لكنّ قطرات المطر السّاقطة على رأسي أجبرتني على إغماض عينيّ مرّة أخرى.
قال ديفون ببرود:
“لا مكان يُؤوينا من المطر، لذا سنمشي قليلاً. هناك جرف قريب.”
أومأتُ برأسي موافقة.
كان وجه القاتل الدّاكن الحمرة قد عاد إلى طبيعته بعد أن غسله المطر، لحسن الحظّ.
كان نظيفًا تمامًا دون جروح صغيرة بعد معركة دمويّة.
لكنّ تذكّر مشهد القتل الذي رأيته جعل الأمر مفهومًا.
في الوقت نفسه، تذكّرتُ حقل الجثث الذي مررنا به، فاضطربت معدتي.
تلك القسوة لن أعتادها أبدًا.
وصلنا إلى أسفل الجرف عند حافّة غابة الصفصاف كما قال.
كان هناك حصان وحيد يتجوّل بدون صاحب.
بدت المناظر المحيطة مألوفة، ربّما المكان الذي توقّف فيه فريدكين ورفاقه مؤقّتًا.
وضعني ديفون في مكان جافّ، ثمّ ساق الحصان تحت شجرة كثيفة الأغصان.
بعد قليل، رأيته يعود إلى الكهف وهو يرجّ شعره المبلّل.
بينما كنتُ أستمع إلى صوت المطر بلا انقطاع، سمعتُ حفيفًا من الدّاخل.
كان ديفون يفتّش في حقيبة أخذها من خلف سرج الحصان.
أخرج ملابس جافّة وفرشها على سطح مستوٍ، ثمّ أشار إليّ.
“يبدو أنّنا سننتظر حتّى يتوقّف المطر هنا. تعالي إلى هنا، يا ناتّي.”
“آه… إلى أين؟”
تجمد وجه ديفون قليلاً، ثمّ أمسك يدي وسحبني.
“إن بقيتِ هكذا، ستصابين بنزلة برد غدًا صباحًا ولن تستطيعي الحركة. هل تريدين العودة إلى المنزل مريضة؟”
المنزل… المنزل؟ تفاجأتُ من كلمة لم أتوقّع سماعها من قاتل، فجلستُ في المكان الذي أعدّه مذهولة.
كانت آثار مغادرة الفرسان للكهف مسرعين لا تزال موجودة هنا وهناك.
بينما أجلس ساكنة، شعرتُ ببرد يسري في جسدي، فانكمشتُ كتفايّ.
لا حطب، والطّقس الرّطب يجعل إشعال النّار صعبًا.
جلس ديفون على الأرض الرّطبة وخلع غطاء رأسه.
خلع حتّى غمد السّيف على ظهره، فناديته:
“ديفون.”
“نعم؟”
“هل تبعتنا حقًّا؟ هل كلّفك الأمراء مهمّة أخرى؟”
“…لا. لستُ فارغًا كما تظنّين. وليس لديّ نية أن أُساق من ابن الملك.”
“إذن لماذا جئتَ إلى هنا بدلاً من العودة إلى دورن؟ سلّمتني لفرسان الملك…”
قلتُ ذلك ثمّ بدأتُ أفرك يديّ بلا سبب.
كشفتُ عن مشاعري، لكنّني قلقة من ردّ هذا الرّجل الوحشيّ.
نظر ديفون إليّ بتعبير غامض، ثمّ أخرج شيئًا رخوًا من الحقيبة.
سحب يدي وجعلني ألمسه.
كان الشّيء الثّقيل المبلّل بالمطر دمية قماشيّة أهداها لي سابقًا.
رآني مرتبكة وقال:
“تركتِها في البرج. أنا لا أدع أ الآخرين يتركون أغراضهم في مكاني.”
لمسّتُ الدّمية التي فقدت رائحة الأعشاب وهي تالفة، ثمّ رميتها على الأرض.
عندما سقطت كتلة القماش على أرض الكهف البعيدة بصوت مكتوم، اتّسعت عينا الرّجل.
عضضتُ أسناني وقالتُ:
“هل… هل أنا سهلة إلى درجة أن تُقدّم لي عذرًا سخيفًا كهذا؟ سبب مجيئك، عضو نقابة الظّلام، إلى هنا واحد فقط. من كلّفك بمراقبتي هذه المرّة؟ لمَ لا تعترف بالحقيقة؟ أشمئزّ من لعبك بوجهين.”
توقّعتُ أن يغضب ديفون كما أنا أو يكشف الحقيقة القبيحة مرغمًا.
لكنّه غطّى فمه وأغمض عينيه الطّويلتين إلى النّصف.
رفع زاوية فمه كأنّ الوضع مسلٍّ جدًّا.
شعرتُ بقشعريرة.
هذا الرّجل غير طبيعيّ بالتّأكيد.
رفع ديفون شعره المبلّل وخفض رأسه.
وعندما فتح عينيه مرّة أخرى، وجّه ملامحه الباردة الشّبيهة بالذّئب نحوي.
“ماذا أفعل. أشعر أنّني أغرق أكثر.”
مرّت كلماته المتتمتمة بأذني.
كان لا يزال يمزح.
عضضتُ شفتي السّفلى، فحمحم ديفون وقال:
“هل أكرهك؟”
“…”
“قلتُ لكِ. أنا لا أترك ثغرات في عملي. من البداية، لم يكن لدى الآنسة ما تتوقّعه منّي.”
“والآن؟”
“الآن… انتهت جميع المهام، لذا أستطيع التصرّف كما أريد بحرّيّة. لهذا جئتُ إلى هنا.”
مزاجه متقلب جدًّا.
لا يهمّ إن عدتُ إلى المنزل فقط.
“..إن شعرتَ بأدنى ندم تجاهي، أعدْني إلى إقليم الدّوق. حينها، لن أحاسبك على الماضي.”
على أيّ حال، بما أنّني عقدتُ اتفاقًا مع كريس، يجب أن أصمت عن أمر الأمير الثّاني في المستقبل أيضًا.
نظر ديفون إليّ صامتًا، فأضفتُ:
“أعدك. باسم ميرماجندي.”
دار ديفون بعينيه جانبًا كأنّه يفكّر.
“همم… عدم المحاسبة عرض مغرٍ جدًّا.”
لكنّني عرفتُ من وجهه عديم التّعبير أنّه يكذب.
لا عجب أنّه مدير مدينة خارجة عن القانون، يبدو أنّه يستمتع بمضايقة النّاس.
أدرتُ ظهري له وجلستُ.
أحنيتُ رقبتي ونظرتُ إلى نفسي.
ملابسي الممزّقة جعلتني أدرك أنّني دخلتُ طريق المعاناة مجدّدًا.
هل هذه محنة كبيرة جدًّا لشخصيّة ثانويّة؟ بدا أنّ القصّة الأصليّة تقول لي إنّني لا أستطيع الهروب من المصير المحدّد.
عندها، شعرتُ بيد تدفع ظهري من الخلف.
التفتُ دون تفكير ثمّ توقّفتُ.
كان الرّجل قريبًا جدًّا ينظر إليّ مباشرة.
“…”
كان قريبًا لدرجة أنّني أرى انعكاسي في عينيه السّوداوين.
بقي هكذا للحظة على مسافة يكاد أنفه يلمس أنفي.
ثمّ أمال نظره قليلاً وأخذ المعطف المبلّل عنّي.
قال ديفون ببرود:
“أنتِ ترتجفين. لمَ لم تقولي؟”
“ماذا…”
“ابقي ساكنة.”
قاطع ديفون كلامي وفتح ذراعيه محتضنًا إيّاي في صدره. كانت عناقًا قويًّا جدًّا.
سمعتُ دقّات قلبه قريبة جدًّا. من خلال طبقة قماش واحدة، شعرتُ بحرارة بشرتنا بوضوح.
«أوه…»
دار رأسي من اللّمس المفاجئ.
استمرّ العناق المتين ليمنعني من الخروج.
صوته القريب دغدغ أذني.
“عندما يكون كلّ شيء حولنا جليديًّا، يجب على الكائنات الحيّة مشاركة الدّفء. هكذا نحافظ على حرارة الجسم. لو لم تكوني هنا، يا ناتانيا، لكنتُ قضيتُ اللّيل ملتصقًا بحيوان خارجي.”
قال ديفون بهدوء.
بدا أنّه يفكّر فقط في البقاء دون أيّ عاطفة شخصيّة.
التعليقات لهذا الفصل " 22"