38
“ما الّذي يحدث، حقًا…”
أطبقت ليتريشيا على شفتيها وهي تضغط على صدرها بقوّة.
لقد مرّ وقت طويل منذ ابتعدت عن كيليان، لكنّ قلبها المضطرب لم يهدأ بعد.
ظلّ وجه كيليان يتراءى أمام عينيها كصورة متبقّية لا تزول.
زادت قوّة يدها الّتي تضغط على قلبها.
منذ هطول المطر، بدا واضحًا أنّ شيئًا ما تغيّر في ليتريشيا.
كيف يمكن أن يصبح قلبها مضطربًا هكذا فقط لأنّ وجهها اقترب منه قليلًا؟
يبدو هذا كما لو كان شعور شخص يقع في الحب…
عندما وصلت أفكارها إلى هنا، هزّت ليتريشيا رأسها بعنف.
“هه، ما هذا التّفكير الغبيّ.”
كيف يمكنها أن تحبّ أحدًا وهي تعيش حياة قد تنتهي في أيّ لحظة؟
ضحكت ليتريشيا بسخرية على هذا الفكر السّخيف، وهي تمشّط شعرها المتشابك بسبب خطواتها السريعة.
ثمّ لمحت ظلّ شخص يخرج من غرفة ألين.
“من هناك؟”
في البداية، ظنّت أنّه مارك أو بيريل، لكنّ الشّخص الّذي خرج كان غير متوقّع.
“سيّدتي… أوه، يا لعقلي! كان يجب أن أناديكِ السّيّدة ليتريشيا.”
وقف الشّخص عند الباب، متّخذًا وضعيّة غريبة لإخفاء جانب وجهه المغطّى بقناع.
كان رداء مارشا الرماديّ الأبيض، الّذي يغطّي جسدها كدروع، يمتزج مع ظلال الرّدهة، مانحًا إحساسًا بالدفء.
لكن مارشا كانت تنكمش في وضعيّة متوترة، تسحب تنّورتها وأكمامها للأسفل لتغطية ندوب الحروق على كاحليها ويديها.
لم تكن مارشا وحدها في الغرفة.
من خلفها، سُمع صوت “كييك-تاك، كييك-تاك”، صوتٌ مألوف سمعته ليتريشيا من قبل، ثمّ ظهر غورتن.
“أهلاً… يا سيّدة ليتريشيا.”
حاول غورتن إخفاء ساقيه خلف الباب قدر الإمكان، وانحنى بأدب.
“هذه المرّة الأولى الّتي أحيّيكِ فيها هكذا. أنا غورتن، رئيس خدم قلعة الدّوق الأكبر. وهذه مارشا، رئيسة الخادمات.”
دفع غورتن مارشا من خاصرتها، فانحنت هي الأخرى لتحيّة ليتريشيا، ثمّ استدارت بسرعة إلى الجانب.
“مرحبًا، غورتن، ومارشا. لكن لماذا خرجتما من هناك؟”
ردّت ليتريشيا على تحيّتهما واقتربت من الغرفة.
مع كلّ خطوة، كانت أكتاف مارشا وغورتن ترتعشان.
توقّفت ليتريشيا على مسافة غامضة، عاجزة عن الوصول إلى الباب.
“بدوتِ مشغولة يا سيّدة ليتريشيا، لذا اعتنينا بالطّفلة قليلًا. بدا أنّكِ تهتمّين بها…”
عبث غورتن بشواربه الخشنة، وهو يرمقها بنظرة متردّدة.
تبادل غورتن ومارشا النّظرات في الهواء، وكأنّهما يتحدّثان.
‘ألم أقل لكِ ألّا نأتي؟’
‘لكن، بعد أن انكشف أمرنا، أليس من الغريب أن نظلّ مختبئين؟’
كما قالت مارشا، بما أنّهما كشفا بالفعل، لم يكن هناك معنى للاختباء أكثر، فتقدّما.
لكن عندما واجها ليتريشيا هكذا، لم يعرفا كيف يتصرّفان.
صحيح أنّ ليتريشيا لم ترتعب من مظهرهما سابقًا، لكن ألم يكن ذلك بسبب الفوضى حينها؟
في يوم مشمس هادئ كهذا، ألن تقطب جبينها وتشعر بالاشمئزاز؟
تزاحمت الهموم في ذهنيهما، فلم يعرفا كيف يواجهانها.
“حقًا؟ شكرًا لكما. كنتُ أشعر بالذّنب لأنّني لم أهتمّ بألين، لكن بفضلكما، لم يشعر بالوحدة.”
فاجأتهما تحيّة ليتريشيا الودودة في هذا الموقف.
“ظننتُ أنّكما تكرهانني، لكن يبدو أنّني كنتُ مخطئة.”
“مستحيل!”
“كيف ذلك؟”
صدحت صيحتهما في الرّدهة، فاتّسعت عينا ليتريشيا.
“…يا إلهي، أفزعتوني.”
شعرت وكأنّ قلبها يهوي بمعنى مختلف هذه المرّة.
بينما هدّأت ليتريشيا قلبها المرهق، أصلح مارشا وغورتن حنجرتيهما بحرج.
“لا، مستحيل يا سيّدة ليتريشيا. كيف يمكننا أن نكرهكِ؟”
“ظننتُ أنّكما تتجنّبان لقائي.”
“هذا…”
تبادل مارشا وغورتن النّظرات، وتحرّكا بتردّد.
وقفت مارشا تواجه ليتريشيا تمامًا، وأخرج غورتن ساقه من خلف الباب.
كانت عينا العجوزين، اللّذين كشفا عن مظهرهما الحقيقيّ، ترتعشان بلا استقرار.
مهما تراكمت الخبرة، لم يعتادا أبدًا على كشف آلامهما.
“هذا، كما ترين… بسبب مظهرنا هذا. خفنا أن تشعرا بالنّفور من قبحنا.”
أمسكت مارشا بتنّورتها الرماديّة البيضاء بقوّة. شعرت اليوم أنّ رائحة المرهم الحادّة على جسدها تزعجها أكثر من المعتاد.
كذلك غورتن، شعر أنّ ساقه الصّناعيّة بارزة أكثر بسبب بنطاله الأقصر بإنش اليوم. لو كان يعلم، لاختار أطول بنطال.
لكن، على عكس مخاوفهما، لم يتغيّر صوت ليتريشيا عن سابقه.
“هذا مطمئن. كنتُ قلقة داخليًا، شعرتُ وكأنّني ضيفة غير مرحّب بها.”
تقدّمت ليتريشيا بخطوات خفيفة حتّى وصلت إلى مارشا وغورتن، وألقت نظرة داخل الغرفة.
“هل هذا كلّ شيء؟”
أمام ردّ فعل ليتريشيا الهادئ، بدا مارشا وغورتن مذهولين.
نسيا تردّدهما واستدارا بالكامل نحوها.
“أعني… ألا تشعرين أنّنا بشعان أو مزعجان للنّظر؟”
“لا، لستُ كذلك.”
“لا داعي للتّظاهر بأنّكِ بخير من أجلنا. إذا كان مظهرنا يزعجكِ، يمكننا تجنّب الظهور…”
تردّد غورتن وأغلق فمه أمام ردّ فعل ليتريشيا المغاير لتوقّعاتهما.
كانت تنظر إليهما مباشرة دون أن تحيد بنظرها.
لم تحمل عيناها الورديّتان الشّفّافتان أيّ مشاعر خاصّة.
لا مشاعر سلبيّة، ولا شفقة، فقط نظرة عاديّة جدًا.
نفس النّظرة الّتي تراها عندما تنظر إلى مارك أو بيريل.
أغلق غورتن فمه، وهو يشعر بحرقة في أنفه أمام هذه النّظرة العاديّة.
لم تكن كاذبة. كلام ليتريشيا بأنّ مظهرهما لا يزعجها كان صادقًا.
شعر بذلك دون الحاجة إلى المزيد من الأسئلة.
شعرت مارشا بالمثل، فعيناها المشوّهتان بالحروق خلف القناع تراقصتا.
“يبدو أنّ حالة ألين تحسّنت كثيرًا بفضل رعايتكما.”
دخلت ليتريشيا الغرفة، ونظرت إلى مارشا وغورتن اللّذين يقفان أمامها.
“لم نفعل شيئًا يُذكر…”
ابتسمت مارشا بحرج أمام المديح.
يبدو أنّ رئيسة الخادمات ورئيس الخدم أصبحا أكثر اعتيادًا على النّظر إلى ليتريشيا مباشرة.
راقب غورتن، وهو يصحّح حنجرته، ليتريشيا وهي تربّت على رأس ألين النّائمة.
“نأسف، يا سيّدة ليتريشيا. لقد افترضنا خطأً أنّكِ ستتجنّبيننا.”
“والآن، إن سمحتِ، سنخدمكِ بإخلاص من الآن فصاعدًا. بالطّبع، يجب أن نفعل!”
رفعت مارشا قبضتها بحماس، غير راغبة في أن تتفوّق عليها غورتن.
“شكرًا لكما. لكن لا حاجة لخدمتي بإخلاص.”
“ماذا؟ هل أسأنا إليكِ بوقاحتنا السابقة؟”
“ليس كذلك. فقط عاملاني بطبيعية، كما تعاملان ضيفًا يمرّ مؤقّتًا.”
تحرّكت قبضة مارشا أمام كلام ليتريشيا الّذي لا يحمل أيّ طمع أو توقّعات.
“بالمناسبة، هل أنتما من كان يضع السلّة أمام بابي منذ أيّام؟”
قبل أن تجيب مارشا، جاء سؤال ليتريشيا الثّقيل، فتحرّك أنفها بوضوح.
“كيف… كيف عرفتِ؟”
“كيف عرفتِ؟ بالطّبع، السّيّد ديفيس هو من أخبرها! يبدو ثقيل الفم، لكنّه!”
لم تستطع مارشا كبح غضبها، فوضعت يديها على خصرها.
يبدو أنّها تتذكّر لقاءها بمارك في الرّدهة قبل أيّام.
في الحقيقة، طرحت ليتريشيا السّؤال على سبيل التّخمين، لكن ردّ فعلهما أكّد أنّ مارشا وغورتن هما من وضعا السّلة.
“بما أنّ الأمر كذلك، دعينا نوضّح الأمور.”
“مارشا، من فضلكِ. حافظي على اللياقة أمام السّيّدة ليتريشيا.”
“اللياقة؟ ونحن في هذا العمر؟ هه!”
أمسكت مارشا بتنّورتها بكلتا يديها، وقد أصبحت مرتاحة كما لو كانا بمفردهما.
“سيّدة ليتريشيا، الفراولة والشّراب باللّيمون الموجودين في السّلة، أيّهما أعجبكِ أكثر؟”
يبدو أنّهما الطّعامان اللّذان وصلا في السّلة اليوم. المشكلة أنّ ليتريشيا، بسبب انشغالها بزيارة بيتر، لم تفتح السّلة بعد.
لكن الجوّ بدا وكأنّ مارشا وغورتن سيصابا بخيبة أمل إن قالت الحقيقة، فأجابت وهي تعصر منشفة مبلّلة لألين:
“أنا أفضّل اللّيمون نوعًا ما.”
“حقًا!”
“غورتن، أيّها العجوز، ألم أقل لكَ؟ اللّيمون أفضل من الفراولة!”
المترجمة:«Яєяє✨»
التعليقات لهذا الفصل " 38"