“… نعم، صحيح. ظننتُ أنّك إن رأيتني حسنة المظهر فربّما استمعتَ إلى كلامي.”
أجبتُ بصراحة وخفضتُ عينيّ تجنّبًا لنظراته.
“لكنّني الآن أعلم أنّ هذه الطّريقة لا تنجح إلّا مع الجميلات. إن أسأتُ إليك فأنا آسفة.”
انفجر منه ضحكة خالٍ من المرح.
تسلّلت خيوط رفيعة من ضوء الشّمس إلى داخل الكهف.
بدأت أشعّة الشّمس الخافتة تتسرّب من بين الغيوم في الخارج. يبدو أنّ زخّة مطر مفاجئة قد هطلت.
نظر ديفون إلى الخارج ثمّ قال:
“يبدو أنّ المطر توقّف، فلنخرج إذن.”
لحسن الحظّ، لم يكن هناك أثر لـ قطّاع الطّرق، وكان المكان هادئًا.
نفض ديفون غطاء رأسه المبلّل بماء المطر ثمّ نهض.
تبعتهُ بنظري خفية وهو يجمع ما تبقّى من أمتعة قليلة، فنهضتُ أنا أيضًا.
تحسّستُ جدران الكهف الرّطبة بيديّ ومشيتُ بحذر شديد كي لا أزلّ على الحصى الزّلقة.
ما إن خرجنا من الكهف حتّى هبّت ريح تحمل رائحة المطر، وأشرقت على رأسي دفء الشّمس.
فجأة شعرتُ بألم وخز حادّ في عيني اليمنى، فانكمشتُ على نفسي وغطّيتُ وجهي.
“آه…”
سمعته يركض نحوي بعد أن رآني جالسة على الأرض.
اقترب جدًّا، ثمّ سمعتُ صوت سكّينه المطويّ وهو يُخرجها.
“آسف، ليس معي قماش نظيف، فسأستعير طرف ثوبك قليلًا.”
قبل أن أفهم ما يعنيه، تحرّك ديفون أوّلًا. سمعتُ صوت تمزيق “بُرْرْ” في طرف تنورتي الدّاخليّة.
أخذ القماش الأبيض الرّقيق، وضعه على عيني اليمنى، ثمّ لفّه حول رأسي من الخلف وربطه.
ربت ديفون على خدّي برفق وقال:
“عينك هذه حساسة للضّوء، أليس كذلك؟ بهذا سيكون الأمر أفضل قليلًا.”
كما قال، بدأ الألم يخفّ تدريجيًّا مع مرور الوقت.
كان من الصّعب عليّ أن أفهم لماذا يعاملني بهذا اللّطف كلّه، حتّى بعد أن قلتُ له إنّني استغللته.
انتظر حتّى استعدتُ أنفاسي المرتاحة، ثمّ أحضر الحصان إلى مدخل الكهف.
‘آه… حصان آخر…’
كان ذكرى السّقوط من الجواد لا تزال حيّة، فلم أكن متحمّسة أبدًا للرّكوب مجدّدًا، لكنّني صعدتُ إلى السّرج بمساعدته.
ثمّ شعرتُ بديفون يركب خلفي مباشرة.
أمسك باللّجام وأطلق الحصان في الحال.
تصاعدت من الأرض الرّطبة رائحة عشب كثيفة.
خرجنا من غابة الصفصاف ودخلنا وسط حقل قمح كان كان الفرسان يحاولون إخفاءنا فيه.
لمّا وجّه رأس الحصان نحو المدينة، رأيتُ معبر العبّارة على الضّفة المقابلة للنّهر. قال ديفون:
“سأشتري لك ثيابًا جديدة قبل أن ندخل المدينة.”
“حسنًا، شكرًا لك.”
كأنّه ليس غريبًا عن المكان، قاد ديفون الحصان نحو المدينة بثقة ومهارة كبيرتين.
على كلّ حال، لا بدّ أنّه زار أماكن شتّى خلال الطّلبات العديدة التي نفّذها حتّى الآن.
نقابة الظّلام قد تكون منظّمة شرّيرة تقتل مقابل الأجر، لكنّها كانت شرًّا ضروريًّا لا تستطيع المملكة استئصاله.
في النّهاية، هناك أعمال يجب أن تُنجز في الظّلّ، كما في هذه المرّة بالضّبط.
وصلنا أمام الجسر الحجريّ الذي يعبر النّهر. نزل ديفون، تفحّص المنطة المحيطة بالجسر، ثمّ عاد.
كان يبدو حذرًا من هجوم محتمل. سألته:
“منذ متى وأنت تراقبنا بالضّبط؟”
حكّ رقبته وقال:
“منذ قرية سيينا…؟”
“آه.”
“بعد ذلك تبعتُكم، ورأيتُ عمليّة خطفك. كانوا سريعي الحركة جدًّا فتخلّصوا من الفرسان بسهولة. بسبب فرسان الرّماح استغرق الأمر وقتًا للعثور على المستودع الذي كنتِ فيه. كدتُ أتأخّر عن إنقاذك.”
لو تأخّر ديفون قليلًا فقط، لكنتُ تعرّضتُ لأمور فظيعة على أيدي أولئك الرّجال. مَن دفع لهم المال؟
مَن سيستفيد من فقداني عذريّتي؟
قالوا إنّه شخص ذو منصب رفيع في المملكة.
دوقيّة لونغفيل، أو ربّما الملكة أوليفيا؟ هذه المرّة على الأقلّ، لا أظنّ أنّ نواه متورّط.
النّبيل الرّفيع الوحيد الذي أعرفه وله صلة باتّحاد الإمبراطوريّة هو لابيير فقط في الرّواية الأصليّة، لم يتردّد في خيانة الوطن من أجل صراع الخلافة.
هل يجوز أن أشارك ديفون بهذه المعلومات؟ بينما كنتُ غارقة في التّفكير، قال لي ديفون:
“أولئك الذين حاولوا الاعتداء عليك.”
رفعتُ أذنيّ. هل اكتشف شيئًا؟ ضيّق ديفون عينيه كأنّه يستعيد المعركة السابقة.
“شكلهم يشبه قبيلة نير، لكن عندما فكّرتُ مليًّا أكثر، تبيّن لي أنّهم من عرق آخر. قبيلة نير لا ترتدي ياقات فرو سميكة كهذه. وكانوا يحملون أغراضًا قادمة من الإمبراطوريّة.”
يبدو أنّه عرف مصدر العباءة فعلًا. كنتُ أتساءل كيف عرف رمزًا غير رسميّ كهذا، لكن…”آه…! إذن هم من الإمبراطوريّة؟”
“ربّما استأجرهم مَن يعادي عائلة الدّوق. في القارّة الشّرقيّة عبر البحر يوجد الكثير من المرتزقة الأحرار. هل لديك أيّ شخص تشكّين في أنّه دفع لهم؟”
“لديّ، لكنّهم كثيرون جدًّا لدرجة أنّني لا أستطيع سرد الجميع هنا. سمعتُ مؤخّرًا أنّ شركة باهال التّجاريّة متورّطة في هذه القضيّة أيضًا.”
عندما أفكّر في عددهم، أشكّ حقًّا في أن يستطيع نيكولاس تقليص أعداء العائلة.
صحيح أنّ الجوّ مع كريس لم يكن سيّئًا عندما عقدنا الصّفقة… لكن ماذا لو لم نستطع تغيير النّهاية المحتومة؟
ماذا سيحدث لنا؟
ربّما كان إنقاذ سفينة تغرق مستحيلًا منذ البداية.
رأى ديفون وجهي المظلم فغيّر الموضوع.
“قلتِ إنّ موعد تسليمك غدًا ظهرًا، صحيح؟
“نعم. يجب أن أصل إلى نزل «حارس البئر» في كالت. سيرسلون شخصًا من العائلة ليرشدني.”
قرّرتُ أن أدفع الأفكار السّلبيّة جانبًا وأركّز على الحاضر.
مددتُ يدي أتحسّس قماش الدّانتيل الذي يغطّي عيني اليمنى.
نظر ديفون نحو مدخل المدينة وقال:
“تهانيّ. أخيرًا ستعودين إلى البيت الذي طالما اشتقْتِ إليه.”
كانت كالت، المحاطة بأسوار رماديّة من كلّ جانب، تمامًا كما رأيتها في طفولتي.
كنتُ أزورها أحيانًا مع جين للقاء تابع والدي.
المدينة المبنيّة خلف تلّ منخفض كانت مركز المواصلات الأوّل في المنطقة.
وبحكم حجمها، كان التّبادل التّجاريّ وتدفّق المعلومات فيها نشطًا جدًّا.
بدأ حرّاس البوّابة يظهرون في الأفق.
سنصل إلى البوّابة قريبًا.
أوقف ديفون الحصان على الجانب تحت شجرة صفصاف وسألته:
“أين نحن؟”
“أمام البوّابة مباشرة.”
أمسك بيدي وساعدني على النزول حتّى وطئت الأرض بقدميّ برفق.
كان الباعة الجوالون يصطفّون على طول خندق المدينة وقناة الأسوار.
ذهب ديفون ليشتري عباءة من أحدهم.
بينما غاب، اختبأتُ تحت الشّجرة.
كانت عربات ومركبات محملة بالبضائع تمرّ من حين لآخر بضجيج على طريق الدّخول.
يبدو أنّهم تجّار قادمون من الغرب حيث العاصمة.
بعد قليل عاد ديفون وحمل عباءة طويلة داكنة اللّون تمسح الأرض، وألبسني إيّاها.
“قلتِ سابقًا إنّك ستعفين عني، أليس كذلك؟”
“نعم، صحيح.”
“إذن، حتّى لو لم ترغبي، ساعديني قليلًا من الجانب.”
“أمم… ماذا عليّ أن أفعل؟”
“لا شيء كبير. فقط لا تخلعي العباءة والعصابة في الخارج، وأومئي برأسك من حين لآخر عندما أتكلّم. لو ابتسمتِ أحيانًا سيكون أفضل.”
كان الأمر أسهل ممّا توقّعتُ، فوافقتُ فورًا.
دخل ديفون البوّابة دون أن يخفي وجهه، بخلافي.
لمّا لم يضع قناعًا كما توقّعتُ، بدأتُ أشعر بالقلق بدلًا منه.
بعد أن ترك الحصان في إسطبل المدينة، قال ديفون:
“ركوب الحصان في الشارع داخل المدينة غير مريح، لذا سأمسك يدك من الآن. لا تفلتي منّي واتبعيني جيّدًا.”
كأنّه أب يأخذ طفلته إلى السّوق، أوصاني ديفون.
أومأتُ برأسي على مضض.
اندمجنا في الزّحام ومشينا في شوارع المدينة.
كان خطواته واسعة، لكنّني شعرتُ أنّه يُبطئ مشيته عمدًا من أجلي.
ما إن تجاوزنا البوّابة حتّى امتدّ شارع السّوق الصّاخب والطّريق المرصوف بالحجارة بين صفوف الأشجار.
لا أذكر متى كانت آخر مرّة خرجتُ فيها إلى شارع كهذا.
فجأة، جذب شيء ما انتباهي بين المحلّات.
“…!”
كانت هناك صوري الشّخصيّة، أكثر بكثير ممّا رأيتُ في قرية سيينا، معلّقة على لوحات الإعلانات والجدران بصفوف طويلة. بعضها ممزّق من كثرة الوقت.
[الأميرة ناتانيا دوبوسي ميرمجاندي
ـ الوصف: عمياء، 19 سنة، شعر أحمر داكن]
كان اسمي الكامل مكتوبًا بحروف كبيرة تحت الصّورة.
ربّما بسبب المكافأة المرصودة في إعلان المفقودين، كان هناك عدد لا بأس به من النّاس مجتمعين أمامها.
فجأة أدركتُ كم هو هذا الأمر خطير على ديفون.
لو اتّهموه حتّى بالخطف، لن ينجو من عقوبة قاسية.
بالطّبع هو مَن خطفني فعلًا… لكن حتّى مع ذلك، لم أرَ أيّ خوف على وجهه.
شعر بقوّة يدي في يده، فخفض ديفون رأسه وسألني بهمس:
“ما الخطب؟ هل عينك تؤلمك مجدّدًا؟”
“… ليس ذلك.”
“اقتربنا جدًّا الآن. لم يبقَ سوى عبور حيّ واحد.”
ألقى نظرة خاطفة على وجهي المتجهّم الظّاهر من تحت العباءة، ثمّ قادني إلى مكان ما.
التعليقات لهذا الفصل " 27"