الفصل 16
“إذن، كيف حالها؟”
“نعم، ماذا؟”
عند سماع صوتٍ مخيفٍ يثير الرعب قادمٍ من الخلف، ارتجف بيريل، الذي كان يعقّم جرحًا خفيفًا على ليتريشيا، وارتعدت يداه.
من جرّاء ذلك، انزلق المشرط من يده وسقط على الأرض. صوتٌ نقيٌّ صافٍ رنّ في الهواء دون اكتراث.
“آسف، آسف! سألتقطه فورًا!”
مسح بيريل نظّارته المتعرّقة بنزق، ثم انحنى.
بينما يتظاهر برفع المشرط، مسح بيريل قطرات العرق المتراكمة على أنفه بطرف كمّه.
‘ما هذا الموقف بحقّ خالق السماء؟’
لم يستطع بيريل فهم هذا الموقف على الإطلاق. لماذا، بحقّ خالق السماء، يتواجد الدوق الأكبر هيبيروس هنا؟
كلّ ما في الأمر أنّه جاء إلى هنا مع فارس سيلفانو للبحث عن شخصٍ ما، لا أكثر.
قبل أيّامٍ قليلة، بينما كان بيريل لا يزال عاجزًا عن إيجاد أيّ خيطٍ لعلاج مرض ليتريشيا، وصله طردٌ غامض.
لم يُذكر في الطرد اسم المرسل أو عنوان الإرسال، وكان يحتوي على كتابٍ واحدٍ فقط.
كان بيريل، الذي يفخر بقراءته لكلّ الكتب الطبيّة الموجودة في الإمبراطوريّة، لم يرَ هذا الكتاب من قبل.
ومع ذلك، بفضل ذلك الكتاب، استطاع أن يجد خيطًا لعلاج مرض ليتريشيا.
‘لكن، هل المرسل لذلك الكتاب هو الدوق الأكبر هيبيروس؟’
نقرة. بعد أن رفع نظّارته التي انزلقت على أنفه، استقام بيريل في وقفته.
عيناه، خلف نظّارته الملطّخة بالزيوت، تفحّصتا ليتريشيا.
“الآنسة، باستثناء خدشٍ طفيف، لا يبدو أنّها تعاني من إصاباتٍ كبيرة.”
“هل أنت متأكّد؟ لكن لماذا فقدت وعيها؟ بدا أنّ رؤيتها مشوّشة أيضًا.”
أزال كيليان، الذي كان مستندًا على ذقنه وغارقًا في كرسيّه، يده من وجهه.
تحرّكت تلك اليد نحو شعره الفضّيّ البرّاق، ثم نقرت برفقٍ على مؤخّرة رأسه.
“يبدو أنّها اصطدمت برأسها عندما سقطت. ألم يتسبّب ذلك في أيّ مشكلة؟”
“لا، ليس الأمر كذلك. سموّ الدوق الأكبر، لا أعلم إن كان هذا التعبير مناسبًا، لكن…”
“تابع.”
بينما كان بيريل يحاول إيجاد كلماتٍ مناسبة أمام الدوق، لوّح كيليان بيده بلا مبالاة.
“بفضل جسد سموّك، الذي امتصّ الصدمة كوسادة، لم تكن الصدمة التي تلقّتها الآنسة كبيرة.”
أومأ بيريل برأسه بعد أن لاحظ أنّ حركة إحدى يدي كيليان كانت متصلبة.
“فقدان الآنسة للوعي يعود إلى مرضها. هناك شيءٌ يشبه الورم في رأسها، أثار عصبها البصريّ مؤقّتًا.”
أثناء إخراجه لأدوات علاج عظم كيليان المكسور، راقب بيريل تعابير وجهه.
كما توقّع، لم يبدُ كيليان متفاجئًا، كما لو كان يعرف هذا الأمر مسبقًا.
“لكن كما أخبرتك، إنّها ظاهرة مؤقّتة، لذا ستتحسّن قريبًا، سموّك. لكن، هناك أمرٌ آخر.”
“ما الأمر؟”
تردّد بيريل، ثم أخرج من جيبه علامة كتابٍ سلّمه إيّاها بيل.
“لقد أعطاني هذا أحد فرسانك. هل… أنت من أرسلت لي الكتاب الذي يتضمّن تفاصيل مرض الآنسة؟”
“نعم. لذلك أرسلتُ لك تلك العلامة اليوم، أليس كذلك؟”
“لكن، كيف عرفتَ بمرضٍ لا يعرفه حتّى الأطبّاء… ولماذا أرسلته لي؟”
خرجت كلمات بيريل متقطّعة من دهشته.
“حسنًا، لأنّني شعرت أنّك قادرٌ على علاج مرض ليتريشيا؟”
“أنا آسف، سموّ الدوق الأكبر، لكنّني لا أملك تلك القدرة. لولا الكتاب الذي أرسلته، لما استطعتُ حتّى تشخيص مرض الآنسة. حتّى الآن، لم أتمكّن من تحديد سبب المرض.”
أمال كيليان رأسه بشكلٍ متشكّك ردًا على كلمات بيريل المتردّدة.
“منذ متى تمّ تعيينك طبيبًا لعائلة إيستا؟”
“لماذا تسأل فجأة؟… لقد مرّ أكثر من عشرين عامًا.”
“إذن، عندما تمّ تبنّي ليتريشيا وحادث العربة، كنتَ أيضًا تابعًا لعائلة إيستا.”
“نعم، هذا صحيح. في ذلك الوقت، تمّ إنقاذ الآنسة بسلام، لكنّها أصيبت بجروحٍ خطيرة في رأسها. لذا استخدمتُ حجر السحر بنفسي لعلاجها…”
بينما كان بيريل يسترجع ذكرياته الضبابيّة، فتح عينيه فجأة كما لو أصابته صاعقة.
“هل… هل العلاج الذي أجريته آنذاك هو الذي تسبّب في المشكلة؟”
“كما هو متوقّع من طبيب عائلة إيستا. ذكاؤك لا يُضاهى.”
شعر كيليان برضا كبيرٍ من سرعة بديهة بيريل، وهو يعبث بذراعه المكسورة.
“صحيح. القوّة السحريّة لحجر السحر الذي استخدمته آنذاك تفاعلت مع جلطة دمويّة متراكمة في دماغها، ممّا شكّل كتلة.”
كلّ ما يقوله الآن كان حقائق اكتشفها بيريل في حياته السابقة بعد عامين ونصف من البحث.
بالطّبع، سيكون من الأفضل لو أخبره مباشرة بطريقة صنع العلاج دون هذا التحليل الطويل، لكن للأسف، كيليان في الماضي سمع فقط أنّ العلاج تمّ تطويره، دون معرفة التفاصيل، لذا كان ذلك مستحيلًا.
ومع ذلك، بهذه المعلومات، يمكن لبيريل أن يجد خيطًا للعلاج قريبًا.
“هذا…”
في هذه الأثناء، كان بيريل، المصدوم من كلام كيليان، يمسح فمه الجافّ.
“أنا، أنا فقط استخدمتُ حجر السحر لإنقاذ الآنسة، لم يكن لديّ أيّ نوايا أخرى!”
“أعلم. في ذلك الوقت، كان ذلك أفضل علاجٍ متاحٍ لك. لكن بغضّ النّظر عن النيّة، أليس من الصحيح أنّك تتحمّل جزءًا من مسؤوليّة مرض ليتريشيا؟”
“هذا…”
“سأعطيك عامًا.”
طقطقة.
دون أن يتغيّر تعبير وجهه، أعاد كيليان تهيئة عظمه المكسور، ثم مدّ ذراعه إلى بيريل الذي يحمل جبيرة.
كلّ هذا العمل كان هادئًا بشكلٍ غير واقعيّ، ممّا جعل العرق البارد يتدفّق على ظهر بيريل.
“اعثر على العلاج خلال هذا العام. إذا أردتَ أن يبقى رأسك على جسدك بعد عامٍ من الآن.”
***
“حسنًا، سأعود الآن، سموّ الدوق الأكبر. لديّ الكثير من المواد التي يجب أن أراجعها!”
بمجرّد انتهائه من علاج ذراع كيليان وتنظيف الجبيرة والضمادات، خرج بيريل من الغرفة مذعورًا كما لو كان يهرب.
صرير- طق.
بعد أن شاهد الباب الصدئ، الذي لم يُستخدم منذ زمنٍ طويل، يُغلق، غرق كيليان في الكرسيّ أمام السرير.
“هوو.”
أطلق تنهيدةً تحمل الإرهاق، وأخرج كيليان سيجارًا من علبته.
وضع كيليان السيجار في فمه، وأسند رأسه إلى ظهر الكرسيّ.
“الأمور تسير بسلاسة.”
نقرة، نقرة.
كانت يده الخالية من الضمادات تلعب بغطاء الولّاعة، تفتحه وتغلقه مرارًا.
حسنًا، ماذا يجب أن أفعل الآن؟
تجوّلت عيناه الزرقاوان، الخاليتان من النّظرة المهدّدة، بشكلٍ شاردٍ نحو السقف.
لقد وجد طبيبًا ليبحث عن العلاج، وأقسم على الزواج أمام الإمبراطور ليربط ليتريشيا إلى جانبه.
لكن سؤالًا واحدًا ظلّ يزعجه كخدشٍ تحت الظّفر.
ليتريشيا، التي تخلّت عنه وغادرت في الماضي، هل هناك ضمانٌ أنّها ستبقى إلى جانبه في هذه الحياة؟
عندما يتذكّر ليتريشيا في حياته السابقة، تبدو هذه الفرضيّة ضعيفة.
تذكّر كيليان تعبيرها، وكأنّها لا تملك أيّ تعلّقٍ بالعالم، وكأنّها قد تغادر فجأة إلى مكانٍ ما، فبرزت عضلة فكّه.
“إذا كانت قد غادرت لعدم وجود تعلّق، فكلّ ما عليّ فعله هو خلق تعلّق.”
نعم. إذا غادرت ليتريشيا في الحياة السابقة لعدم وجود سببٍ للبقاء إلى جانب كيليان، ففي هذه الحياة، كلّ ما عليه هو خلق سببٍ يمنعها من المغادرة.
سببٌ قويّ، كتعلّقٍ عميقٍ لا يمكنها التفكير في التخلّي عنه.
صرير.
مضغ كيليان السيجار بعنفٍ وأمال الكرسيّ إلى الخلف.
“إذن، ما الذي يمكن أن يكون تعلّقًا مناسبًا؟”
ثروةٌ هائلة؟ جيشٌ قويّ يستطيع إبادة كلّ شيء بحركة يد؟
أم ربّما إعطاؤها الكثير ممّا تحبّ؟
لكن… ما الذي تحبّه ليتريشيا؟
“تبًا. ”
تفوّه كيليان بلعنةٍ وهو يفكّر في الاحتمالات المختلفة.
لم يستطع التذكّر. ما الذي قد يجذب ليتريشيا؟
يتذكّر العلاج وكلّ تلك التفاصيل، لكنّه لا يتذكّر ما تحبّه ليتريشيا، أو ما كانت تستمتع به، أو ما كانت تفكّر فيه.
كان ذلك طبيعيًا.
في الماضي، قضى كيليان معظم وقته خارجًا، ولم يهتمّ يومًا بمعرفة هذه الأشياء.
“فجأة، أشعر بالغضب من نفسي في الماضي.”
توقّف كيليان عن إشعال السيجار بنزق.
ثمّ، طق، كسر السيجار إلى نصفين.
تذكّر صورة ليتريشيا وهي تسعل بشدّة بسبب دخان السيجار بجانبه.
“آه، الآن أتذكّر شيئًا تحبّه. يبدو أنّها كانت تحبّ الرسم…”
ألقى بالسيجار المكسور على الطاولة بعشوائيّة، وفتّش جيبه ليخرج دفترًا صغيرًا بحجم كفّ اليد.
عند عودته عبر الزمن، جاء معه بعض الأغراض، منها خاتمٌ تقاسمه مع ليتريشيا وهذا الدفتر.
كان الدفتر الأزرق المهترئ مزيّنًا بزهرةٍ صفراء مرسومة.
كان دفترًا منقوشًا بحروفٍ بارزة، قدّمه كيليان يومًا ما لليتريشيا، وكان الشيء الوحيد الذي تركته وراءها في قصر الدوق.
بينما كان يفكّر وهو يتلمّس الزهرة التي رسمتها ليتريشيا، استدعى كيليان مارك، الحارس عند الباب.
“هل استدعيتني، سيدي؟”
“مارك، أين تقع أكبر متاجر الأدوات الفنيّة في هذه المنطقة؟”
“ربّما في ساحة إيروبيل. لكن لماذا تبحث عن متجر فنون؟ هل تنوي استخدامها بنفسك، سيدي؟”
تخيّل مارك كيليان يحمل فرشاةً بدلاً من سيفٍ أو قلم، فبدت تعابيره غريبة.
نظرة مارك، التي كأنّها تسأل لماذا يبحث عن شيءٍ لم يزره طوال حياته، جعلت كيليان يشير إلى ليتريشيا.
“ليس لي، بل لها.”
“الآنسة إيستا؟”
“نعم. أفكّر في كسب ودّها قليلاً. أريد أن أعطيها ما تحبّ.”
“ماذا؟”
تغيّرت تعابير مارك إلى شيءٍ أكثر غرابة.
على الرّغم من طباعه المتينة كدبّ، لم يظهر ذلك، لكن في داخله، كان مارك متحمّسًا مثل بيل.
ليس فقط لأنّ سيّده، الذي لم يهتمّ يومًا بالآخرين، عقد قرانًا مفاجئًا مع الآنسة إيستا، بل لأنّه يحضّر هديّة لكسب ودّها. أمرٌ كأنّ الشمس تشرق من الغرب.
‘إذا علم بيل بهذا، سيقيم ضجّة.’
تصوّر مارك بيل وهو يثرثر متحمّسًا كعصفور، فهزّ رأسه.
مجرد التفكير في الأمر جعل أذنيه تصطكّان.
“مارك، لمَ تقف مذهولًا؟ يجب أن نذهب ونعود قبل أن تستيقظ ليتريشيا، فتحرّك فورًا.”
“ماذا؟ إلى أين… هل تقصد متجر الأدوات الفنيّة؟”
تحوّلت عينا مارك نحو القمر الهلاليّ في السماء.
كانت الساعة تقترب من منتصف الليل.
بمعنى آخر، ليس وقتًا ليكون متجر الفنون مفتوحًا، بل مغلقًا.
عندما قال ذلك، نظر كيليان إلى مارك كأنّه يقول: وماذا في ذلك؟
“إذا كان مغلقًا، افتحه. أليس هذا كلّ شيء؟”
“حسنًا… سأنفّذ الأمر.”
أمام موقف كيليان، الذي بدا وكأنّه يرفض تفسيراتٍ تافهة، أغمض مارك عينيه بقوّة.
يبدو أنّ سيّده أصبح غريبًا بعض الشيء منذ مغادرته قاعة الحفل.
—
المترجمة:«Яєяє✨»
التعليقات لهذا الفصل " 16"