004
حينما فُتِح البابُ الضخم، انكشفت الحديقة المُعتنى بها بعناية.
كانت هوايةُ جلالة الإمبراطورة تزيين الحديقة بأزهارٍ مًتعددة الألوان تُناسِب الفصول، وقد التوى الممشى داخلها كمتاهة.
بعد أنْ دارَت العربةُ حول الحديقة ومرت بحقلٍ مزهرٍ بالخزامى، وصلت إلى قصر ولي العهد.
كان أحدُ خدم القصر ينتظرني أمام البوابة الفخمة المزينة.
وما إنْ نزلتُ مِن العربة حتى انحنى أمامي بعمق.
“سأرافقكِ، سيدتي.”
أومأتُ برأسي، وسرنا في ردهات القصر المذهّبة والممرات اللامعة حتى وصلنا إلى صالة الاستقبال.
طرقَ الخادمُ الباب، فسمعنا صوتهُ مِن الداخل.
“ادخلي.”
فُتِح الباب، ووقع بصري مُباشرةً على شعرٍ حالك السواد.
كل ما حوله كان مُذهبًا، فبدَت تلكَ الهيئة وكأنها الظل الوحيد المُتبقي في المكان.
شعرٌ أسود كلُّون السبج، وعينان كزهرة البنفسج كانتا تُحدّقان بي.
*السبج: حجر من الأحجار الكريمة. وهو حجر بركاني يأتي من حجارة الحمم السوداء*
انحنيتُ قليلًا ورفعتُ طرف فستاني بلُطف.
“أُحيّي فخر الإمبراطورية.”
“يُمكنكِ رفعُ رأسكِ.”
رفعتُ رأسي، فابتسمَ داميان ابتسامةً خفيفة.
بإرشاد الخادمة التي كانت بالداخل، جلستُ في المقعد المُقابل له.
“سمعتُ أنكِ سقطتِ من الدرج اليوم، لكن يبدو أنكِ بخير، هَذا مطمئن.”
“بفضلِ نعمة سموّك، أنا بخير.”
“لستُ أنا مِن يجبُ أنْ يُشكر على ذَلك.”
ثم أطلق ضحكةً واضحة. فابتسمتُ في المُقابل، وإنْ كانت وجنتاي وشفتيّ مُتيبستين.
دخلتْ خادمةٌ أخرى بهدوء، ووضعت بيننا إبريق الشاي وفناجينه وبعض الحلويات.
“يسرّني أنكِ بصحةٍ جيدة.”
“أخشى أنني سبّبتُ القلقَ لسموّك دوّن داعٍ.”
“أنتِ خطيبتي، ومن الطبيعي أن أقلق عليكِ.”
تصاعد البخار مِن إبريق الشاي، وكان يتلألأ تحت ضوء المصابيح بلونٍ فضيٍّ باهت.
أناملُه المُستقيمة، وبشرته الشاحبة التي زادت بياضًا أمام سواد شعره.
دميان، الذي خفض بصرهُ قليلًا، بدا وكأنه لا يستطيع أنْ يؤذي حتى حشرة.
هل سأتمكن مِن معرفة ما يدور في ذهنه؟
بدأ العرق يتجمّع في راحتي.
أمسكتُ بفنجان الشاي دوّن تردد وشربتُ منه.
رائحته زكيةٌ إلى هَذا الحد، لكن هل سيأتي يومٌ يُملأ فيه هَذا الفنجان بالسم؟
“هل كان سموّك بخير مؤخرًا؟”
“أنا، كما تعلمين، لا أتغيّرُ كثيرًا. لكنكِ، يا روز، شاحبة الوجه.”
مدّ يدهُ فجأةً نحو وجهي، فارتجف جسدي مِن المُفاجأة وتوقف هو في مكانه.
كانت نظراتُه مركّزةً نحوي، هل كان ذَلك لأنني تجنّبتُه؟ أم لأن وجهي شاحبٌ حقًا؟
وفي تلكَ اللحظة مِن الصمت، خطرت لي فكرةٌ لامعةٌ كوميض البرق.
ترددتُ قليلًا ثم قرّبتُ وجنتي مِن يده.
داعبت أصابعهُ وجهي قليلًا، ثم سرعان ما غمرَ خدي براحتهِ الدافئة.
“…ليس بالأمر الجلل، لكن لديّ أمرٌ يؤرقني ولا أجد مَن أستشيره بشأنه…”
بصراحة، لَمْ أكُن واثقةً مِن أنه سيتفاعل معي.
فَلَمْ يُبدِ رأيًّا شخصيًا أمامي مِن قبل.
لكن لا بد مِن المحاولة، أليس كذَلك؟
ولحُسن الحظ، التقط داميان الطُّعم. تألقَ بريقٌ في عينيه.
“هل تُمانعين أنْ أستمع إليّكِ؟”
“هل تعني ذَلك حقًا؟”
فتحتُ عينيّ ببراءةٍ مُصطنعة، ثم ابتسمتُ بخفةٍ ومررتُ وجنتي على يده.
شعرتُ وكأنَّ سكينًا حادةً تمرّ على وجهي، لكن لَمْ يكُن أمامي خيارٌ آخر.
فالرجل المُقابل لي كان يبتسمُ برضا.
“إنهُ أمرٌ يخصّ والدي. كان مُنشغل البال مؤخرًا بأمرٍ ما.”
“نعم، روزالين.”
ردّ بصوتٍ هادئ جعلني أشعرُ بدغدغةٍ غريبة، فأمسكتُ بمعصمهِ بكلتا يديّ، وخفضتُ بصري قليلًا.
“وصلتنا رسالةٌ مِن مقاطعة دوقية موور. الفيكونت ألبرت، الذي يدير المكان هُناك، قال إنْ هُناك مشكلةٌ قد حدثت…”
نسجتُ قصةً مِن الخيال في اللحظة ذاتها.
رغم أنها كانت مرتجلةً، إلا أنها بُنيت على حادثةٍ واقعية.
في دوقية موور، كان هُناك إسكافيٌ مشهورٌ ببراعته.
**الإسكافي أو الإسكاف أو السكَّاف أو الجزمجي أو الحذَّاء أو الخفَّاف أو النَّعَّال هو من امتهن صناعة الأحذية والجزم.**
كان مِن عائلةٍ توارثت هَذهِ الحرفة جيلًا بعد جيل، وقد أنجب الأبُ ولدين. وكان الأخوان شديدي التماسك، وتحت إشراف والدهما، أصبح كلٌّ منهما إسكافيًا ماهرًا.
لكن حين ورث الابن الأكبر متجر الأب، ظهرت المشكلة.
الابن الأصغر قرر أنْ ينفصل ويفتتح متجرًا خاصًا به، وانتشرت سُمعتهُ بسرعةٍ كبيرة، حتى بدأ يتفوّق على أخيه.
وفي النهاية، لَمْ يعُد بإمكان الأخ الأكبر الاستمرار في إدارة متجره.
كان يتمنى أنْ يتخلى شقيقه عن المهنة، لكن الأخ الأصغر لَمْ يكُن يجيد شيئًا آخر.
“لذا، جاء الأخ الأكبر يطلبُ منا إيجاد حلٍ لهَذهِ المشكلة. أنا اقترحتُ تقسيم المناطق وتحديد الزبائن، لكن كما تعلم، التجارة ليست أمرًا بسيطًا، فالمسألة صعبة.”
قلتُ ذَلك وأنا أراقب تعابير داميان.
كان يستمع إليّ دوّن أنْ يُظهر أيِّ تغييرٍ في ملامحه.
لا يزال يجهل ما هَذهِ القصة.
فيا ترى، ما الرد الذي سيبديه؟
في تلكَ اللحظة، وقبل أنْ أشعر بالتوتر منتظرةً جوابه، همس بصوتٍ ناعم.
“روزالين، لا بُدّ أنكِ كنتِ تُفكّرين كثيرًا في هَذا الأمر. يؤسفني أنْ أراكِ شاحبة الوجه.”
“آه، نعم، هَذا صحيح.”
أحسستُ بالحرارةٍ تتصاعد إلى وجهي مِن نبرة صوته المُطمئنة.
وحين أجبتُه بكلامٍ مُتلعثم، خفض بصره لوهلة ثم نظر إليّ مُباشرةً.
“الحلٌ واحد. لا بُدّ مِن طرد الأخ الأصغر مِن الدوقية حتى لا يتمكن مِن الاستمرار في صناعة الأحذية هُناك. وبما أنهُ يملك موهبةً كهَذهِ، فسوف يتمكن مِن العيش في أيِّ مكانٍ آخر.”
“…لكن، الأخ الأكبر يكُن لهُ محبةً كبيرة ولا يرغب في رحيله.”
عند قولي هَذا، نظر إليّ داميان مطولًا.
وبعد لحظاتٍ مِن الصمت، سأل بصوتٍ يملؤهُ الاستغراب الصادق.
“كنتُ أظن أنْ صانعي الأحذية أذكى مِن ذَلك… ويبدو أنني كنتُ مُخطئًا؟”
ثم سحب يده مِن بين يديّ، لكنهُ بالمقابل أمسك بمعصمي.
لَمْ تكُن قبضته قوية، لكن بسبب دفء يده، شعرتُ بوخزٍ في بشرتي. ثم فتح فاهه قائلاً.
“هل هَذا هو حقًا ما يُقلقكِ؟”
شعرتُ وكأنّه اخترق داخلي، فَلَمْ أستطع النطق بكلمة.
ولمّا أومأت برأسي بصعوبة، ارتسمت ابتسامةٌ خفيفة على زاوية شفتيه.
“…الحل بسيط. يُمكن طرد الأخ الأكبر أيضًا. وإنْ لَمْ يُرِد ذَلك، فليطرد الأخ الأصغر باسم الدوق.”
“لكن، الأخ الأكبر…”
حين تردّدتُ في الإجابة، نزع يدهُ ببطءٍ شديد.
وتبعًا لذَلك، لَمْ يَعُد هُناك شيءٌ في راحتي سوى الفراغ البارد.
عيناه البنفسجيتان المُظللتان بالظل.
“مُجرد إحضار أمرٍ شخصي كهَذا إلى السيد الإقطاعي بحد ذاته، يعني وجوب تقبّل أيِّ نتيجةٍ مهما كانت.”
نظر إليّ وكأنّهُ يسألني إنْ كان ذَلك جوابًا كافيًا. فخفضتُ رأسي.
“…أشكرك على نصيحتكَ، سموّ الأمير.”
لقد انتهى الحكم.
لأنهُ مُجرد صانع أحذية، فقد اكتُفي بطرده.
لكن، ماذا لو لَمْ يكُن عمله صنع الأحذية، بل كان العرش نفسه؟
تجمّدتُ مِن الداخل.
لقد فكرتُ كثيرًا في الأمر طوال طريقي في العربة.
كيف يُمكنني أنْ أمنع حادثة التسمم؟
في الرواية، لَمْ يُذكر لي أيِّ مصير.
وهَذا يعني أنّني لَمْ أُقتل أو أُسجَن.
فلو كنتُ قد ارتكبتُ خطأ في رواية إستيل البطلة وثيو البطل، لذُكر ذَلك.
مثلما ذُكر والدنا، الذي لَمْ يكُن له دور، مِن خلال الأحداث.
“سموّ الأمير.”
“ناديني باسمي يا آنسة روز. فنحن خطيبان، أليس كذَلك؟”
قال داميان ذَلك بعد أنْ ارتشف رشفةً مِن الشاي، وابتسم بهدوء.
كانت عيناه البنفسجيتان أشبه بالدوامة.
“داميان.”
كاد لساني يتجمّد حين نطقتُ اسمه.
“نعم.”
“لِمَ أنا؟”
في تلكَ اللحظة، اضطرب الجوّ كما لو أنَّ قطرةً سقطت على سطح ماءٍ ساكن. فتح عينيه على وسعهما ونظر إليّ. وأنا لَمْ أتراجع.
قبضتُ يديّ بإحكام، لكنّهما ارتجفتا. فتحتُ فمي مِن جديد.
“لماذا كنتُ أنا، مِن بين جميع السيدات؟”
كنتُ أظن أنَّ السبب في حادثة التسمم يعود إلى مسألة وراثة العرش. وقتله لدوق موور كان امتدادًا لذَلك.
فوالدي كان رجلاً عنيدًا، ولو كان حيًا، لسعى إلى الإطاحة بهِ مِن العرش بعد أنْ قتل والديه.
ولهَذا، كان عليهِ إزاحة دوق موور أيضًا.
فبعد موت والدي، كيف لنا -نحن الإخوة مِن جناح الإمبراطور- أنْ نتمرّد عليهِ وهو زوجي؟
وربما قتَل إستيل وثيو بعدما ذاع صيتهما، لأنّه رآهما تهديدًا لعرشه.
فأولئكَ الذين لا يرتاحون لفكرة رفع قاتل والديه إلى العرش، قد يختارون إمبراطورًا جديدًا كليًّا.
‘لكن يا داميان…’
لو كنتَ تودّ فقط الحدّ مِن قوة عائلة موور، لكان الأفضل أنْ تختار آنسةً أخرى.
فهل فعلاً اخترتني فقط لتقييد نفوذ عائلتي؟
كان هُناك شيءٌ مشكوكٌ فيه يجعلني أستبعد ذَلك.
وذَلك الشيء هو الفتحة التي يمكنني التسلل مِن خلالها.
ثغرةٌ صغيرة، كشقٍّ في صخرة.
لكن إنْ سكبتَ فيها الماء وجمّدته، يُمكنك تفتيت الصخرة.
ابنة دوق ليتّي، التي رُفّعت أسرتُها حديثًا مِن لقب ماركيز إلى دوق، كانت أكبر مني بعام واحد، وهَذا يجعلها أقرب سنًا إلى وليّ العهد.
صحيح أنهُ لَمْ يكُن بينهما شيء، لكن الحال نفسه ينطبق عليّ أيضًا.
كان داميان يشبّكُ أصابعه ببطء، ونظرتُه الباردة تجول على وجهي.
وانحنت شفتاه بابتسامةٍ ساخرة.
“هل هَذا ما يُثير فضولكِ؟”
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿《التليغرام》
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 4"