طق، طق.
توقّف بيريل، الذي كان يسير خطوتين خلف جستن، في مكانه.
عدّل نظارته المتّسخة كالعادة، ونظر إلى الخلف.
“ما الذي تفعله؟ هيا، أسرع!”
“لكن، السيد جستن…”
“ماذا؟ لا تناديني بجدية بدون سبب.”
“لمَ لم يغضب سموّه؟”
تجمّد جستن عند سؤال بيريل.
لم يكن غضب كيليان صاخبًا كالآخرين، بل كان هادئًا وثقيلًا.
اعتقد بيريل أنّه طريقته للتعبير عن الحزن.
“لمَ لا يبدو سموّه حزينًا؟ هل أنا الوحيد الذي رأى ذلك؟”
عبس جستن وحدّق في يده التي لمست كيليان.
“لا، أنا أيضًا رأيتُ ذلك. ربما لأنّنا التقيناه بعد أسابيع، لكنّه بدا غريبًا. ابن أخي.”
انضمّ جستن إلى بيريل وشبك ذراعيه.
“هل حدث شيء في العاصمة؟”
“بالفعل.”
“الآن وأنا أفكّر، ألم يعد فرسان الفرقة بعد؟”
مدّ جستن رقبته لينظر إلى مارك، الذي كان يقف في نهاية الممر. كان مارك مع غورتن يهدّئان مارشا، التي كانت منهارة من رفض كيليان.
“كيليان، الذي يتبعه الفرسان بشكل أعمي، لمَ لم يأتوا معه؟ هل لم تنتهِ الأمور بعد؟”
عبث جستن بلحيته الخشنة، مفتونًا بملمسها، بينما استمع إلى بكاء مارشا.
“سموّه، سموّنا… كيف ينظر إليّ هكذا… كأنّه رأى شيئًا مقزّزًا؟”
“مقزّز؟ لمَ تبالغين هكذا؟”
“غورتن، أيها العجوز! إذا كنتَ ستزعجني، اخرج من هنا!”
“يا امرأة، كيف أزعجتكِ…؟”
يبدو أنّ كيليان تصرّف بغرابة مع مارشا أيضًا.
ضغط جستن على صدغه كمحقّق يفكّر بعمق.
“يبدو أنّه كان قاسيًا حتى مع مارشا، التي يعاملها كالجدّة. هل يمرّ ابن أخي بمرحلة المراهقة متأخرًا؟”
“… هل تقول هذا بجدية؟”
تسلّلت نظرة بيريل المندهشة من خلف نظارته السميكة.
لكن جستن فقط عبس وهزّ كتفيه.
***
“السيدة ليتريشا، لا تحزني كثيرًا. ربما تصرّف سموّه هكذا من شدّة الإرهاق.”
داعبت ألين ذراع ليتريشا، التي كانت جالسة بلا حراك. جلدها، الذي برد من ريح الفناء، لم يستعد دفئه بسهولة.
“أوو!”
لوّحت ميا، التي كانت تُشعل النار في المدفأة، بحطب بحماس.
“حزن؟ أنا بخير. هل تناول سموّه طعامه؟”
“آه… نعم. سمعتُ أنّه تناول وجبة خفيفة في غرفته.”
“… حقًا؟ انتهى من الأكل بهذه السرعة.”
كانت تكذب حين قالت إنّها بخير.
شعرت بألم حارق في قلبها، كأنّ أحدًا يفرك الملح على جرح.
من فراغ قلبها، لوّحت ليتريشا في الهواء واختبأت تحت الأغطية.
“هل ستنامين؟ وماذا عن العشاء؟”
“سامحيني اليوم فقط، ألين. أشعر بالتعب.”
“لكن الوقت لا يزال مبكرًا، إذا نمتِ الآن، ستصحين فجرًا…”
تردّدت ألين، ثم اختارت تعديل أغطية ليتريشا.
رتّبت الأغطية لتكون مريحة، وسحبت كرسيًا لتجلس بجانب السرير.
“لن تخرجي؟”
“سأغادر بعد أن أتأكّد من نومكِ!”
“أو!”
جلست ميا أيضًا على كرسي بجانب ألين.
أمام عنادهما، تنهّدت ليتريشا بابتسامة.
“حسنًا، افعلا ما تشاءان.”
استدارت ليتريشا بعيدًا عن نظراتهما، وسحبت الأغطية فوق حاجبيها لتحجب الضوء.
“أنا متعب، فلو ابتعدتي قليلاً لكان أفضل.”
تذكّرت صوت كيليان المنخفض الخالي من العاطفة، فشعرت بوجع في قلبها.
تلك النظرات الزرقاء الباردة، التي نظرت إليها كحصاة على الطريق، كانت مخيفة بلا أي دفء.
شعرت ليتريشا بالحزن والارتياح معًا لتغيّر كيليان المفاجئ.
مهما كان السبب، لم تعد قادرة على رفضه بقسوة.
ربما يكون انفصاله العاطفي هو الطريقة الوحيدة لحمايته من ألم الفراق المستقبلي.
حتى لو كانت مشاعرها مجرّد شفقة خافتة، فالأفضل ألّا تكون موجودة أصلاً.
لكن الحزن ظلّ يعتصرها.
‘أنا حقًا متقلبة. ماذا أريد بالضبط…؟’
وبّخت ليتريشا نفسها، ودفنت أنفها في دفترها القديم، مغلقة عينيها بالقوة.
لم تكن تنوي النوم حقًا.
أرادت فقط تهدئة قلبها المضطرب، ثم الذهاب لسؤال كيليان عن تفاصيل ما حدث في العاصمة.
لكن جسدها الضعيف، الذي ينفد طاقته بسرعة، استسلم للنوم.
رغم مقاومة إرادتها، أغمضت عينيها للحظة، ظنّت أنّها لحظة، لكن عندما فتحتهما، مرّت ساعتان تقريبًا.
استيقظت ليتريشا على رائحة رطبة، وخرجت من الأغطية.
كانت الكراسي التي كانت تجلس عليها ألين وميا فارغة، ربما ذهبتا لقضاء حاجة.
كانت الستائر مغلقة لتحمي ليتريشا من ضوء الغروب.
لم تتمكن من معرفة الطقس مباشرة، لكن الجدران الرطبة أشارت إلى سوء الأحوال.
بالفعل، عندما فتحت الستارة، كانت الأمطار ممزوجة بالثلج تُبلل العالم.
نظرت ليتريشا إلى المطر المتحوّل من ثلج إلى ماء، واتّجهت إلى غرفة كيليان حافية دون شبشب.
تغلّب قلقها عليه على برودته في الفناء.
هل تناول المهدّئ؟ ماذا لو عادت نوبات الذعر؟
فتحت باب غرفة كيليان بقدمين متّسختين، ثم أدركت أنّه قد يكون غائبًا.
لحسن الحظ، كان كيليان هناك، جالسًا باستقامة على مكتبه.
“…؟”
رفع كيليان رأسه بميل، كأنّه منغمس في شيء.
“ما هذا؟ لم أسمع طرقًا.”
مع توبيخه لدخولها دون إذن، دوّى رعد وبرق معًا، مضيئًا ظلّه القوي.
عندما خفت الضوء المبهر، تحوّل الثلج إلى مطر غزير.
كان كيليان، الذي يجلس مقابل النافذة المطروقة، هادئًا وهو يسند ذقنه.
لم تكن هناك رائحة المهدّئ في الغرفة.
تراجعت قدماها العاريتان خلف العتبة.
“هل جئتِ لسبب ثم ستغادرين؟”
“أردتُ أن أسأل شيئًا، لكن الوقت متأخر. ودخولي هكذا غير لائق.”
“بما أنّكِ دخلتِ، فالحديث عن الأدب متأخر. بما أنّكِ هنا، قولي. ماذا تريدين؟”
“…”.
حدّقت ليتريشا في الرجل الجميل، الذي سيكون آخر ما تشتاق إليه عند إغلاق عينيها.
“هيا، تكلّمي.”
“فقط… تساءلتُ لمَ كنتَ قاسيًا معي في الفناء.”
“هه؟ ههه.”
ضحك كيليان كأنّه سمع نكتة، ممسكًا بطنه.
“آه، آسف، سيدتي. كنتُ متعبًا جدًا، فلم أنتبه إليكِ. يبدو أنّكِ حزنتِ. لمَ لا تدخلين وتشربين الشاي؟”
“لا، كما قلتَ، أنا حزينة. لا أريد ذلك الآن.”
اقترب كيليان من العتبة عند رفضها.
“جئتِ إلى هنا لتشكي حزنكِ، ثم ستغادرين؟”
“نعم. عندما رأيتُ وجهكَ، شعرتُ بضيق. لن أتمكن من إجراء حوار جيد الآن. سأعود بعد أن أهدأ.”
انحنت ليتريشا واستدارت لتغادر، لكن كيليان ناداها.
“سيدتي، أوقعتِ هذا.”
كان يحمل دفترها الأزرق، الذي سقط عندما فتحت الباب بسرعة.
“عليكِ الاعتناء بأغراضكِ.”
تلقّت ليتريشا الدفتر منه دون تردّد.
“… شكرًا.”
خوفًا من أن يناديها مجددًا، سارت بخطوات واسعة.
مع برق آخر، ظهر ظلّ كيليان عند الباب.
عضّت ليتريشا شفتيها حتى نزف الدم، ملقية نظرة جانبية.
‘كيليان… لا.’
في تلك اللحظة، أمسكت يد ظهرت من خلف عمود بذراع ليتريشا.
“…!”
المترجمة:«Яєяє✨»
التعليقات لهذا الفصل " 76"