بعد أن قضت لحظات تتأمل وحدتها وقفت إستيل بعزم. لوّحت بيديها بقوة لجذب انتباه الرجلين ثم قالت:
“مع ذلك ستأتي معنا، أليس كذلك؟“
“بهذا الدائرة السحرية التافهة تظنون أنكم تستطيعون سحبي…”
“صحيح أنها تافهة، لكنها من صنع الساحرة العظيمة، صحيح؟ ثم كما قلتَ قبل قليل، إن أتيت معنا قد ترى أشياء تفوق هذا سوءًا، فهل تقدر على مقاومة الفضول؟“
ثم أمسكت إستيل كمّ معطف إيدغار بإحكام تحسبًا لأي محاولة هروب، وأضافت:
“ثم إنك قدّمت استقالتك بالفعل. ألم يقل لك العميد أن تُخلي غرفتك فورًا؟ لم يعد لديك مكان تذهب إليه على أي حال، فلتجمع معلوماتك البحثية ولننقذ العالم سويًا ونحن في طريقنا.”
ضحك إيدغار ضحكة خافتة كمن لا يصدق ما يسمع لكنه سرعان ما أدرك أنه لم يعد بوسعه رفض عرضها. عبث بشعره بانزعاج ثم قال بنبرة حازمة:
“…حسنًا، لكن اسمعي. أنا لا أنوي التضحية بحياتي. إنقاذ العالم؟ هدف نبيل لا أنكر.
أجل، سأساعد لأنني انسقت وراء فضولي البحثي. لكن لو جاء وقت يجب أن أضحي فيه بنفسي سأكون أول من يفر.”
“همم، حقًا إنك شخص حقير.”
رغم الطعنة المباشرة التي وجّهتها إستيل لم يظهر على إيدغار أي ارتباك بل ابتسم باهتمام ورد بهدوء:
“صحيح، لكنك قلتِ إنك بحاجة إلى شخص مثلي أليس كذلك؟“
نظرت إستيل إليه صامتة، إلى هذا الرجل الذي اعترف دون خجل بأنه سيهرب ويتركها إن لزم الأمر. ثم نظرت إلى كفّها.
لقد خرجت في مهمة لإنقاذ العالم بكل جرأة. لأنهم قالوا إن لا أحد غيرها قادر على فعل ذلك وإنها الطريقة الوحيدة لإنقاذ الأرواح الكثيرة. فقط لذلك تطوعت. ومع ذلك كفها خالية تمامًا.
فهي لا تجيد استخدام السيف مثل سيدريك. ولا تملك مهارات إيدغار كمُستخدم سحر. ما تملكه فقط هو قدر من القوة السحرية الكامنة. أي أن يدها الآن خالية من كل شيء.
هل كان ذلك شجاعة أم تهورًا؟ ربما كلاهما، كما رأت إستيل. لكنها هي من اتخذت القرار ولا يحق لأحد الاعتراض.
ابتسمت ابتسامة مشرقة وقالت:
“مزعج فعلاً، لكن نعم. أريد من إيدغار أن يساعدني. ولكن بطريقته كمعلم. هكذا فقط أستطيع أن أتمكن من شيء أتشبث به عندما أواجه الشيطان.”
رفع إيدغار حاجبيه متفاجئًا من جوابها، وسأل ليتأكد:
“يعني لا تريدي مساعدة مباشرة فقط أن أعلّمك؟“
“نعم!”
“مع أنكِ قد تنهارين أو تهربين قبل أن تقابلي الشيطان؟“
“صحيح، لكنني سأبذل جهدي حتى ذلك الحين.
وإن هربت فلك ذلك.
فقط لو متّ… على الأقل احضر جنازتي.”
إن لم يكن في يديها أي قوة الآن، فليس بوسعها سوى أن تبذل قصارى جهدها. ولذا لا خيار لها سوى ذلك.
بدا أن إبدغار يفكر بشيء ما وهو يحدق بإستيل بصمت. وكأن شقاوته الطفولية قد تلاشت، نظر إليها بعينين ساكنتين قاتمتين بثبات. لكنها لم تتراجع بل قابلته بابتسامة جريئة.
30 ثانية… 40… 50 ثانية… ومع أن نظراته الخضراء أصبحت ثقيلة الوطأة مع مرور الوقت، مدّ يده مبتسمًا.
“حسنًا تلميذتي.”
“واه! أنا إستيل بلانشيه!”
أمسكت إستيل بيد إيدغار بكلتا يديها وابتسمت بسعادة. بدأت تشعر بأنها اعتادت أخيرًا على قول هذا الاسم. نظرت من النافذة ورأت أن الشمس قد غابت فجأة فتثاءبت بكسل. لقد اكتشفت دائرة سحرية غريبة وتعاملت مع ساحر أغرب… كان يومًا طويلًا جدًا.
“فلنبدأ دروس السحر من الغد، ما رأيك؟“
“حسنًا، أنا أيضًا بحاجة لحزم أمتعتي. أراكِ غدًا. إن أردتِ الذهاب فاذهبي، وإن لم تريدي، فلا.”
استدار إيدغار بلا اهتمام بينما همّت إستيل بالخروج مع سيدريك، لكنها استمرت في التطلع إلى الخلف. أما إيدغار، فلم يبالِ، بل استمر في تقليب أغراضه وأخذ ما يحتاجه.
خطت خطوة ثم نظرت خلفها مجددًا ثم خطوة أخرى ونظرة أخرى. عندها سألها سيدريك:
“هل نسيتِ شيئًا؟“
“لا، فقط…”
ترددت إستيل قليلًا ثم عضت شفتها وركضت مسرعة نحو إيدغار الذي كان يقلب أكوام الوثائق بلا نظام. وعندما لاحظ سيدريك أنها تتوجه نحوه بتلك السرعة، تصلب وجهه قليلًا.
‘لماذا تتصرف وكأنها لا تريد فراقه…؟‘
وفجأة، احتضنت إستيل إيدغار من الخلف بإحكام. قفز سيدريك من مكانه دون أن يشعر.
‘م–ما الذي تفعله الآن…؟!’
“لن تهرب، أليس كذلك…؟“
“…ما هذا؟“
“إن هربت، لن أسامحك… حقًا…”
“ما هذا الهراء؟! ابتعدي! أنا أجهز أغراضي لأذهب معك، ألا تثقين بي إلى هذا الحد؟“
نظرت إستيل إلى الحقيبة في يد إيدغار.
ثقة… ثقة، ها؟
استعرضت في ذهنها تصرفاته السابقة، ثم مالت برأسها وقالت بعينين مفتوحتين:
“كيف أثق بك؟!”
صرخ إيدغار غاضبًا مطالبًا بأن تتركه وبدأ يجرها وهو يحاول أن يحرر نفسه منها، لكنها تمسكت به بإصرار وانساقت خلفه دون مقاومة. نظر إليهما سيدريك وتنهد وهو يراهما يتشاجران، خاصة وهو يراقب قلق إستيل من احتمال أن يختفي إيدغار فجأة.
نعم، لطالما كانت تتصرف هكذا مع الجميع بلا تمييز… لكن، رغم معرفتي بذلك لماذا أشعر… هكذا؟
* * *
عندما أخبره الاثنان بنيتهما المبيت لليلة، منحهم العميد بكل ترحيب أحد مباني السكن في الأكاديمية غير المستخدمة. وكما هو متوقع من أكاديمية ممولة بسخاء من مؤسسة ثرية، كانت المرافق ممتازة للغاية. إستيل التي وجدت نفسها تقضي بعض الوقت بمفردها لأول مرة منذ زمن طويل، رمت بنفسها على السرير.
“آه… هذا رائع.”
لكنها لم تكد تنعم بذلك الشعور المريح حتى مدت يدها نحو “مذكرات التجسد الخاصة بالساحرة العظيمة“، التي كانت قد حفظتها بعناية إلى جوار السرير. كانت تقرؤها كلما سنحت لها الفرصة، محاولة استيعاب أكبر قدر ممكن وبأسرع ما يمكن. فاليوميات لم تكن سوى مجلد واحد، وبفضل اجتهادها، كانت الآن على وشك الوصول إلى الصفحة الأخيرة.
يُقال: “اضرب الحديد وهو ساخن“. فربما من الأفضل أن تنهي قراءتها الآن… فركت عينيها المثقلتين بالنعاس وفتحت الدفتر ببطء. وما إن قلبت الصفحة حتى شعرت بأن قلبها هَوَى فجأة في مكانه.
على عكس ما سبق، كانت الكلمات في الصفحة التالية مكتوبة بخط مهتز للغاية.
10 مايو، عام 762
…يجب أن أقتله.
* * *
الفصل 3. ربما أستطيع أن أفهم
كانت فتاة تخرج الكتب المعادة من العربة وتعيدها مكانها مرارًا وكأنها تفحصها، ثم أخذت تنظر بهدوء إلى الفتى الجالس في الطرف البعيد
رغم أن نظراتها كانت حادة تكاد تسلخ العظام لم يكن الفتى يشعر بها، بل ظل جالسًا يقرأ كتابه في هدوء. كانت إيلين تعبث بكتاب بين يديها ثم نفخت على الغبار الذي علق بأصابعها وهي تفكر:
يجب أن أقتله.
لكن… كيف؟
إن قُبض عليها بتهمة القتل فسيكون الأمر كارثيًا. فهناك الكثير من الأشرار الآخرين الذين يجب أن توقفهم أيضًا. لكن بخلاف الرجال الآخرين الذين يكفي منع لقائهم بها، هذا الفتى وحده يجب أن يُقتل. ما لم يُقتل، سيخلق خطرًا مؤكدًا في المستقبل، شخصية شديدة الخطورة لا بد من التخلص منها. ومنذ أن أدركت أنها دخلت إلى داخل هذا العالم الروائي عقدت عزمها على قتله.
شعر الفتى بنظراتها فأدار رأسه نحوها. فأسرعت إيلين في إدارة جسدها وانتزعت كتابًا من العربة وأعادت إدخاله في الرف بشكل عشوائي. لم يكن مكانه الأصلي، لكنها فكّرت: “لا بأس، ربما الكتب أيضًا ترغب أحيانًا في أن توضع في أماكن غير معتادة.”
وفي اللحظة التي كانت تهمّ فيها بدفع العربة بسرعة نحو رفوف أخرى متظاهرة بأن لا شيء قد حدث، شدّ أحدهم طرف عباءتها الخاصة بالأكاديمية من الخلف. وعندما التفتت فوجئت بوجه الفتى على بُعد أنفاس منها فشهقت بخفة.
“وُضع في المكان الخطأ.”
قال الفتى وهو يسحب كتاب علم النباتات الذي كانت قد وضعته في رف الأدب واقترب منها بهدوء ووقف إلى جوارها. ثم أشار بيده وكأنه يدعوها أن تتبعه وصوته يتسلل بهمس عبر الهواء الهادئ:
“قسم علم النباتات ليس هنا بل في الرف المجاور.”
“…آه.”
“لا بأس، أنا أيضًا تهت قليلًا أول مرة جئت فيها إلى المكتبة.”
بعد أن تحقق من رموز الرف المناسب لكتب علم النباتات وأعاد الكتاب إلى مكانه، أمسك بمقبض العربة التي كانت تدفعها وقال:
“رأيت طلابًا كُثُرًا ينفذون عقوبة تنظيف المكتبة، لكن لم أرَ أحدًا بطيئًا مثلك من قبل، فأردت المساعدة.”
ضحك ضحكة خفيفة، وخدّاه لا يزالان ممتلئين بملامح الطفولة. أما إيلين، فبقيت تحدّق فيه بصمت في حالة ذهول مؤقت.
رأسي فوضى… لم أحسب حساب هذا أبدًا.
صغير، بريء، هش… إذا رأى طائرًا جريحًا لأسرع بمداواته وإذا وجد أحدًا لا ينجز عمله بالسرعة الكافية يبادر فورًا لمساعدته، ويعرف كيف يضحك ببراءة أيضًا… طفل حقيقي. لكن لماذا، لماذا هو…؟
مدّ الفتى يده بلطف وأمسك بذراعها المتيبسة بينما كانت تحدّق به بصمت ثم سألها وقد أمال رأسه قليلًا:
“ما الأمر؟“
عندها لم يفهم سبب صمتها، سارع بتبرير نفسه وقد بدا عليه الارتباك:
“آه، آسف! لم أقصد أن ألومك على بطئك. فقط فكّرت أنه إن ساعدتك، فستنتهين بسرعة… كانت نيتي طيبة، صدقيني…”
وكأنه أراد مواساتها، راح يسكب كلمات التطمين، لكن شيئًا منها لم يصل إلى أذنيها. فقط نظرت إلى شعره الفضي الذي يشبه ضوء القمر في منتصف الليل، وإلى عينيه البنفسجيتين اللامعتين كالجواهر.
يا إلهي… كم هو جميل هذا الطفل. بشكل غير معقول.
أمسك الصبي بيديها بكلتا يديه وسأل بعينين لامعتين بفضول:
“أجل، تذكرت… أنت الفتاة التي التقيت بها في الغابة، صحيح؟ ما اسمك؟“
توقفت أنفاسها للحظة. ما هذا اللطف؟ هو لا يعرف حتى كيف يُزهق روحًا، بل يبدو وكأنه لا يستطيع تخيل الفكرة أصلًا. نقي، بريء… هذا ليس ما تخيلته.
“اسمي تريستان بلانشيه. وأنتِ؟“
هيئة ملك الشياطين الذي خططت لقتله… لم تكن هكذا أبدًا.
ترجمة : سنو
انستا : soulyinl
واتباد : punnychanehe
التعليقات لهذا الفصل " 38"