تحملت عواقب أفعال والدتي المتجسدة [ 71 ]
حين خرجت إلى سطح السفينة، وقع بصرها على ظهر رجلٍ كان يحدّق في الأفق.
التفت إدغار إليها بطرف عينه وهو يقف مائلاً بعض الشيء، ثم سألها:
“هل أعجبك الأمر إلى هذا الحد؟ إلى درجة أن تراهنِي بحياتك؟”
“بالطبع، فقد كنت أظن أنني أعرف فقط عن أمي، لكن حين علمت أنك تعرف عن أبي أيضاً، فكرت أنه يجب أن أتمسّك بك مهما كلّف.”
في لحظة خاطفة تلاشى ذلك الابتسام الخفيف عن وجه الرجل.
مسح إدغار جبهته بتعبير ينضح بانزعاجٍ خفي، كأن شيئاً ما عاد إلى ذاكرته.
“……بم كنتِ تفكرين؟”
“بمَ تعني؟”
“بأي ثقة قفزتِ؟”
“باهتمامك المفرط بقوتك.”
قهقه بخفّة كأن الأمر يثير سخريته، ثم ما لبث أن رسم ابتسامة مرة على شفتيه.
لاحظت إستيل ذلك الوجه الموحِي وكأنّه يستحضر شيئاً ما، فثبتت نظرها فيه لتستكشف مصدره. زفر إدغار وقال:
“إياكِ أن تكرري ذلك مرة أخرى.”
“أوه… أن تقول شيئاً كهذا! تبدو لأول مرة كأنك إنسان راشد.”
هتفت إستيل بدهشةٍ صادقة ثم نقرت بذراعها طرف ساعده وضحكت ضاحكةً خفيفة.
“ألآن فقط بدأت تقلق؟”
“أُقِرّ بأن دوائرك السحرية متقنة، وأن دم الساحرة العظيمة انتقل إليك صافياً. لكنك رغم ذلك مجرد مبتدئة. هفوة واحدة قد تجعلك تغرقين في البحر وتموتين ميتةً بائسة.”
“لكي أجعل إدغار يخاطر بحياته من أجلي، لا بد أن أخاطر أنا بحياتي مرة واحدة على الأقل. هكذا تكون العدالة.”
أُخذ الرجل على حين غفلة، فارتجف جفناه وأدار رأسه سريعاً.
الظلام حال دون قراءة ملامحه.
راحت إستيل تدلّك ذراعها المتألمة من الإجهاد وتثرثر:
“لكن… هل كان لأمي عشيق مثلاً؟ سيدريك يقول إنه لا يعرف، فقلت لنفسي لعلّك أنت الذي تعرف كل شيء بشكلٍ مريب، تعرف شيئاً… ماذا؟ ما بك؟”
فجأة، أحسّت بيده على رأسها، فعقدت حاجبيها ونظرت إليه غاضبة.
داعب الرجل قمة رأسها المدورة بين أصابعه لبرهة قبل أن يبتعد عنها بملامح غريبة.
نظرت إستيل منزعجة، ثم ضربت ذراعه بقوة.
تمتم إدغار، وهو يحدّق في يده وكأنه مرتبك قليلاً:
“أنتِ حقاً صغيرة.”
‘هذا المزعج…!’
هي ليست أقصر من غيرها، لكن الآخرين من حولها طوال بشكل مبالغ فيه، فيبدو الفارق صارخاً.
أغمضت عينيها بحدة وفتحتها لتزأر:
“لستُ صغيرة! أنتم فقط ضخام…! على كل حال، هل ستستمع إليّ؟”
“ساحرة عظيمة وعندها عشيق؟ هذه أول مرة أسمعها. ليس من طبعها أن تتورّط في أمر شاق كهذا.”
“حقاً؟ إذن لعلها مجرد قصة أخرى من تلك القصص التي لا يعرفها أحد…”
ما إن لفظت “قصة لا يعرفها أحد” حتى اتقدت عينا إدغار بوميضٍ حاد.
بدا واضحاً أنّه لا يستطيع مقاومة أي اكتشافٍ جديد يخصّ الساحرة العظيمة.
ابتسمت إستيل بخبث وسألته مداعِبة:
“لكن قبل ذلك، كيف عرفتَ أبي؟”
“…….”
“أخبرني، وسأخبرك أنا أيضاً.”
راقبته وهي تلقي كلماتها بمهارة.
ابتسم إدغار بسخرية وشبك ذراعيه متخذًا وضعاً دفاعياً وقال:
“التقيتُ به مرة واحدة، وأنا طفل صغير.”
“مذهل… ومن لقاءٍ عابر استطعتَ تمييز قوته السحرية؟”
“طبعاً، فأنا عبقري.”
رفعت إستيل بصرها نحوه مبتسمة.
لكنها كانت تدرك أنه يكذب.
امتزج غروره المعتاد بوجهٍ متماسك حتى كاد أن يبدو صادقاً، غير أن عينيها المعتادتين على تمييز الكذب، لم تُخدَع.
كان يكدّ كل طاقته ليقول كذبة.
إذن لأقل أنا الحقيقة، وأرى كيف سيتفاعل.
هزّت كتفيها وقالت:
“الأمر بسيط… لقد عرفت لماذا تريستان بلانشيه عقد اتفاقاً مع شيطان.”
“وهذا أمر بسيط؟”
ضحك وهو يرسم دائرة سحرية لإيقاف السفينة، فأجابته إستيل بابتسامة متحدّية:
“فقط لأنه أحب زوجته كثيراً.”
في تلك اللحظة توقّفت يد إدغار فجأة بعدما كانت تتحرّك بانسياب في رسم الدائرة.
التفت إليها ببطء كآلة صدئة تصدر صريراً، وكانت ملامحه تحمل مشاعر معقدة لا تستطيع وصفها.
أشاح بوجهه بسرعة كأنّه يخشى أن يُفتضح ما يخفيه، ثم استأنف بهدوء رسم الدائرة التي تلاشت في الهواء.
ساد بينهما صمت ثقيل لا نهاية له.
‘ما الأمر؟’
كانت إستيل تعرف أنّ إدغار كتوم بشأن نفسه، لكنها لم تتوقع أن يهتزّ بهذا الشكل.
لمّا همّت بقول شيء، قاطعها صوته البارد:
“لا تحدّثيني اليوم.”
“ماذا؟”
لم تكن تتوقع ردة فعل بهذه الحدة.
توقفت مذهولة، فيما تجاوزها إدغار بخطوات سريعة.
‘ما هذا؟ هل كان كلامي يستحقّ أن يقطع علاقته بي؟ هل أخطأت إلى هذا الحد؟’
ظلت جامدة مرتبكة حتى خرج سيدريك من المقصورة ممسكاً بلوتشي، فتأمّل هيئتها وقال وهو يقطّب حاجبيه:
“ما الأمر؟ لمَ تقفين كالسنجاب المذعور؟”
“آ-آه….”
“أين ذهب ذلك الرجل؟”
تأوهت إستيل وهي تلتفت نحو سيدريك، متلعثمةً:
“ه-هل… هل تشاجرنا؟”
“في تلك الأثناء القصيرة؟”
“أظننا… أظننا تشاجرنا؟ هاه؟ ماذا…؟”
وبينما كانت تحدق مذهولة بظهر إدغار الذي كان قد غادر السفينة من دون أن تشعر، رفعت عينيها المرتبكتين نحو سيدريك.
‘لقد خاطرت بحياتي لأجذبه إلينا، فهل يمكن أن يضيع كل ذلك بسبب كلمة واحدة؟’
ابتعد سيدريك بنظره عنها وتمتم:
“الأرجح أنّ الخطأ من ذلك الرجل.”
“لا، أظن أن الخطأ مني أنا―”
“كلا، هو المخطئ… أعني ذلك الرجل.”
‘ولِمَ هذا الرجل فجأة صار يدافع عني بشكل أعمى؟’
لم تكن إستيل تعرف ما دار في البحر ولا ما كان يدور في ذهن سيدريك، فحدّقت فيه بعينين يملؤهما الاستفهام.
***
‘نعم، لقد كان شجاراً، لكن العمل يظل عملاً.’
صحيح أنها وإدغار لطالما تناشزا بالكلمات، لكن لم يحدث أن أظلم الجو بينهما إلى هذه الدرجة، وهذا أثقل قلبها.
ومع ذلك لم تكن إستيل من النوع الذي يُسقط انزعاجه على الآخرين.
ما إن نزلت من السفينة حتى أسرعت إلى زيارة الشيخ الصياد.
لم تُطل الشرح، بل اكتفت بإخباره أن الوحش قد اختفى، وأن شباكهم لن تتمزق بعد الآن.
ثم راحت تجوب بيوت القرية، تبشّر بابتسامةٍ أنها سترحل قريباً.
أبدى القرويون أسفاً بالغاً.
أما رفيقاها، فكانا يقفان وراءها كخلفيةٍ صامتة مذهولين من قوة ألفتها.
ولم تمهلهما الأحداث فرصةً للتدخل، حتى وقعت المفاجأة.
“لقد أعجبني هؤلاء الغرباء بعد زمن طويل، ما رأيكم أن نقيم مهرجاناً؟”
“فكرة رائعة!”
“آه، لكننا في الواقع علينا متابعة طريقنا…”
“الوقت متأخر على كل حال! ليلة واحدة لن تضر، أليس كذلك؟”
وهكذا، تحولت القرية كلها في لمح البصر إلى ساحة احتفال.
في البداية، شعرت إستيل بالامتنان:
‘قريةٌ اشتهرت بنبذ الغرباء، وها هم يكرموننا هكذا.’
لكن شيئاً فشيئاً بدا الأمر مجرد ذريعة لاحتفالٍ شعبي.
ومع ذلك، كان الطعام لذيذاً وألعاب الأطفال مبهجة.
حتى لوتشي التي بدت مرتبكة لأول مرة ترى فيها أطفال البشر، صارت فجأةً قائدتهم الصغيرة، تقودهم هنا وهناك.
منذ أن ارتكبت خطأً صغيراً في اختيار الضحية للسرقة، فاضطرت منذ ذلك اليوم إلى حمل عبء “إنقاذ العالم”، لم تذق طعماً لمثل هذه السكينة.
إلا أن شيئاً كان يثقل خاطرها…
“إلى متى سيظل ذاك الرجل على حاله؟”
تمتمت وهي تحدق في إدغار الذي كان يوزّع ابتساماتٍ شكلية على من يقترب منه ثم يصرفهم بلطف، ليبقى جالساً وحده.
التفت سيدريك ونظر نحوه بدوره، ثم أجاب بلا مبالاة:
“قال أن أتركه وشأنه حتى اليوم، فسيبقى هكذا إلى اليوم. أما إن ظل هكذا حتى الغد…”
“حتى الغد؟ وماذا ستفعل إذن؟”
لكنه صمت كمن لا يريد إكمال الجملة.
غرست إستيل السيخ الخشبي الفارغ في الأرض بمرح وقالت:
“قلها كاملة. ماذا ستفعل؟ هل ستشهر سيفك مجدداً؟”
“لستُ من ذلك الصنف الذي يحلّ كل خلافٍ بالقوة.”
“لكن… لا بد أنك لوّحت بسيفك أكثر مني على الأقل.”
“هذا صحيح.”
‘كيف تراها تنظر إليّ؟’
لطالما لم يبال، لكن فجأة صار يضايقه الأمر.
ارتسمت على نبرته مسحة انفعال، فأضحكتها وهي تراقب إدغار يشرب وحيداً كأساً بعد أخرى.
“لو أنني وصلت متأخرة قليلاً حينها، هل كنتَ ستقتل إدغار يا سيدريك؟”
“……أنا أؤمن بضرورة تقليل الخطر. من يحتمل أن يخون لا ينبغي إبقاؤه حياً. قد يعود خطراً أعظم.”
“صحيح، هذا هو مبدأك.”
مبدأ…
الكلمة وخزت صدر سيدريك وكأنها رمح.
ومع رؤيته لنظرات إستيل التي لا تنفك تتجه نحو إدغار، مدّ يده وأمسك بذقنها فالتفتت إليه بعينين متسعتين كأنها تقول: أهذا عتاب؟ هل سنختلف نحن أيضاً اليوم؟ ما الذي يحدث؟
“بصراحة، لا أفهم كيف تستطيعين الوثوق بإدغار.”
ضغط على خدها بلطف بكفه، فأنّت “أوي!” وحاولت التملص.
كان فعلاً حميماً، بل وربما أقرب إلى المغازلة، لكن وجهه الجامد جعلها لا تفكر في ذلك كثيراً.
مسّت بأصابعها الموضع الذي لامسته يده وأجابت:
“أمر يصعب شرحه… ربما مجرد إحساس.”
“لكني استغرقتُ وقتاً أطول حتى تثقي بي.”
ما إن رأى اتساع عينيها بدهشة حتى أدرك أنه قال ما لا ينبغي.
لم يكن عليه أن يكشف عن تلك الضيقة في صدره.
لم يتبعها ليُعترف به أو يُقدَّر، ومع ذلك كان لا إرادياً يوازن بين ما تكنّه لغيره وما تكنّه له.
وبينما يتردّد هل يخفف من وطأة كلماته أم يتركها لتسمع جوابها، جاءه الرد:
“أريد أن أسألك شيئاً.”
“ما هو؟”
“هل ما زلتُ أنا أيضاً ضمن مبادئك؟”
وسط كل تلك الجلبة، كان صوتها وحده جليّاً مسموعاً.
****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات لهذا الفصل " 71"