله لماذا لا يرتدي قناعًا.
“حسنًا، ديوكي. هل جئنا إلى نزل؟ المكان هادئ جدًّا لذلك.”
كان ديفون على وشك الرّدّ عندما سمعنا خطوات من جهة الجدار حيث شجرة فاكهة قصيرة.
ظهر رجل في منتصف العمر يرتدي بنطالًا بحمّالات، وله شارب طويل أنيق، فرفع حافة قبّعته الصّوفيّة.
فتح الشّيخ عينيه على وسعهما عندما رآنا في الحديقة بالتّناوب.
“يا إلهي… لحظة، من هذا؟!”
هل عرفني؟
إن أبلغ الحرّاس، سيكون مصير ديفون…
لكن ديفون ظلّ واقفًا بهدوء تامّ أمام صاحب المتجر، بل وأبدى ودًّا وارتياحًا.
يبدو أنّهما يعرفان بعضهما.
شعرتُ بالحرج من سوء ظنّي وفركتُ ذراعي دون سبب.
“ديوكي، أنتَ حقًّا؟ يا للسّرور أن أراك مجدّدًا! لم أسمع عنك منذ مدّة وكنتُ قلقًا… ما الذي أتى بك إلى كالت؟”
رحّب به الرّجل كصديق قديم. رفع ديفون زاوية فمه بابتسامة عريضة وقال:
“مر زمن، يا والتر.”
سلّم عليه باختصار رغم فارق السّنّ الكبير.
هل يعلم صاحب المتجر أنّ ديفون قاتل مأجور؟ بينما كنتُ واقفة في الحديقة بتوتر، أشار ديفون إليّ وقال:
“لديّ رفيقة سفر جُرحت، فمررنا فقط. هل بإمكانك أن تعتني بها؟”
كان والتر صاحب بطن بارزة. وضع يده فوق حزام بنطاله، رفع حاجبيه، ثمّ حرّك شاربه المشقوق وقال:
“همم… إذن هذه السيّدة…”
رغم أنّني مغطّاة بعباءة باهتة اللّون، اكتشف جنسي بنظرة حادّة.
كنتُ على وشك تقديم الاسم المستعار عندما سبقه ديفون:
“نعم، زوجتي.”
أليس كذلك، أنا زو… ماذا؟!
التفتُ برأسي فجأة نحو مصدر الصّوت.
لحسن الحظّ كان القنّاع يغطّيني، وإلّا لظهرتْ صدمتي على وجهي.
لمس ديفون شفتيّ بطرف إصبعه كأنّه يأمرني بالضّحك.
ابتسمتُ متأخّرة بابتسامة متكلّفة.
ها، ها.
لكنّ شفتيّ كانتا ترتجفان لا إراديًّا.
ضحك والتر بصوت عالٍ وهو يراقب تبادل النّظرات الصّامت بيننا.
“يا للعجب! أنتَ متزوّج فعلًا؟! كنتُ أظنّ أنّ ديوكي لن يرتبط بشريك في حياته أبدًا.”
“في الحقيقة، لم يمرّ وقت طويل منذ أن أقسمنا أمام أهل القرية. إنّها خجولة جدًّا، فلا تتكلّم كثيرًا، سامحها.”
“بالطّبع! خبر سعيد! أن تجعل متشردًا صلب القلب يستقرّ… لا أعلم عمرها، لكن يبدو أنّ الزّوجة قويّة الشّخصيّة جدًّا. هههه!”
صدّق الشّيخ كلّ كذبة قالها ديفون دون تردّد.
حتّى وأنا أسمع بجانبه، واصل التّمثيل دون أن يرفّ له جفن.
وجاءت الضّربة القاضية في آخر جملة:
“إنّها طيّبة جدًّا. حتّى أنا وقعتُ في غرامها من النّظرة الأولى.”
… هل جنّ؟ لا بدّ أنّه أكل شيئًا فاسدًا بالأمس.
لكن والتر بدا مسرورًا جدًّا بكلام ديفون، فضحك حتّى ظهر حلقه.
* * *
كان هناك سبب لمجيئه إلى المتجر.
الشّيخ ماهر اليدين، ويبدو أنّه تعلّم الطّبّ من مكان ما، فكان لديه أدوات الإسعافات الأوليّة.
علمتُ من حديثهما أنّ ديفون يمرّ بهذا المكان كلّما أصيب.
بسبب بقاء ديفون بجانبي طوال الوقت ممسكًا يدي، ظنّ والتر أنّنا زوجان في غاية الانسجام.
وعندما لاحظ مشيتي المتعثّرة، سألني إن كانت عينيّ تؤلمانني.
في غرفة الرّاحة المنعزلة داخل المتجر، بقيتُ مغطّاة الوجه. رشّ والتر مسحوقًا على جرح كتفي ثمّ لفّه بضمادة.
في تلك اللّحظة، رنّ جرس الباب معلنًا عن زبون.
أنهى والتر العلاج وغادر مسرعًا.
لمّا بقينا وحدنا في الغرفة، وبّخته فورًا، بهمس بالطّبع:
“هل كان ضروريًّا أن تكذب هكذا؟ زوجتك؟ ما هذا؟!”
ورغم ذلك، تظاهر ديفون بالبراءة بوجه هادئ.
نقر ورقة نبات أوركيد يربّيه والتر قرب النّافذة، ثمّ قال:
“اسمعي… تلك الإعلانات التي تحمل وجهك الآن…”
“..”
“في كالت وفي كلّ أنحاء البلاد، ملصقة على الجدران، أتعلمين؟”
جلس ديفون على كرسي قابل للطّيّ أمام السّرير المنخفض.
الكرسيّ بدا صغيرًا جدًّا مقارنة بجسده، فكان يبدو غير مرتاح.
مدّ ساقيه الطّويلتين ومال بجذعه إلى الأمام:
:أنا أخاطر بحياتي لأوصلك إلى حدود ميرمجاندي، ولا أريد أن أُسجن في زنزانة تحت قلعة الدّوق كبعض النّاس وأموت صغيرًا.”
هزّ ديفون كتفيه بملل.
سمعنا صوت شخصين يتجادلان خلف الباب المنزلق.
كان زبون وصاحب المتجر يتنازعان على السّعر. همستُ:
“يبدو أنّ هؤلاء لا يعرفون هويّتك أبدًا. منذ متى وأنت تخفي هويّتك؟”
“لديّ هويّة مختلفة في كلّ مدينة. لا يعرف أحد اسمي الحقيقيّ بينهم.”
“… مذهل. هل تفعل هذا فقط من أجل المتعة؟”
” “موجود في كلّ مكان، وغير موجود في أيّ مكان”. هذا شعار نقابتنا. وأنا، كوني ليغاتوس، لا أختلف عن ذلك.”
لا شكّ أنّ العيش بوجوه متعدّدة ليس سهلًا، لكن يبدو أنّه أمر اعتياديّ بالنّسبة إلى ديفون. تفاجأتُ داخليًّا أنّه يثق بي لهذه الدّرجة ويخبرني بهذا.
لا أعلم من أين جاءتني الجرأة، لكنّني مددتُ يدي.
لامستُ وجهه بأصابعي المتردّدة، فعبس ديفون، لكنّه سرعان ما جلس ساكنًا يتلقّى لمسي. تظاهرتُ بالدّهشة وقُلتُ:
“وجهك مكشوف تمامًا.”
“…”
“ألم تقل إنّ كلّ مَن رأى وجهك مات؟ هل كنتَ تكذب؟”
“… لم أقل إنّ بإمكانكِ أن تلمسيه متى شئتِ.”
جاء صوته باردًا كتحذير.
انتفضتُ وسحبتُ يدي، فابتسم ابتسامة ماكرة وقال:
“أم تراجعتِ عن رأيك في هذه الأثناء؟”
شعرتُ بنظراته تحدّق في شفتيّ.
جمدتُ وتراجعتُ بهدوء.
في تلك اللّحظة، انفتح الباب المنزلق “دُرْرْ” دفعة واحدة. ثمّ جاء صوت مرتبك من جهة الباب:
“آسف للتّأخير… أوه! يبدو أنّني قاطعتُ شيئًا.”
انتفض والتر عندما رآنا جالسين قريبين جدًّا وقال:
“نسيتُ أنّكما في شهر العسل. أعتذر! سأخرج، فأكملا ما كنتم تفعلانه.”
“ليس الأمر كذلك…!”
أغلق الشّيخ الباب قبل أن أكمل.
لم تسنح لي فرصة التّبرير.
صرتُ لا أستطيع البقاء في هذه الأجواء المحرجة.
نهضتُ لأغيّر مكاني، لكن ديفون كان منكبًّا على شيء ورأسه منخفض.
يبدو أنّني لستُ المجروحة الوحيدة؛ تحت الإضاءة السّاطعة، ظهرت جروح صغيرة عديدة على جسده.
لفّ الرّجل يده وذراعه بنفسه بالضّمادات، ثمّ قطع قطعة قماش بأسنانه.
ثمّ قال ببرود كأنّما يريد أن أسمع:
“ألم تسمعي عندما قال إنّ الجرح قد يتعفّن فابقي جالسة؟”
رفع رأسه وابتسم بسخرية:
“يا زوجتي.”
التعليقات لهذا الفصل " 28"